التلقي عند حازم القرطاجني وأثر الفارابي
د. محمد بنلحسن / المركز التربوي الجهوي- فاس- المغرب مقدمة : يتميز الفلاسفة المسلمون عن النقاد العرب في تناولهم لقضية الشعر، وما يتفرع عنها من مباحث متصلة بالماهية والمهمة والأداة بشكل بارز.
ولا شك أن هذا التميز العائد إلى اختلاف بيئة الفلاسفة عن بيئة النقاد، هو الذي دفع الدكتورة ألفت الروبي للقول إننا “إذا أردنا البحث عن نظرية أدبية (تجعل مادتها الشعر) في تراثنا العربي، فإننا نجدها عند الفلاسفة المسلمين لأنهم لم يشغلوا مثل النقاد بتفسير النصوص الأدبية والحكم عليها، وإنما ركزوا جهودهم في تحديد مفاهيمهم وتصوراتهم النظرية للشعر وغايته وأشكاله”(1).
من هنا لا يمكن للباحث الغوص في أبعاد الإنجاز النقدي العربي دون ربطه بإفادات الفلاسفة المسلمين، لاسيما حين يتعلق الأمر بناقد مطلع على تراثهم نظير حازم القرطاجني.
والناظر في إنجازهم كما يتبدى من خلال المنهاج، يلحظ ولا شك أن عمل حازم قريب من وسط الفلاسفة وليس من تراث النقاد.
لذا، لم يتأخر الدكتور سعد مطلوح وهو يدرس نظرية المحاكاة والتخييل عند حازم عن التصريح بأن “السبيل الوحيدة المؤدية إلى فهم الفكر النقدي عند حازم القرطاجني فهما دقيقا هي كتب الفلاسفة؛ الفارابي وابن سينا وابن رشد وليست كتب البلاغيين من أمثال قدامة وعبد القاهر وابن رشيق”(2).
وإذا كان فهم الفكر النقدي لدى حازم مرهونا بقراءة كتب الفلاسفة المسلمين، فإن معرفة مدى إسهام حازم في مجال التلقي، متوقفة لا محالة على بيان رؤية هؤلاء الفلاسفة أنفسهم للتلقي.
لقد أولوه عناية فائقة، لأنه نظروا للشعر “على أنه فرع من فروع المنطق يعد نقطة البدء في تحديد هذا النسق، حيث تحدد بداية مهمة الشعر المعرفية التي تؤهله لها طبيعته الخاصة التي ترتد إلى القوة النفسانية المسؤولة عن إبداعه”(3).
وقارئ المنهاج لا يجد عنتا في استنباط آثار المرجعية الفلسفية الإسلامية في حازم، فبعضها مصرح به علانية، وبعضها الآخر مضمر يستشف من الكلام والخطاب.
وقد نبه على هذه المرجعية محقق الكتاب نفسه، الدكتور الحبيب بن الخوجة حيث أشار إلى اطلاع حازم على التراث الأرسطي من خلال الفارابي وابن سينا: “فحازم من غير شك قد استفاد كثيرا من مطالعته لكتاب فن الشعر للمعلم الأول.. ومما يدل على انفعاله.. بالطريقة الهلينية في نقد الشعر، استشهاده المتكرر في هذا المنهج بنصوص من كلام أرسطو في فن الشعر، اعتمد فيها مرتين تلخيص الفارابي، وأربعة عشر مرة ترجمة ابن سينا في الشفا”(4).
وإذا كان حازم قد صرح باستفادته من الفيلسوفين المسلمين، فإنه قد أغفل ابن رشد، ولم يذكره على الرغم من معاصرته له، وهذا ما جعل الدكتور جابر عصفور يؤكد اطلاع حازم على إنجازات ابن رشد، يقول متسائلا: “لقد اطلع حازم على شروح الفارابي وابن سينا لكتاب الشعر الأرسطي ولست أدري لماذا لم يشر إلى ابن رشد الذي لا أشك في اطلاعه على كتاباته”(5).
ويسوق الدكتور سعد مصلوح تعليلا آخر لتجاهل حازم ابن رشد، يتمثل في أن “ابن رشد أفسد المفاهيم الأرسطية بل زيفها.. في مواضع، ونحل المعلم الأول ما ليس له. وذلك حين بذل محاولة لا تخلو من فجاجة لتطبيق ما فهمه من أرسطو على أمثلة من الشعر العربي لا تتصل من قريب أو بعيد بما ساقها للبرهنة عليه”(6).
ومهما يكن من أمر إغفال ابن رشد من لدن حازم، فالمتأمل في المنهاج يلاحظ ولا شك أن أصداء ابن رشد مقارنة مع الفارابي وابن سينا خاصة، تبدو منعدمة.
فماذا عن أثر الفارابي في حازم القرطاجني؟.
* مظاهر تأثير الفارابي في حازم القرطاجني:
– تصريح حازم القرطاجني بأثر الفارابي:
لقد كفانا حازم عناء البحث عن دلائل التأثر بالفارابي، فقد صرح به في متن مصنفه، واستشهد به مرتين.
يقول حازم في باب ماهية الشعر وحقيقته: “الغرض المقصود بالأقاويل المخيلة أن ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيل له فيه أمر ما من طلب له أو هرب عنه”(7).
لقد أبان حازم اتكاءه على كتاب فن الشعر لأرسطو، ولكنه كما أوضح، لم يتعرفه إلا بواسطة الفلاسفة المسلمين، كما يذكر أعلاه الفارابي.
وهذا النص المستشهد من لدن حازم كما أتى في كتاب الشعر عن طريق الفارابي، يصب مباشرة في مجال التلقي، لأنه يحدد وظيفة الشعر. كما يشير إلى عناصر القول الشعري المتمثلة في التخيل خاصة، ما دام قد وصفه بالقول المخيل.
وتبدو مهمة الأقاويل المخيلة جلية في آثارها المتوقعة في المتلقي، من خلال إنهاض السامع، إما نحو الفعل بطلبه أو بالنفور منه والهرب.
وبعد استشهاد حازم بقول الفارابي المذكور في الصفحة السادسة والثمانين، نراه يتبناه دون أن يحيل على صاحبه في الصفحة السادسة بعد المائة من خلال قوله: “فأما طريق التهدي إلى تحسينات الأشياء وتقبيحاتها بالمحاكاة فإنه لما كان المقصود بالشعر إنهاض النفوس إلى فعل شيء أو طلبه أو اعتقاده أو التخلي عن فعله أو طلبه أو اعتقاده بما يخيل لما فيه من حسن أو قبح وجلالة أو خسة”(8).
كما نجد حازما يكرر القول نفسه في تعريفه للشعر، وإن بألفاظ أخرى لا تبعد عن قول الفارابي، فالشعر عنده “كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له”(9).
والحقيقة أن ما يقال عن أثر أرسطو في حازم، هو نفسه ما يمكن أن يقال عند أثر الفارابي في حازم على اعتبار أن الفارابي كان واسطة بين حازم وأرسطو.
وقد اتبع حازم نص الفارابي السالف بنص آخر، جاء فيه: “ثم قال: “سواء صدق بما يخيل إليه من ذلك أم لا كان الأمر في الحقيقة على ما خيل له أو لم يكن”(10).
استخلص حازم من كلام الفارابي، أن التخييل يكون بما هو حقيقة في الشيء، وقد يكون بما لا حقيقة له. وقد استند حازم على هذا القول ليرتب عليه حكما في المنهاج يتعلق بجواز استعمال الصدق والكذب في الأشياء المخيلة، لأن “الشعر له مواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الصادقة، ومواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الكاذبة”(11).
إن حازما يستمد المشروعية لخطابه النقدي من المعلم الأول على يد الفلاسفة المسلمين، كما يظهر من خلال استناده على أقوال الفارابي، ولكنه لا يظل حبيس هذه الآراء، بل ينطلق بها نحو آفاق أرحب حيث الامتثال لسلطة واحدة، وهي سلطة التلقي أو المتلقي الماثل دوما في الحسبان.
إن حازما يرفض الانصياع للأحكام الجامدة التي تكبل المبدعين وتفرض عليهم نمطا محددا سلفا وتلزمهم الخضوع لقوانينه وانتهاك حرمات المتلقي وحاجاته في التأثر والانفعال بحسب تعدد سياقات الشعر وتنوع المواقف الشعورية.
بيد أن حازما قد أخذ عن الفارابي، كما أخذ عن المعلم الأول بواسطة هذا الفيلسوف المسلم، فكرة وجوب قيام، واضطلاع القول الشعري بوظيفة ومهمة لدى المتلقي، من هنا نهض يدافع عن التخييل باعتباره العنصر المحقق لغرض التلقي.
وحسب الدكتور عصام قصبجي فـ “الفارابي هو أول من ذهب إلى أن أغراض المحاكاة هو أن ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيل له”(12).
وهذا يبين أصالة الفارابي الذي لم يكن مجرد شارح وناقل عن المعلم الأول، ويرى الدكتور عصام قصبجي أن “حازما قد أغرم بهذا القول، فمضى يبدئ فيه ويعيد”(13).
وإجمالاً نشير إلى مظاهر الإتباع عند حازم لتلخيص الفارابي في مجال نقد الشعر وتحديد ماهيته ومهمته كالآتي:
1- الشعر والتخييل:
إن التخييل الذي يعتبر دعامة كبرى في الخطاب النقدي لحازم، أرسى على أساسها مفهوم الشعر ومهمته، وربط ذلك كله بالمتلقي، مرجعه الفارابي، يقول الدكتور شكري عياد: “التخييل كلمة وضعها الفارابي، في أغلب الظن”(14).
وبناء عليه، فإذا كان المعلم الثاني قد اقتبس المحاكاة من أرسطو، فإنه قد اجتهد في إخراج هذا المفهوم، أن التخييل في الشعر لم يرد عند المعلم الأول في كتابه فن الشعر، يقول الدكتور سعد مصلوح مؤكداً هذه الحقيقة: “أما التخييل في الشعر فأمر لم يتعرض له أرسطو في كلامه على فن الشعر”(15).
والمحاكاة أيضا وإن كانت أرسطية المصدر فإن الفارابي أبدع في تطبيقها وصبغها بطابع جهوده الخاصة، يقول الدكتور عباس أرحيله: “والفارابي وإن أخذ مقولة “الفن محاكاة” التي سادت في التفكير القديم عند اليونان فإنه لم يخضع لأفكار أرسطو ولو قيل عنه أنه كان بصدد شرحها”(16).
والحقيقة أن الفارابي وابن سينا أيضا قد قاما بتعريف المحاكاة وهو ما لا نجده عند أرسطو، تقول الدكتور ألفت الروبي: “ومما يستوقف الباحث أن كلا من الفارابي وابن سينا حرص على أن يقدم تعريفا يحدد فيه فهمه للمحاكاة في الوقت الذي لا يقدم فيه أرسطو في أي موضع من كتابه “فن الشعر” تعريفا ما للمحاكاة”(17).
نستخلص مما سبق، أن الفارابي لم يكن مجرد شارح أو ناقل لكلام أرسطو بل عمل على توظيف شخصيته لحظة قراءة ذلك التراث.
من هنا إذا تحدثنا عن أثر الفارابي في حازم أصبح لكلامنا أكثر من مسوغ، على اعتبار أن الفارابي ليس مجترا، وليس نسخة مصغرة من أرسطو، وإذا عدنا إلى موضوع التلقي لنلتمس أثر الفارابي في حازم، ألفينا المعلم الثاني قد أتى فعلا بإضافات هامة في هذا المجال تنم عن إدراك واسع وبعيد من هذا الفيلسوف المسلم لأثر الشعر في النفوس واضطلاعه بوظيفة جليلة لدى المتلقين.
فحسب الدكتور جابر عصفور، الفارابي هو الذي “أقام نظرية على أساس سيكولوجي واضح، يضع في تقديره الدور الهام الذي يقوم به التخيل، ولقد مهد الفارابي بذلك الطريق لمن تلاه من الفلاسفة.. ويوضح لهم الصلة بين الشعر والتخيل”(18).
بناء على ما سلف، فالفارابي هو صاحب مصطلح التخييل، وإن كان لاحقوه من الفلاسفة هم من طور هذا المفهوم.
من هنا ألفينا حازما القرطاجني يحيل على المعلم الثاني- كما مر بنا نصه- لاحقا. ولكن السؤال الذي يطرح هاهنا، ما جوانب الإتباع عند حازم في هذا المصطلح، وما مجالات الابتداع؟.
نشير بداءة إلى أن الفارابي لم يعن بدراسة مصطلحات كتاب الشعر والتفصيل فيها على الرغم من حسه النقدي الواضح في تعليقه على إنجاز أرسطو، يقول في هذا الشأن واصفا عمله في رسالته في قوانين صناعة الشعر: “قصدنا في هذا القول، إلى الوقوف على ما أثبته الحكيم من صناعة الشعر، من غير أن نقصد إلى استيفاء جميع ما يحتاج إليه في هذه الصناعة.. إذ الحكيم لم يكمل القول في صناعة المغالطة فضلا عن القول في صناعة الشعر.. ولورمنا إتمام الصناعة التي لم يرم الحكيم إتمامها- مع فضله وبراعته- لكان ذلك مما لا يليق بنا”(19).
لا شك أن الحس النقدي الظاهر في هذا النص يغنينا عن البحث في موقع الفارابي في إطار عملية الشرح أو التفسير لعمل أرسطو، كما يغنينا عن الخوض في قدرات هذا الفيلسوف المسلم، وهل اتبع أو ابتدع؟.
وقد انتبه إلى هذا البعد الدكتور عباس ارحيلة الذي ترفع عن مأزق معضلة التأثر والتأثير حيث يرى أن “الصلة بين كتاب الشعر ورسالة الفارابي خفيفة إن لم تكن واهية، فلم يكن الفارابي شارحا ولا ملخصا، بل كان يمارس قراءة خاصة للتراث النقدي لدى اليونان.. الفارابي يؤمن بالتفتح قصد الانتفاع، ولكنه لا ينسى انتماءه وخصوصيته”(20).
ولهذه الغاية لم نجد عند الفارابي شرحا أو تلخيصا مطابقا لما هو موجود عند المعلم الأول، ولا ننسى هنا موقع هؤلاء الفلاسفة وهاجسهم الأول الذي لم يكن مثل النقاد والأدباء التفرغ للشعر ونقده والنظر إليه بعيدا عن الرؤيا الفلسفية المنطقية.
بناء على ما سلف، يرى الباحث محمد العمري ويوافقه الدكتور عباس ارحيلة(21)، أن ترجمة هؤلاء الفلاسفة والفارابي في طليعتهم، كانت ترجمة حضارية وليست ترجمة لغوية، يقول في هذا الصدد: “القراءة المناسبة لعمل هؤلاء الملخصين الشراح مطالبة بوضع العمل ضمن التصور الفلسفي العام لهؤلاء الشراح، وخاصة ما يتعلق بالطابع التوفيقي والبعد الإنساني، وبمراعاة هذا البعد، سنكف عن الدعوة إلى المطابقة لأنها كانت مستحيلة، وستبقى الترجمة الحضارية الجيدة مخالفة داخل الاشتراك”(22).
نستخلص في ضوء ما ذكر، أن الفارابي كان خير ممهد للحديث عن أهمية التخييل في الشعر، وقد قدم أطيب العون لمن جاء بعده ليطور هذا المفهوم، لقد “أوضح لهم الصلة بين الشعر والتخيل وكان بفعله ذلك يثري الدراسة النقدية عند العرب.. ثم بدأت كلمة التخيل ومشتقاتها تدخل في دائرة المصطلح النقدي والبلاغي، تقترب منه على استحياء في النصف الثاني من القرن السادس، حتى يصل إلى أقصى درجات القوة والوضوح عند حازم القرطاجني في القرن السابع”(23).
أقصى درجات القوة والوضوح التي ذكرها الدكتور جابر عصفور هي التي تمثل مجال الإبداع لدى حازم القرطاجني. لقد كان الاهتمام الأكبر عند الفارابي هو البرهان شأنه شأن الفلاسفة المسلمين لذا، حسب الدكتور ألفت “جعلوا الشعر أدنى درجات القياس المنطقي وإشرافها على الإطلاق..”(24).
وبناء على هذا التصنيف “كان الشعر مرتبطا ارتباطا وثيقا بالبناء الفلسفي الشامل عندهم بحيث يصعب الفصل بين النظر إلى تصورهم للشعر من زاوية إبداعه أو تأثيره أو طبيعته الخاصة وبين ذلك البناء الفلسفي”(25).
ولاشك أن اختلاف مجال الاختصاص بين حازم والفارابي، هو الذي يميز حازما على حساب الفارابي، فالثاني درس الشعر ومقوماته في إطار نسق فلسفي محدد، فألقى زي الفيلسوف ولبس زي الناقد برهة من الزمن. أما حازم فقد أخضع الفلسفة للنقد فكان ناقدا فيلسوفا، وقد وقف الدكتور سعد مصلوح عند الفروق بين الناقد والفيلسوف ممثلا بعمل حازم، وأرى “أن لا ندحة لنا عن بيان فرق ما بين موقف الفلاسفة وموقف حازم من الشعر العربي، فهم الفيلسوف منصب بالضرورة على شرح قول المعلم الأول أو تلخيصه، أما حازم فهو أديب وشاعر بالأصالة، ومتفقه في علوم العربية وأدبها.. فاتجه إلى التفصيل والتفريع وكان في هذا موفقا إلى حد كبير”(26).
لقد أحس حازم أن مهمته ليست باليسيرة فهي ذات بعدين كبيرين، يتصل الأول منها بالإصلاح حيث الأزمة كشفت تدهورا شاملاً لأوضاع الشعر ونقده وتلقيه، أما البعد الثاني فهو إتمام إنجاز أرسطو الذي لم يقدم على إكماله لا المعلم الثاني ولا الشيخ الرئيس.
لذا، يقول الدكتور علال الغازي “واستمرت أصول الفارابي في فهم التخييل وتوظيفه في الشعر داخل شبكة المؤلفات التي أبدعها ابن سينا وابن رشد، إلى أن عرفت منعطفها النظري الخطير في منهاج حازم”(27).
بناء على ما سلف، فإلى حازم يعود الفضل في إبراز واستعمال مصطلح التخييل داخل نقد الشعر واتخاذه مقوما حاسما للشعر.
إن متتبع “نشاط الفلاسفة المسلمين في تطوير التركيب العظيم الذي قاموا به منذ الفارابي بإبداع التخييل من مصطلح التخيل النفسي ومصطلح المحاكاة الشعري، إلى أن أخضعها فيلسوف البلغاء حازم القرطاجني لنظرية الشعر”(28)، يلاحظ ولا شك أن حازمات هو الذي بلور مصطلح التخييل وجعل منه مفهوما مع المحاكاة يتقوم الشعر من خلاله، وينهض بمهمته السامية لدى المتلقين، وهنا يكمن جانب الابتداع عند حازم.
ولهذه الأسباب يقول الدكتور شكري عياد: “نجد فكرة التخييل والمحاكاة مطبقة أوسع تطبيق عند حازم”(29).
إن حازما ليس بليغا فقط، ولكنه فيلسوف البلغاء وفق رأي الدكتور علال الغازي الذي نراه لا يجانب الصواب.
ومرد هذا التميز إلى كون حازم “استطاع أن يدل على نفسه من خلال منهجه النقدي دلالة فيها جدة وأصالة، وموهبة وإبداع، فلم يكن مجرد ناقل متأثر بالعصور النقدية التي سبقته، والظواهر الأدبية عند العرب واليونان، ولكنه كان فكرا نقديا، أو كان نقدا فكريا فلسفيا”(30).
لقد تفوق حازم على النقاد سابقيه لأنه في نظر الدكتور عباس ارحيله “حاول.. أن يستفيد من التجربة الفلسفية في مجال الإبداع وتحديد مقوماته وقوانين فن القول فيه، أفاد جانب التنظير وجانب المصطلحات الواردة في كتاب الشعر والخطابة الأرسطيين من خلال ما وصل إليه من جهود الفلاسفة المسلمين”(31).
الآن وبعد بيان مجالات الابتداع عند حازم من خلال جهوده في تطوير مفهوم التخييل لابد من الوقوف عند جوانب الإتباع، إنه لا يصح التغافل عن ما أخذه حازم من المعلم الأول على يد المعلم الثاني، وما أخذه عن الفارابي شخصيا، إذا كان هدفنا إبراز حقيقة الإسهام القرطاجني ومدى أصالته.
2- المحاكاة بالفعل والمحاكاة بالقول:
الفارابي
حازم
“فإن محاكاة الأمور قد تكون بفعل وقد تكون بقول”(32).
“فالنفس تنكر.. المحاكاة القولية إذا لم يوال بين أجزاء الصور.. كما تنكر المحاكاة المصنوعة باليد إذا كانت كذلك”(33).
نلاحظ تناظرا بين حازم والفارابي في بيان أنواع المحاكاة وهذه ولا شك فكرة استمدها حازم من الفارابي. ويترتب على الفكرة تشبيه عمل الشاعر بالرسام. ولبيان ذلك نورد هذين النصين للفارابي وحازم حيث يبدو التشابه بينهما واضحا.
3- المحاكي والرسام:
الفارابي
حازم
“إن بين أهل هذه الصناعة (يقصد الشعر) وبين أهل صناعة التزويق مناسبة”(34).
“واعلم أن منزلة حسن اللفظ المحاكي به وإحكام تأليفه من القول المحاكي به ومن المحاكاة بمنزلة عتاقة الأصباغ وحسن تأليف بعضها إلى بعض”(35).
4- المحاكاة المباشرة وغير المباشرة:
الفارابي
حازم
“ويلتمس بالقول المؤلف مما يحاكى الشيء تخييل ذلك الشيء، إما تخييله في نفسه، وإما تخييله في شيء آخر، فيكون القول المحاكي ضربين، ضرب يخيل الشيء نفسه، وضرب يخيل وجود الشيء في شيء آخر”(36).
“تنقسم المحاكاة من جهة ما يخيل الشيء بواسطة أو بغير واسطة قسمين: قسم يخيل لك فيه الشيء نفسه بأوصافه التي تحاكيه وقسم يخيل لك الشيء في غيره”(37).
يكشف لنا نص حازم استفادته الكبيرة من الفارابي في إبراز أنواع المحاكاة والمباشرة منها وغير المباشرة خاصة.
وحسب الدكتورة ألفت الروبي فالفارابي “ينفرد دون الفلاسفة بالحديث عن طريقتين للمحاكاة في الشعر، فهناك المحاكاة… بلا واسطة، وهو ما يمكن أن نسميه بالمحاكاة المباشرة.. وهناك المحاكاة.. بواسطة، وهو ما يمكن أن نسميه بالمحاكاة غير المباشرة”(38).
وقد انتبه الدكتور جابر عصفور لأخذ حازم عن الفارابي في هذا الموضوع بقوله: “هذه الفكرة ينقلها حازم عن الفارابي، ذلك لأن الفارابي يرى أن الشاعر يحاكي الموضوع بأكثر من طريق”(39).
ولعل ما يثبت اقتباس حازم من الفارابي حديثه بعد إيراد النص أعلاه على سبيل التمثيل عن التمثال والمرآة العاكسة له كما فعل الفارابي:
الفارابي
حازم
“وكما أن الإنسان.. ربما فعل تمثالا يحاكي زيدا، وعمل مع ذلك مرآة يرى فيها تمثال زيد، كذلك نحن”(40).
“وكما أن المحاكي باليد قد يمثل صورة الشيء نحتا أو خطا فنعرف المصور بالصورة، وقد يتخذ مرآة يبدي لك بها تمثال تلك الصورة فنعرف المصور أيضا بتمثال الصورة المتشكل في المرآة فكذلك الشاعر”(41).
يظهر أن حازما يجتر كلام الفارابي هنا في بيانه أنواع المحاكاة، وهذا ما يجعل المتأمل في عمل حازم حسب الدكتور عصام قصبجي، يحكم بإتباعية حازم للفارابي وابن سينا، مما يعني تجريده من كل ابتداع، نقول في هذا الصدد: “وقد يقال: إن ما أتى به حازم من أمر المحاكاة… أمر قد قاله من قبل ابن سينا والفارابي وأن حازما نفسه أورد قول الفارابي.. وهذا حق، فيبدو أن حازما كان يحاول شرح مقالة ابن سينا.. والفارابي.. وأن فضله ينحصر في إجادة الشرح والتفسير، دون أن يكون قد أتى بمبدأ جديد”(42).
وذهب نفس المذهب، وإن بنبرة أقل حدة لا تجرد حازما من أصالته، الدكتور جابر عصفور بقوله: “ويتقبل حازم نفس الفكرة التي وضع الفارابي أصولها… وتلك عبارات الفارابي تتكرر بلغة حازم”(43).
وإذا انتقلنا إلى الفرق بين الشعر والخطابة وجدنا تقاربا كبيرا بين الفارابي وحازم بما يوحي أن صاحب المنهاج اقتبس أهم أفكاره من المعلم الثاني:
الفارابي
حازم
“.. وربما غلط كثير من الخطباء.. فيستعمل المحاكاة أزيد مما شأن الخطابة أن تستعمله.. وكثير من الشعراء.. يصنعون الأقاويل المقنعة ويزينونها فيكون ذلك عند كثير من الناس شعرا وإنما هو قول خطبي”(44).
“وينبغي أن تكون الأقاويل المقنعة الواقعة في الشعر، تابعة لأقاويل مخيلة.. وأن تكون المخيلة هي العمدة.. وكذلك الخطابية.. فإن جاوز حد التساوي في كلتيهما.. كان قد أخرج كلتا الصناعتين عن طريقتهما”(45).
لا يحتاج الموقف إذا إلى كبير جهد للبرهنة على استفادة حازم من الفارابي الذي يبدو هنا مبتدعا وغير مقلد، فالفارابي وفق الدكتور عصام قصبجي “لم يكن ترجمان أرسطو فحسب، فلقد أغنى نظرية المحاكاة اليونانية بآراء قيمة لو كان أفاض في شرحها، لكان بلا ريب ناقد العربية الأول”(46).
والفرق الملاحظ في النص أعلاه هو استعمال الفارابي مصطلح المحاكاة بكثرة، أما حازم فنراه يورد مصطلح التخييل وكأننا به يميز بينهما وإن بدا في بعض نصوص المنهاج لا يفرق بينهما.
نخلص في نهاية هذا العرض الموجز لجوانب تأثير الفارابي في حازم القرطاجني، إلى أن الفارابي مارس تأثيره الواضح في حازم القرطاجني، وأن كل سعي لنكران ذلك يعتبر قفزا على الحقائق الناطقة والراسخة في مصنفات الرجلين.
إن الفارابي فيلسوف وناقد له وزنه ومكانته في النقد العربي لا يمكن جحودها أو التغاضي عنها.
صحيح أنه في بعض كلامه ونصوصه لا يخرج عن دائرة الإتباع والنقل عن المعلم الأول، لكنه على الرغم من الوعد الذي أخذه على نفسه بأن لا يكمل ما نقص في عمل أرسطو نظرا لأن ذلك في اعتباره غير لائق به، فقد ساهم في قراءة تراث اليونان، بعين فاحصة، وشخصية حاضرة، أضاف وإن أوجز، وعلق وإن اختصر، لذا نقول إن “جهود فلاسفة الإسلام في قراءة النص المتاح لهم من كتاب الشعر لأرسطو، بالرغم مما يلحق قراءتهم من نقص.. تبقى مع ذلك، جهودا أفادت النقد العربي القديم في مجال الشعر، بما أمدته به من أدوات وصيغ نظرية، نجدها حاضرة، وبقوة، في أنضج الأعمال النقدية العربية القديمة”(47).
وقد اقتصرنا في هذا الإطار على مجالات ابتداع الفارابي وأثره في حازم، دون الانعطاف إلى آثار أرسطو كما تتجلى من خلال الفارابي.
فإذا وقفنا عند تركيز الفارابي على المحاكاة ورفضه الانفراد بالوزن الشعري فقط، وهي فكرة حاضرة مصرح بها في خطاب حازم ومنهاجه، ألفيناها فكرة أرسطية.
ومن مظاهر الإتباع عند حازم للفارابي أيضا، قوله بالمعاني الأول والثواني، حسب الدكتور جابر عصفور(48) الذي يرى أن “تفسير حازم للأوزان من حيث القوة أو اللين أو الاعتدال لا يبعدنا كثيرا عن مفهوم الفارابي للألحان القوية التي تثير انفعالات القوة في النفس”(49).
هذه أمثلة ملموسة تثبت أن حازما نقل من المعلم الثاني كثيرا من الأفكار، وإن لم يشر إليه في منهاجه إلا مرتين، وهذا يبين لنا أن المرجعيات المضمرة في الخطاب النقدي قد تفوق أحيانا المرجعيات المصرح بها.
وأمام هذا التأثر البارز، نتساءل عن سر تقليل الدكتور سعد مصلوح من أهميته في قوله: “وإن شئنا تقويما لترجمة كتاب الشعر وشروحه من حيث تأثيرها في فكر حازم النقدي… لاحظنا أنه تأثر أساسا بابن سينا في معظم أفكاره حول المحاكاة والتخييل الشعري”(50).
وقال أيضا: “وابن سينا هو آثر الفلاسفة عند حازم”(51).
يبدو أن الدكتور سعد مصلوح قد استند إلى استشهادات حازم بابن سينا في منصفه المنهاج، ولم يعر اهتمام للمرجعيات المضمرة، والتي يبدو أن الفارابي يأتي في مقدمة أصحابها بعد المعلم الأول.
وقد انساق هذا الباحث مع منطوق حازم، فذهب إلى أن “ابن سينا هو.. أول فيلسوف من الفلاسفة المسلمين. وصف الشعر بأنه كلام مخيل”(52).
لكن تتبع جذور مصطلح التخييل يوصل الباحث إلى الفارابي ولا شك، كما فعل الدكتور جابر عصفور(53) والدكتور علال الغازي(54)، اللذان لم يغمطا الفارابي حقه.
وبربطنا ما قيل عن أثر الفارابي في حازم القرطاجني في موضوع التلقي، نصل إلى إقرار النتائج الآتية:
لقد سبق حازم من لدن الفارابي في الإشارة إلى فاعلية عنصر التخييل في مجال التلقي.
للفارابي فضل الريادة في إناطة التخييل المستعمل في الشعر، أي في الأقاويل المخيلة، بمهمة استفزاز المتلقي، ودفعه نحو سلوك معين إما بالهروب أو بالطلب.
حازم القرطاجني لم يجد حرجا في أن يدلنا على مصادره في هذا المجال، أشار مستشهدا بالفارابي إلى الغرض المقصود بالأقاويل المخيلة.
ما أتى به حازم في مجال ربط فعل التخييل بآثاره المتوقعة في المتلقي، يعد تطويرا لما سبق إليه من لدن الفارابي.
لحازم ميزة تطبيق هذا المفهوم بعد استقراء الشعر العربي، والسعي إلى استخلاص قوانين للتلقي نابعة من الخصوصية العربية، وهو ما يعتبر استدراكا على إنجاز المعلم الأول نفسه.
لحازم خصوصية المزج بين مصطلح المحاكاة والتخييل، وإنشاء نظرية على أساسهما تجعل المحاكاة وسيلة للتخييل من أجل تحقيق الغرض الأكبر لدى المتلقي، وهو التأثير والتحريك لمقتضى القول.
الإحالات:
نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين، للدكتورة ألفت محمد كمال عبد العزيز، ص 3، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984.
حازم القرطاجني ونظرية المحاكاة والتخييل، ص 50، للدكتور سعد مصلوح، مطبعة دار التأليف، القاهرة، ط1/ 1980.
نظرية الشعر، 4.
مدخل منهاج البلغاء وسراج الأدباء، لأبي الحسن حازم القرطاجني، تقديم وتحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، ص 98، 99 دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط3/ 1986.
مفهوم الشعر (دراسة في التراث النقدي) للدكتور جابر عصفور، ص 138، دار التنوير للطباعة والنشر ط3/ 1983.
حازم القرطاجني ونظرية المحاكاة والتخييل، ص 52.
المنهاج، ص 86.
نفسه، ص 106.
نفسه، ص 71.
نفسه، ص 86.
نفسه، 85.
نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم القديم للدكتور عصام قصبجي، ص 185، دار القلم العربي للطباعة والنشر، ط.1/ 1980.
نفسه.
كتاب أرسطو طاليس في الشع نقل أبي بشر متى بن يونس القناني من السرياني إلى العربي، حققه مع ترجمة حديثة الدكتور شكري محمد عياد، ص 257، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993.
حازم القرطاجني ونظرية المحاكاة والتخييل في الشعر، ص 100، 101.
الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين، للدكتور عباس ارحيلة، ص 375، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، ط.1/ 1999.
“استثناء”
مجموعة قصصية جديدة للكاتب إبراهيم الحجري
صدر عن منشورات مقاربات مجموعة قصصية جديدة للكاتب إبراهيم الحجري تحت عنوان “استثناء” في طبعة أنيقة صمم لوحة غلافها الفنان جمال بوطيب، وأثث كلمات ظهر غلافها كل من الأساتذة ربيعة ريحان، أحمد زيادي، أحمد بوزفور، وعبد اللطيف الفاربي. وتضمنت المجموعة 16 نصا قصصيا، فضلا عن ثلاثين قصة قصيرة جدا.
وبقدر ما تسعى هذه المجموعة، وفق قوالب فنية متجددة ومتعددة، إلى رسم صورة واقع مختل بكل المقاييس وباعث على الغثيان، بقدر ما يتوق فيها الكاتب إلى التقاط اللحظات الصعبة في تاريخ الذات المغربية وهي تطاحن التحولات، وتحترق بالمفارقات الصارخة والساخرة في آن. يقول الدكتور القاص أحمد زيادي عن أجواء المجموعة “وإذا كانت هذه المجموعة تحمل في ثناياها الجديد، وهذا أمر مطلوب في كل عمل مستجد، فإن إلحاح القاص على الاستمرار، على نسق معين من إثارة قضايا بعينها، وأسلوب محدد في معالجتها، إنما هو عنوان لركود في عوامل التغير والتطور، وجمود في أسباب التحول والتبدل، ودوام الحال على ما هو عليه، وبقاء ما كان على ما كان، على الأقل طيلة عمر هذه التجربة”. كما أن القاصة المغربية ربيعة ريحان تؤكد على الطابع الحكائي اللصيق بالذات وبالواقع عبر المجموعة بقولها “هذه مجموعة قصصية، مثقلة بأجواء الهم اليومي، حيث انسداد آفاق الحياة الكريمة، والأمن الاجتماعي. سياق من التوترات والمعاناة والوقائع والعلاقات المغموسة بلوعة الزمن والأيام، تتشابك في وجهها الآخر، بالرغبة في الانعتاق من واقعها الفاسد. قسوة هذه المجموعة من قسوة الواقع وضغوطاته لأن كاتبها ينتمي إلى جيل من صلب هذا الواقع وإحباطاته وفجائعه وتشابكاته ونزقه ومتاهاته وامانيه. وحين يعيد إبراهيم الحجري صياغة ذلك فنيا، دون تزييف، يكون أقرب إلى نبض اليومي ووجعه، حاملا بذلك نصيبه من الألم”. أما القاص أحمد بوزفور، فيشير إلى الحضور الغريب للثقافة الشعبية والفلكلور في المجموعة من غير أن يكون ذلك توثيقاً، بل إعادة خلق صور جديدة لما تراه الذات وفق المنظور الإبداعي “وربما كان أهم ما يلفت الانتباه لأول وهلة في المجموعة هو موضوعاتها الاجتماعية الساخنة واستبصاراتها الناقدة في الواقع الشعبي المغربي الراهن”.
وللذكر فهذه المجموعة هي الإصدار الرابع للكاتب إبراهيم الحجري بعد “أبواب موصدة” (قصص- 2000)، “أسارير الوجع العشيق” (شعر- 2006)، “آفاق التجريب في القصيدة المغربية الجديدة (نقد- 2007)، فضلا عن مجموعة من الإصدارات المشتركة في مجال الإبداع والنقد.