الرقية الشرعية مكتوبة مختصرة . تحدثنا بشكل عام عن الرقية الشرعية وعن رقية العين والحسد في هذا الموضوع : رقية العين والحسد قوية جدا مكتوبة . واليوم نقدم لك عزيزي القارء الرقية الشرعية مكتوبة ومختصرة يسهل عليك أن تقرأها وترقي بها بفضل الله . ويجب أن ننوه على أن الرقي الشرعية ما هي إلا طمئنينة نفسية للمريض والشفاء طبعا بيد الله ثم بيد الأطباء النفسيين وليس معني الشعور بالارتياح من الرقية الشرعية وحدها أن نترك العلاج والفحص الطبي السليم للحالات .
الرقية الشرعية في اللغة:
قيل: هو العُوذة. قال الأزهري: “رقى الراقي رقية ورقياً, إذا عوذ ونفث في عوذته”([1]), وقال ابن الأثير: الرقية بالضم “العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة؛ كالحمى والصرع, وغير ذلك من الآفات”([2]).
هنا فسرت بالعوذة, والعوذة بالرقية. وقيل: إن الرقية هي العزيمة. قال الجوهري: ” العزائم هي الرقى”([3]). وقال ابن فارس: “عزمت على الجني: وذلك أن تقرأ عليه من عزائم القرآن, وهي الآيات التي يرجى بها قطع الآفة عن الموؤوف”([4])؛ أي: المريض. وقال ابن منظور: “العزائم هي الرقى, وعزم الراقي كأنه أقسم على الداء”([5]), وقال الفيروز أبادي: العزائم؛ أي الرقى. وهي آيات من القرآن تقرأ على ذوي الآفات رجاء البرء”([6]).
الرقية شرعاً:
لا يختلف معنى الرقية في الشرع عن المعنى اللغوي؛ إذ الرقية هي العوذة في اللغة؛ أي: الملتجأ ([7]) فالمرقي يلتجئ إلى الرقية لكي يُشفى مما أصابه, وسواءً تلك الرقية كانت مشروعة أو ممنوعة هذا في اللغة, أما في الشرع فالمراد بالرقية المشروعة: هي ما كان من الأدعية المشروعة أو الآيات القرآنية([8]).
ومن تعاريفها عند العلماء:
قال بعضهم: الرقية في الشرع: هي العُوذة -بضم العين- أي: ما يُرقى به من الدعاء لطلب الشفاء([9]), وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ” الرقى بمعنى التعويذ، والاسترقاء طلب الرقية, وهو من أنواع الدعاء”([10]). والرقى في الحقيقة دعاء وتوسل يطلب فيها من الله شفاء المريض وذهاب العلة من بدنه([11]).
فيديوهات الرقية الشرعية مكتوبة ومختصرة
حكم التداوي من الأمراض
- اتفق الفقهاء على إباحة التداوي في الجملة([12]) إلا ما كان من بعض غلاة الصوفية([13]) الذين حرموا التداوي بحجج واهية أبرزها أن في التداوي محاولة لدفع قدر الله وقدر الله لا يرد, وقد اعترض على أدلة هؤلاء بحديث أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب: يارسول الله ألا نتداوى ؟ قال: نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً إلا داءً واحداً..”([14]). قال العيني: “فيه إباحة التداوي وجواز الطب وهو رد على الصوفية أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء ولا يجوز له مداواته وهو خلاف ما أباحه الشارع([15]) أ.هـ.
- كما اعترض عليهم بأن العلماء احتجوا بالأحاديث الصحيحة التي تدل على جواز التطبب, وهم يعتقدون بأن الله تعالى هو الفاعل, وأن التداوي هو أيضاً من قدر الله, وهذا كالأمر بالدعاء، وكالأمر بقتال الكفار وبالتحصن ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة, مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتأخر ولا تتقدم عن أوقاتها ولابد من وقوع المقدرات([16]).
ثم إن العلماء بعد ذلك اختلفوا في حكم التداوي بالتفصيل على ثلاثة أقوال:
- القول الأول: استحباب التداوي, وهو مذهب الشافعية([17]), وبه قال القاضي أبو يعلى وابن عقيل, وابن الجوزي من الحنابلة([18]). وذكر النووي أنه مذهب جمهور السلف وعامة الخلف([19]).
- القول الثاني: وجوب التداوي, قال به بعض الحنابلة ([20]), في حين قيده الحنفية بما إن كان يخشى الموت بتركه ([21]), وكذا المالكية إن خاف هلاك أو شديد أذى([22]), والشافعية بما إذا كان به نحو جرح يظن فيه التلف لو ترك معالجته([23]).
- القول الثالث: جواز التداوي, وهو على قسمين:
- الأول: إباحته مطلقاً, وهو قول الحنفية والمالكية:
قال في تبيين الحقائق: “لا جناح على من تداوى إذا كان يرى أن الشافي هو الله دون الدواء، وأن الدواء جعله سبباً لذلك, والمعافي في الحقيقة هو الله تعالى عند ذلك”([24]). وقال في الهداية: “ولا بأس بالحقنة -يريد به التداوي- لأن التداوي مباح بالإجماع”([25]). وقال في المنتقى: “ويجوز التداوي سواءً كان التداوي في ظاهر الجسد كوضع دواء على جرح, وباطناً كسفوف وشربة لوجع البطن”([26]). - والثاني: جوازه إلا أن تركه أفضل اتكالاً على الله([27]), وهو المنصوص عن أحمد ([28]) واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية([29]), وذكر ابن جزي أن أكثر الصوفية عليه([30]).
أدلة الفريق الأول: (استحباب التداوي): وردت أحاديث كثيرة تعضد قولهم, منها:
- 1) حديث جابر t عن النبي r قال: “لكل داء دواء,, فإذا أصيب دواءٍ الداء برأ بإذن الله عز وجل “([31]).
- 2) حديث جابر كذلك عن النبي r: “إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار, قال النبي r: وما أحب أن أكتوي”([32]).
- 3) حديث أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب: يا رسول الله ألا نتداوى ؟ قال: “نعم يا عباد الله تداووا, فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاء إلا داءً واحداً.. الهرم”([33]).
- 4) حديث أبي هريرة t عن النبي r: “في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام([34])، وفي رواية الترمذي: “عليكم بهذه الحبة السوداء”([35]).
- 5) سئل سهل بن سعد t بأي شيء دووي جرح النبي r فقال: ما بقي أحد اعلم به مني، كان عليّ يجيء بترسه فيه ماء وفاطمة تغسل عن وجهه الدم, فأخذُ حصير فأحرق فحشى به جرحه([36]). قال ابن بطال: قد زعم أهل الطب أن الحصير كلها إذا أحرقت تبطل زيادة الدم, بل الرماد كله كذلك, لأن الرماد من شانه القبض, ولهذاترجم البخاري لهذا الحديث “التداوي بالرماد”([37])
- 6) حديث أنس t أن النبي r كوى أسعد بن زرارة t من الشوكة([38])([39]), وكوى النبي r أبياً، لما رمي يوم الأحزاب([40])، كما كوى سعد بن معاذ لما رمي في أكحله([41]).
- 7) حديث أم قيس بنت محصن عن النبي r: “عليكن بهذا العود الهندي([42]), إن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب([43]), يسعط من العذرة([44]). ويلد من ذات الجنب([45]). قال النووي: قال القاضي: في هذه الأحاديث جمل من علوم الدين والدنيا وصحة علوم الطب وجواز التطبب في الجملة واستحبابه بالأمور المذكورة في هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم”([46]).
- 8) أن في قول النبي r لكل داء دواء, تقوية لنفس المريض والطبيب, وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه, فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله, تعلق قلبه بروح الرجاء ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية, وكان ذلك سبباً لقوة الأرواح الحيوانية النفسانية والطبيعية, ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها فقهرت المرض ودفعته, وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه”([47]). وقد اعترض على هذا القول بأنه منافٍ للتوكل, وأن النبي r إنما فعله ليسن لغيره, وإلا فحال الضعفاء ودرجة الأقوياء توجب التوكل بترك الدواء([48]).
فيجاب عن ذلك: بأنه يلزم أن نقول إن ترك الحية أو العقرب لتلدغ الإنسان من التوكل كذلك, إذ لا فرق بين ترك الدم بلوغ الباطن دون حجامة أو فصد تداويها وبين ترك الحية أو العقرب تلدغ الظاهر, كما يلزم أن نقول أن لا يزال لدغ العطش بالماء, ولا لدغ الجوع بالخبز ولدغ البرد بلبس الجبة, وهذا لا قائل به, إذ كل ذلك مسببات رتبها سبحانه وتعالى وأجرى بها سنته ([49]), فاستحب للمرء الأخذ بهذه المسببات ولا ينافي ذلك التوكل في شيء.
قال ابن القيم: في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها, بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً,وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه, ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب, وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع([50]).
أدلة الفريق الثاني: (وجوب التداوي):
- قوله تعالى ] وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة[([51])، وقوله ]وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا[ ([52])، فهاتان الآيتان نهى الله تعالى فيهما عن قتل النفس أو الإلقاء بها إلى الهلكة, والتداوي إن عُلم أن فيه شفاء للمرض فإن تركه يُعد قتلاً للنفس وإهلاكاً لها, فيكون منهياً عنه, وإذا كان حفظ النفس واجباً, فإن التداوي الذي يحصل به حفظ النفس المريضة يكون واجباً كذلك([53]).
- واعترض على هذا الدليل بأن هاتين الآيتين ليس فيهما حجة لهم إلا إذا كان في ترك التداوي إلقاء بالنفس إلى التهلكة, وليس كل مرض يترتب على ترك التداوي منه ذلك([54]).
- حديث أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب: يا رسول الله ألا نتداوى ؟ قال: نعم ياعباد الله تداووا, فإن الله لم يضع داءً إلا وضع فيه له شفاء إلا داء واحداً.. الهرم([55]), فالنبي r أمر في الحديث بالتداوي, والأمر المطلق يفيد الوجوب ما لم يصرفه صارف.
- واعترض بما ورد عن أكابر الصحابة من تركهم للتداوي مع حاجتهم إليه كأبي بكر وأبي الدرداء وأبي ذر([56]), ولو كان التداوي واجباً ما وسع هؤلاء الصحابة الأفاضل تركه.
- كما يعترض عليهم بقصة المرأة السوداء التي كانت تصرع وتتكشف فطلبت من النبي r أن يدعو لها, فقال: “إن شئت صبرت ولك الجنة, وإن شئت دعوت الله يعافيك, فصبرت([57]), قال ابن حجر في الفتح: ” فيه دليل على جواز ترك التداوي”([58]).
- أن الدواء إذا كان مقطوعاً بنفعه فإنه بمثابة أكل الميتة للمضطر وإساغة اللقمة بالخمر([59]), واعترض بأن قياس التداوي على أكل المضطر للميتة أو شرب الغص باللقمة للخمر هو قياس مع الفارق, وذلك لأن فائدة أكل الميتة للمضطر وشرب الخمر لإزالة الغصة مقطوع بنفعهما, بخلاف التداوي فإنه قد يفيد وقد لا يفيد فلا يقطع بنفعه فيه([60]).
- بحديث ابن عباس في المرأة السوداء الآنف الذكر, ووجه الدلالة أن المرأة خيرت, فاختارت البلاء والجنة, ولو كان رفع المرض واجباً لم يكن للتخيير موضع, وليس ذلك مثل الأكل من الميتة؛ فهو عند الضرورة واجب, فإذا اضطر إلى الميتة ولم يأكل منها فمات دخل النار فلا مجال للتخيير هنا ([61]).
- إن كثيراً من المرضى يشفون بلا تداوٍ لاسيما في أهل الوبر والقرى, والساكنين في نواحي الأرض يشفيهم الله بما خلق فيهم من القوى المطبوعة في أبدانهم الرافعة للمرض وفيما يسره لهم من نوع حركة وعمل أو دعوة مستجابة, أو رقية نافعة أو قوة للقلب وحسن التوكل، إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة غير الدواء, وأما الأكل فهو ضروري ولم يجعل الله أبدان الحيوان تقوم إلا بالغذاء, فلو لم يكن يأكل لمات, فثبت بهذا أن التداوي ليس من الضرورة في شيء([62]).
- أنه قد كان من خيار هذه الأمة وعلمائها قوم يصبرون على الأمراض حتى يكشفها الله، ومعهم الأطباء, فلم يعابوا بترك المعالجة, ولو كانت المعالجة سنة من السنن الواجبة لكان الذم قد لحق من ترك الاسترقاء والتداوي, وهذا لا نعلم أحداً قاله, ولكان أهل البادية والمواضع النائية عن الأطباء قد دخل عليهم النقص في دينهم لتركهم ذلك, وإنما التداوي ـ والله أعلم ـإباحة لميل النفوس إليه وسكونها نحوه, لا أنه سنة, ولا أنه واجب, ولا أن العلم بذلك علم موثوق به لا يخالف, بل هو خطر وتجربة موقوفة على القدر([63]).
فأما القسم الأول وهو القائل بجواز التداوي مطلقاً, فاستدلوا بما يلي:
- 1- حديث جابر tعن النبي r قال: ” لكل داء دواء, فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل”([64]).
- 2- حديث أبي هريرة t عن النبي r:” في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام”([65]).
- 3- عن علي بن عبيد الله عن جدته سلمى وكانت تخدم النبي r قالت ما يكون برسول الله r قرحة ولا نكبة إلا أمرني النبي r أن أضع عليها الحناء”([66]).
- 4- عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي r قال: “الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم, وكية نار, وأنهى أمتي عن الكي”([67]).
- 5- عن أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب: يا رسول الله ألا نتداوى؟, قال: نعم يا عباد الله تداووا, فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاء إلا داء واحداً.. الهرم”([68]).
وغير هذه الأحاديث الدالة على جواز التداوي ” قال في فتح الودود: الظاهر أن الأمر للإباحة والرخصة, وهو الذي يقتضيه المقام, فإن السؤال في حديث أسامة بن شريك كان عن الإباحة قطعاً, فالمتبادر في جوابه أنه لا بيان للإباحة”([69]). وقال الخطاني: في هذا الحديث إثبات الطب والعلاج وأن التداوي مباح غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس”([70]).
وقال ابن عبد البر:” ذهب بعض أهل العلم إلى إباحة الاسترقاء والمعالجة والتداوي, وقالوا: إن من سنة المسلمين التي يجب عليهم لزومها لروايتهم لها عن النبي r الفزع إلى الله عند الأمر يعرض لهم, وعند نزول البلاء بهم في التعوذ بالله من كل شر, وإلى الاسترقاء, وقراءة القرآن والذكر والدعاء “([71]).
وأما القسم الثاني القائل بأن تركه أفضل فقد استدلوا بما يلي:
- حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي r في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: ” هم الذين لا يسترقون, ولا يتطيرون, ولا يكتوون, وعلى ربهم يتوكلون “([72]).
ويجاب عن حديث ابن عباس بما قال الخطابي: “قد رقى النبي r وأمر بها, فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله تعالى فهي مباحة, وإنما جاءت الكراهة منها لما كان بغير لسان العرب”([73]). فإنه ربما كان كفراً أو قولاً يدخله الشرك, قال: ويحتمل أن يكون الذي كره من الرقية ما كان منها على مذاهب الجاهلية في العوذ التي كانوا يتعاطونها ويزعمون أنها تدفع عنهم الآفات ويعتقدون أنها من قبل الجن ومعونتهم”([74]), وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الزيادة وهم من الراوي, لم يقل النبي r “ولا يرقون” وقد قال النبي r “من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه”([75]) “([76]), كما يقال إن ما جاء في بعض الروايات أنهم: “الذين لا يرقون”غلط؛ وهو لفظ شاذ, لأن الراقي محسن إلى غيره([77]), وأما ما جاء في الاسترقاء وهو طلب الرقية فكراهيته” لأن الناس في شأن الرقية تتعلق قلوبهم بها جداً أكثر من تعلقهم بالطب ونحوه, فالعرب في الجاهلية -وهكذا هو حال أكثر الناس- لهم تعلق بالرقية, فالقلب يتعلق بالراقي ويتعلق بالرقية؛ وهذا ينافي كمال التوكل على الله تعالى([78]).
قال الداودي: المراد بالحديث الذي يفعلونه في الصحة, فإنه يكره لمن ليست به علة أن يتخذ التمائم([79]) ويستعمل الرقى, وأما من يستعمل ذلك ممن به مرض فهو جائز([80]),
- ما ورد عن أكابر الصحابة من تركهم التداوي مع حاجتهم إليه كأبي بكر وأبي الدرداء وأبي ذر([81]).
أجيب: أن ما استدلوا به من آثار الصحابة لا حجة فيها, وذلك لأنها معارضة بمثلها, وإذا تعارضت الآثار المروية عنهم تساقطت فلا يحتج ببعضها دون البعض الآخر ([82]), وقد ورد أن النبي r كانت مولاته سلمى تداويه بالحناء, وأنه r داوى جرحه في أحد بحصير محروق, وأن بعض الصحابة اكتووا, منهم أسعد بن زرارة وأبي بن كعب وسعد بن معاذ, إضافة إلى الآثار الواردة عن النبي r والتي أمر فيها بالتداوي.
كما قد يقال أنه يحتمل أن هؤلاء الصحابة قد جربوا التداوي فلم يفدهم, لذا لم يرغبوا به كما في أثر أبي الدرداء لما سئل عن الطبيب, قال: هو أضجعني([83]).
- حديث المغيرة بن شعبة عن النبي r من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل([84]). ويجاب عن ذلك: أن النهي عن الكي فهو أن يكتوي طلباً للشفاء, وكانوا يعتقدون أنه متى لم يكتو هلك, فنهاهم عنه لأجل هذه النية([85]), والاكتواء قد كرهه النبي r لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم, ولهذا كانت العرب تقول في أمثالها: آخر الدواء الكي([86]), والعرب تعتقد أن الكي يحدث المقصود دائماً فلهذا تتعلق قلوبهم بالكي, ومعلوم أن الكي يؤثر بإذن الله عز وجل إذا اجتمعت الأسباب وانتفت الموانع, فكان النهي عن الكي لأجل أن في الكي خصوصية ما يتعلق به الناس من أجله ([87])؛ فكان تركه تحقيقاً للتوحيد, وكمال توكل على الله تعالى وإلا فقد كوى النبي r أسعد ابن زرارة([88]).
وأما الاسترقاء وهو طلب الرقية فكراهيته ” لأن الناس في شأن الرقية تتعلق قلوبهم جداً, أكثر من تعلقهم بالطب ونحوه, فالعرب في الجاهلية -وهكذا هو حال أكثر الناس- لهم تعلق بالرقية, فالقلب يتعلق بالراقي ويتعلق بالرقية؛ وهذا ينافي كمال التوكل على الله تعالى([89]).
- أن كثيراً من المرضى يشفيهم الله بما خلق فيهم من القوى المطبوعة في أبدانهم الرافعة للمرض وفيما يسره لهم من نوع حركة وعمل أو دعوة مستجابة, أو رقية نافعة أو قوة للقلب وحسن التوكل, وأما الأكل فهو ضروري فلو لم يأكل الإنسان لمات, فثبت بهذا أن التداوي ليس من الضرورة في شيء([90]).
ويجاب عن ذلك: كل ذلك أسباب رتبها سبحانه وتعالى وأجرى بها سننه([91]), فاستحب للمرء الأخذ بهذه الأسباب ولا ينافي ذلك التوكل في شيء كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب.
ويستدل لذلك بقصة عمر بن الخطاب t لما اتجه وجماعة من أصحابه إلى بلاد الشام حتى إذا وصلوا إلى سرغ ([92]) لقيه أمراء الأجناد فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام فاستشار عمر أصحابه، فاختلفوا, فأشار بعضهم بالمضي وعدم الرجوع, وأشار الآخرون بالتوقف لئلا يورد أصحاب النبي r الوباء, فلما أخذ برأي الآخرين أنكر عليه بعض الصحابة: فراراً من قدر الله ؟ فقال عمر: نعم, نفر من قدر الله إلى قدر الله, ثم إن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عن الجميع- أخبره أنه سمع النبي r يقول: “إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه, وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه”([93]).
الترجيح:
- 1- إن ما عُلم, أو غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه فهو واجب, لأنه إذا كان حفظ النفس واجباً, فإن التداوي الذي يحصل به حفظ النفس المريضة يكون واجباً كذلك([94])، كما هو الحال في بتر العضو المصاب بالغرغرينا في المراحل المتأخرة منه حيث يغلب على الظن الانتفاع بهذا البتر وأنه لو لم يفعل لأدت إلى هلاك المريض.
- 2- إن ما غلب على الظن نفعه, ولكن ليس هناك هلاك محقق بتركه فالتداوي أفضل للأدلة المذكورة, ولحرص النبي r على المداواة مما يصيبه من الأعراض حتى آخر عمره, ووصفه r لكثير من الأدوية الناجعة في علاج الأمراض كما قال في الحجامة: ” إن فيه شفاء”([95]), وكوى النبي r أبي بن كعب لما رمي يوم الأحزاب([96]), كما كوى سعد بن معاذ لما رمي في أكحله([97]) ووصف الإبراد بالماء لمن كان به حمى([98])، ووصف العود النهدي لأن فيه سبعة أشفية([99]), وغير ذلك من الأحاديث.
- 3- إن ما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل؛ لئلا يلقي بنفسه إلى التهلكة من حيث لا يشعر([100]).
ولو قال قائل بأن التداوي ليس له حكم واحد، بل له أحكام بحسب الأشخاص والأحوال: فتارة يكون واجباً, وتارة يكون مستحباً, وتارة يكون مباحاً, وتارة يكون مكروهاً, وتارة يكون محرماً([101]) ؛ لكان أولى بالصواب وبيانه على النحو الآتي:
– يكون واجباً: إذا كان في ترك التداوي إلحاق ضرر بالمريض؛ كذهاب نفسه, أو تلف عضو فيه, أو إلحاق ضرر بغيره من الأمراض المعدية ونحو ذلك, بحيث يغلب على الظن زوال الضرر بالتداوي.
– ويكون مستحباً: إذا لم يترتب على تركه ضرر عليه ولا على غيره, وإنما يترتب على تركه بعض المفاسد, أو تفويت بعض المصالح, ويغلب على الظن الانتفاع بالعلاج المباح.
– ويكون مباحاً: إذا لم يترتب على ترك الدواء أو تناوله وقوع ضرر أو مفاسد, أو تفويت مصالح, أو كان المرض مضراً إلا أن التداوي غير مرجو النفع, وليس في تناوله ضرر أو مضاعفات كأمراض الشيخوخة, أو الحالات الميؤوس منها.
– ويكون محرماً: إذا كان بما نهى عنه الشرع؛ كالخمر, والرقية الشركية, وأصوات الموسيقى، والنظر إلى الحرام, وكشف العورة من غير حاجة, أو غلب على الظن أن تعاطي الدواء ضرره أكثر من نفعه, والضرر بالغ؛ كهلاك النفس, أو تلف العضو, ونحو ذلك([102]).
– ويكون التداوي مكروهاً: إذا كانت مفاسدة أكثر من مصالحه, ولم تبلغ هذه المفاسد درجة الضرر من هلاك النفس أو العضو.
ومن أمثلته: التساهل في تناول بعض المسكنات والمهدئات التي تسبب المضاعفات, أو كان في تعاطيها بذل أموال المريض أو أهله دون فائدة([103]).
الرقية الشرعية مكتوبة مختصرة :
– ايات الرقية من السحر قوية جدا مكتوبة :
– آيات الرقية للحرق والعذاب قوية جدا مكتوبة .
– ايات الشفاء من العين والحفظ من الحسد قوية جدا ومكتوبة .
حكم الرقية ومشروعيتها
ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الرقية, وأن النهي عنها قد نسخ. وممن صرح به: الطحاوي([104])، والحازمي([105])، وأبو حامد الرازي([106])، وأبو إسحاق الجعبري([107]).
دليل من قال بالنسخ:
أولاً: عن زينب امرأة عبد الله, عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله r يقول: “إن الرقى والتمائم والتولة([108])، شرك “قالت: قلت: لم تقول هذا ؟ والله لقد كانت عيني تقذف, فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني فإذا رقاني سكنت, فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان, كان ينخسها([109]) بيده, فإذا رقاها كف عنها, إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله r يقول: “أذهب البأس رب الناس, اشف أنت الشافي, لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سَقَماً”([110]).
ثانياً: عن جابرt قال: كان لي خال يرقي من العقرب, فنهى رسول الله r عن الرقى، قال: فأتاه فقال: يا رسول الله, إنك نهيت عن الرقى, وأنا أرقي من العقرب, فقال: “من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل”([111]). وفي رواية عنه t قال: نهي رسول الله عن الرقى, فجاء آل عمرو بن حزم, إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله إنه كانت رقية نرقي بها من العقرب, وإنك نهيت عن الرقى, قال: فعرضوها عليه, فقال: “ما أرى بأساً, من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه “([112]).
ثالثاً: عن جابر t يقول: (أرخص النبي r في رقية الحية لبني عمرو) ([113]).
رابعاً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (رخص رسول الله r لأهل بيت من الأنصار في الرقية من كل ذي حمة([114])) ([115]).
خامساً: عن أنس t قال: (رخص رسول الله r في الرقية من العين, والحُمة([116]), والنملة ([117])،)([118]).
سادساً: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله r إذا اشتكى منا إنسان، مسحة بيمينه, ثم قال: ” أذهب البأس رب الناس, واشف أنت الشافي, لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً”([119]). وفي رواية عنها رضي الله عنها أن رسول الله r كان إذا أتى مريضاً أو أُتي به إليه, قال عليه الصلاة والسلام: “أذهب البأس رب الناس, اشف أنت الشافي, لا شفاء إلا شفاؤك, شفاءً لا يغادر سقماً”([120]).
ويستدل منها على النسخ: بأن حديث ابن مسعود t فيه أن الرقية شرك, فهو يدل على النهي عن الرقية, وحديث جابرt صريح في أن النبي r كان نهى عن الرقية. والأحاديث الباقية تدل على أن النبي r رقى, وأمر بالرقية, وقال: (لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك), فدل ذلك على جواز الرقية. فتكون الأحاديث الدالة على جواز الرقية ناسخة للأحاديث الناهية عنها؛ لتأخر ما يدل على الجواز على ما يدل على النهي؛ حيث جاء في حديث عائشة, وأنس، وجابر رضي الله عنهم أن النبي r رخص في الرقية, والرخصة تكون بعد النهي. كما أن في بعض أحاديث جابر t الإذن بالرقية بعد النهي عنها. فثبت بذلك تأخر أحاديث الجواز على الناهية, والمتأخر يكون ناسخاً للمتقدم([122]).
واعترض عليه: بأن نهي النبي r عن الرقية يحتمل أنه كان عن الرقية التي فيها شرك, ولم يكن عن مطلق الرقية, فعن الزهري قال: قدم رسول الله r المدينة, وهم يرقون رقى يخالطها الشرك, فنهى عن الرقى, فلُدغ رجل من أصحابه لدغته حية, فقال النبي r: “هل من راقٍ يرقية؟, فقال رجل: إني كنت أرقي برقية فلما نهيت عن الرقى تركتها: قال: “فأعرضها عليّ” فعرضها عليه فلم ير بها بأساً, فأمره فرقاه”([123]).
وفي رواية عنه قال: بلغني عن رجل من أهل العلم أن النبي r نهى عن الرقى حين قدم المدينة, وكانت الرقى في ذلك الزمان فيها كثير من كلام الشرك, فانتهى الناس, فبينا هم على ذلك لدغت رجلاً من الأنصار حية, فقال: (التمسوا راقيها) فقيل له: إنه كان آل حزم يرقون منها، حتى نهيت عنها, فقال: “ادعوا لي عمارة بن حزم([124]) “, فقال: “اعرض عليّ رقيتك” فعرض عليه فلم ير بها بأساً, فأذن لهم وقال: “من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل”([125]).
وإذا كان النهي عن الرقية التي فيها شرك فقط, فلا يكون في المسألة نسخ؛ لأن النهي عنه باق تحمل الأحاديث الناهية عن الرقية على التي فيها شرك, وما يدل على جوازها على الرقية التي ليس فيها شرك”([126]).
وأجيب عنه: بأن ما روي عن الزهري ليس فيه أن النهي كان عن الرقية التي كان فيها الشرك فقط, بل يدل كذلك على أن النهي كان عن مطلق الرقية؛ إذ لو كان النهي عن الرقية الشركية فقط لم يكن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ينتهون عنها مطلقاً.
هذا كان قول من قال بالنسخ, ودليله.
هذا وقد ذهب جمهور: أهل العلم ومنهم أهل المذاهب الأربعة, إلى جواز الرقية ما لم يكن فيها شرك, ولم يعتقد أنها تؤثر بذاتها, وكانت بكلام معروف([127]).
وذلك لأحاديث كثيرة صحيحة, قولية وفعلية, تدل على جوازها, وقد سبق بعضها في دليل القول بالنسخ ([128]). ويضاف إليها ما يلي:
1- قوله تعالى ] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [ ([129]).
وجه الدلالة: القرآن الكريم شفاء للإنسان من جهتين: من جهة القلب فهو يشفيه من الجهل والريب والضلال, لما فيه من العلم اليقيني والحكمة, ومن جهة البدن فهو يشفيه من الأمراض التي تصيبه لما فيه من البركة([130]).
والأدلة على جواز الرقية الخالية من الشرك كثيرة, ومن ذلك:
- 1- ما جاء من نفث النبي r على نفسه وعلى غيره بالمعوذات وسورة الإخلاص.
- فعن عائشة رضي الله عنهما أن رسول الله r كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده, فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه, طفقت أنفذ على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي r عنه”([131]), ولقد كان r يفعل ذلك أيضاً إذا آوى إلى فراشه كل ليلة. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله r إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات, فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي([132]).
- 2ـ ما روته أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي r رأى في بيتها جارية في وجهها سعفة, فقال: استرقوا لها فإن بها النظرة “([133]).
- 3- ما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله r كان إذا أتى مريضاً, أو أُتي به قال ” أذهب البأس رب الناس اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً) ([134]). وفي رواية قالت: كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: ” اللهم رب الناس أذهب البأس اشفه وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً “([135]). وفي رواية قالت: كان رسول الله r إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: ” اذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً). فلما مرض رسول الله r وثقل, أخذت بيده لأصنع به نحو ما كان يصنع, فانتزع يده من يدي ثم قال (اللهم اغفر لي واجعلني مع الرفيق الأعلى). قالت فذهبت أنظر, فإذا هو قد قضى) ([136]).
- 4- ما رواه أبو سعيد الخدري t قال: انطلق نفر من أصحاب النبي r في سفرة سافروها, حتى نزلوا على حي من أحياء العرب, فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم, فلدغ سيد ذلك الحي, فسعوا له بكل شيء, لا ينفعه شيء, فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء. فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه, فهل عند أحد منكم من شيء ؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي, ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا, فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً. فصالحوهم على قطيع من الغنم, فانطلق يتفل عليه ويقرأ ]الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[ [الفاتحة: 2] فكأنما نشط من عقال, فانطلق يمشي وما به قلبة, قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه, فقال بعضهم: اقسموا. فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي r فنذكر له الذي كان, فننظر ما يأمرنا, فقدموا على رسول الله r فذكروا له, فقال: (وما يدريك أنها رقية ؟) ثم قال: (قد أصبتم, اقسموا, واضربوا لي معكم سهماً), فضحك r ([137]).
- 5- ما ثبت من رقية جبريل للنبي r فعن عائشة رضي الله عنهما قالت: كان إذا اشتكى رسول الله r رقاه جبريل, قال: باسم الله يبريك ومن كل داء يشفيك ومن شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين “([138]).
- وعن أبي سعيد t أن جبريل أتى النبي r فقال: يا محمد اشتكيت ؟ فقال: (نعم), قال: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك([139]).
- 6- ما ثبت عنه من أدعية تقال في الرقية. فعن عثمان بن أبي العاص الثقفي t أنه شكا إلى رسول الله r وجعاً يجده في جسده منذ أسلم, فقال له رسول الله r: (ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: باسم الله, ثلاثاً, وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) ([140]). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي r يقول في الرقية: (تربة أرضنا وريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا) ([141]). وعن أبي الدرداء t قال: سمعت رسول الله r يقول: (من اشتكى منكم شيئاً, أو اشتكاه أخ له, فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك, أمرك في السماء والأرض, كما رحمتك في السماء, فاجعل رحمتك في الأرض, اغفر لنا حوبنا وخطايانا, أنت رب الطيبين, أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ”([142]).
- 7- تعويذ النبي r للحسن والحسين رضي الله عنهما, فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي r يعوذ الحسن والحسين, ويقول: (إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة) ([143]).
- 8- أمر النبي r بالاسترقاء من العين, فعن عائشة رضي الله عنهما قالت: أمرني رسول الله r, أو أمر أن يسترقى من العين ([144]).
- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رخص النبي r لآل حزم في رقية الحية, وقال لأسماء بنت عميس: مالي أرى أجسام بني أخي ضارعة تصيبهم الحاجة ؟) قالت: لا, ولكن العين تسرع إليه. قال: (أرقيهم), قالت: فعرضت عليه, فقال: (أرقيهم) ([145]).
- 9- ترخيص النبي r في الرقية.
- فعن الأسود بن يزيد قال: سألت عائشة عن الرقية من الحمة, فقالت: رخص النبي r في الرقية من كل ذي حمة”([146]). وتقدم حديث جابر t أن النبي r أرخص لآل حزم في رقية الحية. وفي رواية قال: نهى رسول الله r عن الرقى, فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله r, فقالوا: يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب, وإنك نهيت عن الرقى, قال: فعرضوها عليه فقال: (ما أرى بأساً, من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه)([147]). وفي رواية قال: لدغت رجلاً منا عقرب, ونحن جلوس مع رسول الله r, فقال رجل: يارسول الله, أرقي ؟ قال: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) ([148]). وعن أنس بن مالك t قال: رخص رسول الله r في الرقية من العين والحمة والنملة([149]). وعن الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنهما قالت: دخل عليّ رسول الله r وأنا عند حفصة رضي الله عنها, فقال لي: (ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ([150]).
فهذه النصوص دالة دلالة صريحة على جواز الرقية, وأنها من أسباب التداوي التي جاءت الشريعة بإقرارها,إلا أن ما كان منها متضمناً للشرك فهو منهي عنه. وفي تلك النصوص جواز الرقية سواءً لدفع البلاء قبل وقوعه أو لرفعه بعد وقوعه.
يقول الحافظ ابن حجر: (وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته, وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى)([151]).وذهب قوم إلى كراهة الرقية([152]).
ودليله ما يلي:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج علينا النبي r يوماً فقال:
“عرضت عليّ الأمم, فجعل يمر النبي معه الرجل, والنبي معه الرجلان, والنبي معه الرهط,والنبي ليس معه أحد, ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق فرجوت أن تكون أمتي, فقيل هذا موسى وقومه, ثم قيل لي: انظر: فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق, فقيل لي: انظر هكذا وهكذا, فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق, فقيل: هؤلاء أمتك, ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ” فتفرق الناس ولم يبين لهم, فتذاكر أصحاب النبي r فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك, ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء أبناؤنا, فبلغ النبي r فقال: “هم الذين لا يتطيرون, ولا يكتوون, ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون ” فقام عكاشة بن محصن, فقال: أمنهم أنا يا رسول الله ؟ قال: ” نعم ” فقام آخر فقال: أمنهم أنا ؟ فقال: سبقك بها عكاشة”([153]).
ثانياً: عن عمران بن حصين t أن رسول الله r قال: “يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب ” قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: “هم الذين لا يسترقون, ولا يتطيرون, ولا يكتوون, وعلى ربهم يتوكلون”([154]). فهذه الأحاديث تدل على كراهة الرقية([155]).
واعترض عليه: بأنه ليس المراد بهما الدلالة على كراهة الرقية, بل على كمال تفويض هؤلاء إلى الله تعالى, وكمال توكلهم بحيث لا يسألون غيرهم أن يرقيهم ([156]).
الراجح:
والذي يترجح عندي -والله أعلم بالصواب- ما يلي:
أولاً: جواز الرقية من غير كراهة؛ وذلك لأحاديث كثيرة صحيحة وصريحة قولية وفعلية, تدل على جواز الرقية, كما سبق ذكره.
ثانياً: أن القول بنسخ ما يدل على النهي عن الرقية قوي؛ لأن الأمر بالرقية متأخر عن النهي عنها, كما سبق بيانه. ويدل على صحة قول النسخ بأن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من النهي في تلك الأحاديث, النهي عن الرقية مطلقاً, ولو كان النهي خاصاً بالرقية الشركية لما انتهوا عنها مطلقاً, ولبين لهم رسول الله r حينما قالوا له: (إنك نهيت عن الرقى) بأنه إنما نهى عما فيها الشرك.
فالذي يظهر-والله أعلم- أن النبي r لما قدم المدينة وهم كانوا يرقون, وكانت بعض تلك الرقى مختلطة بالشرك, كما في رواية الزهري, نهى عن الرقية مطلقاً, وذلك سداً للذرائع, كما نهى عن زيارة القبور مطلقاً, ثم أذن لهم في الرقية التي لا شرك فيها, فقال: (اعرضوا على رقاكم), وقال: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) كما قال: (لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك). فثبت النهي عن الرقية الشركية كما كان, ونسخ النهي عن الرقية التي لا شرك فيها, لما عرفوا الفرق بينهما. والله أعلم.
هل تقدح الرقية في التوكل على الله
لتوضيح الخلاف في هذه المسألة فأقول:
وردت أحاديث تدل على إباحة الرقى بل الأمر بها والحث عليها ووردت أحاديث أخرى تدل على النهي عن الرقية ومنافاتها للتوكل وإن أبيحت فهي في أدواء مخصوصة كالعين والحمة وليست جائزة مطلقاً وتفصيل ذلك على النحو التالي:
أدلة القسم الأول:
- 1-عن عائشة رضي الله عنهما: ” أن رسول الله r كان يأمرها أن تسترقي من العين ” ([157]).
- 2- عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي r قال لجارية في بيت أم سلمة رأى بوجهها سفعة([158]) فقال” بها نظرة فاسترقوا لها([159]).
- 3- عن جابر t قال: ” رخص رسول الله r لآل حزم في رقية الحية “, وقالr لأسماء بنت عميس رضي الله عنهما: ” ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة([160])، أتصيبهم الحاجة ؟ قالت لا, ولكن العين تسرع إليهم, قال: أرقيهم, قال: فعرضت عليه فقال: أرقيهم([161]).
- 4ـ وعن جابر t قال ” لدغت رجلاً منا عقرب, ونحن جلوس مع رسول الله r فقال رجل: يارسول الله أرقي له ؟ قال: ” من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل “([162]).
- 5- عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله r يقول: ” من اشتكى منكم شيئاً أو شكاه أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض, كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض, واغفر لنا حوبنا ([163]) وخطايانا, أنت رب الطيبين, أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفاك على هذا الوجع فيبرأ بإذن الله ([164]).
- 6- وعن عوف بن مالك الأشجعي t قال: كنا نرقي في الجاهلية, فقلنا: يارسول الله, كيف ترى ذلك ؟ فقال: اعرضوا عليّ رقاكم لابأس بالرقى ما لم تكن فيه شرك ([165]).
- 7- وعن أبي سعيد الخدري t أن جبريل u أتي النبيr فقال: يا محمد اشتكيت ؟ فقال: نعم. فقال جبريل u: باسم الله أرقيك, من كل شيء يؤذيك, من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك, باسم الله أرقيك”([166]).
- 1- عن جابر t أن رسول الله r نهى عن الرقى ([167]).
- 2- عن عمران بن الحصين t عن النبي rقال: ” لا رقية إلا من عين أو حمة”([168]) ([169]).
- 3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي r أنه قال في وصف السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: “أنهم الذين لا يكتوون, ولا يسترقون, ولا يتطيرون,وعلى ربهم يتوكلون”([170]). زاد مسلم وحده: “ولا يرقون”([171]).
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة”([172]). وسلكوا فيها عدة مسالك لا تخرج كلها عن مذهبين: أحدهما: مذهب الجمع. ثانيهما: مذهب النسخ, وإليك بيان ذلك.
أولاً: مذهب الجمع:
سلك هذا المذهب أكثر أهل العلم, ولكنهم اختلفوا في طريقة الجمع على ثلاثة أقوال وهي كالتالي:
القول الأول:
هو أن الرقى مكروهة مطلقاً وأنها تقدح في التوكل بخلاف سائر أنواع الطب ومن أبرز أدلتهم على ذلك ما يلي:
1- حديث السبعون ألفاً, فإنه r لما سئل عنهم قال: “هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون”. قال الطحاوي: “وقد كره قوم الرقى واحتجوا في ذلك بحديث عمران ابن حصين”([173]). وقال الحافظ ابن حجر: “فتمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي من بين سائر الأدوية، وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما”([174]).
2- قوله r “من اكتوى أو استرقى فهو برئ من التوكل”([175]). فقالوا:إن هذه الأحاديث تدل على كراهة الرقى ومنافاتها للتوكل, وأما فعله r وأمره بها وإقراراه لها إنما هو لبيان الجواز.
3- التفريق بين الرقى والكي وبين سائر أنواع الطب وذلك أن الرقى والكي البرء فيهما أمر موهوم, وما عداهما محقق عادة كالأكل والشرب فلا يقدح”([176]). وقد نسب ابن عبد البر هذا القول إلى داود بن علي وجماعة من أهل الفقه والأثر”([177]).
القول الثاني:
إن الرقى جائزة غير مكروهة ولا قادحة في التوكل, وإلى هذا صار أكثر أهل العلم واستدلوا بما سبق ذكره من الأحاديث في جواز الرقى ومشروعيتها, حيث رقى r ورُقي وأمر بالرقى وأقرها.
وأما حديث السبعين ألفاً فقد أجابوا عنه بعدة أجوبة منها:
1- ما قاله الطبري والمازري وغيرهما من أنه ” يحمل ما في الحديث على قوم يعتقدون أن الأدوية نافعة بطباعها كما يقول بعض الطبائعيين, لا أنهم يفوضون الأمر لله سبحانه وحده”([178]). وقال المازري في موضع آخر: “… وينهى عنها بالكلام الأعجمي ومالا يُعرف معناه لجواز أن يكون فيه كفر أو إشراك”([179]). وقريب منه ما ذهب إليه ابن قتيبة فإنه قال: “الرقى يكره منها ما كان بغير اللسان العربي وبغير أسماء الله تعالى وذكره وكلامه في كتبه, وأن يعتقد أنها نافعة لا محالة وإياها أراد بقوله: “ما توكل من استرقى” ولا يكره ما كان من التعوذ بالقرآن وبأسماء الله عز وجل”([180]).
2- ما قاله الداوودي وطائفة من أن “المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء, وأما من استعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا”([181]).
واختار هذا القول ابن عبد البر حيث قال: “لا أعلم خلافاً بين العلماء في جواز الرقية من العين والحمة -وهي لدغة العقرب- وما كان مثلها إذا كانت الرقية بأسماء الله عز وجل وبما يجوز الرقى به, وكان ذلك بعد نزول الوجع والبلاء به”([182]). وكذا اختار هذا القول البيهقي”([183]).
3- هذا ما قاله الحليمي من أنه: يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعدة لدفع العوارض, فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء, وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله والرضا بقضائه, فهم غافلون عن طب الأطباء ورقى الرقاة ولا يحسنون من ذلك شيئاً, والله أعلم”([184]).
4- وقال الخطابي: “فأما قوله: “هم الذين لا يسترقون” فليس في ثنائه على هؤلاء ما يبطل جواز الرقية التي قد أباحها, ووجه ذلك أن يكون تركها من ناحية التوكل على الله والرضا بما يقضيه من قضاء وينزله من بلاء, وهذا من أرفع درجات المؤمنين المتحققين بالإيمان, وقد ذهب هذا المذهب من صالحي السلف: أبو الدرداء وغيره من الصحابة”([185]). واختار هذا القول ابن الأثير والقاضي عياض والنووي عليهم رحمة الله. قال ابن الأثير: “فهذا من صفة الأولياء المعرضين عن أسباب الدنيا الذين لا يلتفتون إلى شيء من علائقها”([186]). وقال القاضي عياض بعد ذكره لكلام الخطابي: ” وهذا هو ظاهر الحديث”([187]). وقال النووي: “والظاهر من معنى الحديث ما اختاره الخطابي ومن وافقه كما تقدم. وأما تطبب النبي r ففعله ليبين لنا الجواز والله أعلم”([188]). قال ابن حجر: “ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي r فعلاً وأمراً لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز, ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله لأنه كان كامل التوكل يقيناً فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئاً, بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل”([189]).
القول الثالث:
ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم واختاره ونصره الشيخ سليمان بن عبد الله, وهو التفريق بين فعل الرقية وبين طلبها, ففعل الرقية سواءً بنفسه أو بغيره فضل وإحسان, وطلبها مكروه قادح في التوكل.
واستدل بما يلي:
- 1- ما ورد في حديث السبعين ألفاً حيث جاء بلفظ “ولا يسترقون” وذلك لأن هذه الصيغة فيها معنى الطلب, أي لا يطلبون من أحد أن يرقيهم لأن وزن “استفعل بمعنى طلب الفعل مثل: استغفر أي طلب المغفرة”([190]).
- 2- أنه ثبت عن النبي r أنه رقى نفسه وغيره ولم يثبت عنه أنه كان يسترقي, وحاله r أكمل الأحوال.
- 3- أن هناك فرقاً بين الراقي والمسترقي: فالمسترقي سائل مستعطٍ ملتفت إلى غير الله بقلبه والراقي محسن نافع وقد قال r وقد سئل عن الرقى: “من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه”([191]).
وأما ما ورد في صحيح مسلم من رواية سعيد بن منصور: “ولا يرقون” فقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أنها وهم وغلط من الراوي فقال: “وقد روي فيه “ولا يرقون” وهو غلط, فإن رقياهم لغيرهم ولأنفسهم حسنة, وكان النبي r يرقي نفسه وغيره ولم يكن يسترقي، فإن رقيته نفسه وغيره من جنس الدعاء لنفسه ولغيره, وهذا مأمور به فإن الأنبياء كلهم سألوا الله ودعوه كما ذكر الله ذلك في قصة آدم وإبراهيم وموسى وغيرهم”([192]).
وقال ابن القيم تعالى: “والنبي r لا يجعل ترك الإحسان المأذون فيه سبباً للسبق إلى الجنان, وهذا بخلاف ترك الاسترقاء فإنه توكل على الله ورغبة عن سؤال غيره ورضاءً بما قضاه، وهذا شيء وهذا شيء”([193]). وقال الألباني عن رواية “لا يرقون”: ” شاذة تفرد بها شيخ مسلم سعيد بن منصور”([194]).
ثانياً: مذهب النسخ:
ذهب الطحاوي إلى أن ما جاء في حديث عمران منسوخ بما جاء من الأحاديث في إباحة الرقى واستدل على ذلك بما يلي:
1- الأحاديث التي فيها لفظة “رخص” فإنه لما ذكر حديث “رخص رسول الله r في الرقية من كل ذي حمة ” قال: “فهذا فيه دليل على أنه كان بعد النهي لأن الرخصة لا تكون إلا من شيء محظور”([195]).
2- الأحاديث التي فيها أنه r كان ينهى عن الرقى ثم أجازها ومن ذلك: حديث جابر t قال: كان لي خال يرقي من العقرب, فنهى رسول الله r عن الرقى قال: فأتاه فقال: يارسول الله إنك نهيت عن الرقى وأنا أرقي من العقرب, فقال: “من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل”([196]).
– وفي طريق آخر قال: نهى رسول الله r عن الرقى, فجاء آل عمرو ابن حزم إلى رسول الله r فقالوا: وإنك نهيت عن الرقى, قال: فعرضوها عليه, فقال: “ما أرى بأساً, من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه”([197]). قال الطحاوي بعد سياقه لهذه الأحاديث وغيرها: “فثبت بما ذكرنا أن ما رُوي في إباحة الرقى ناسخ لما رُوي في النهي عنها”([198]).
ثالثاً: الترجيح:
الذي يظهر رجحانه -والله تعالى أعلم بالصواب- هو القول الثالث من مذهب الجمع وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية من التفريق بين فعل الرقية وبين طلبها, فطلبها مكروه قادح في كمال التوكل, وفعلها جائز مشروع ويشهد لهذا ما يلي:
1- قوله r من اكتوى أو استرقى فهو برئ من التوكل”([199]). فجعل r الاسترقاء هو المنافي للتوكل.
2- حديث أبي هريرة t قال: جاءت امرأة إلى النبي r بها لمم”([200]). فقالت: يارسول الله ادع الله أن يشفيني قال: “إن شئت دعوت الله أن يشفيك وإن شئت صبرت ولا حساب عليك” -زاد الحاكم: ” ولا عذاب”- قالت: بل أصبر ولا حساب عليّ”([201]). “فهذا الحديث يوافق حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب والذي فيهم أنهم لا يسترقون, فأرشدها r إلى الأفضل وهو ترك الاسترقاء حتى تدخل الجنة بغير حساب, ولعل الرسول r قد علم من حالها قوة صبرها واحتمالها حيث إنه لم يقل هذا القول لكل من طلب منه الرقية”([202]).
وأما رواية “ولا يرقون” فهي غلط من الراوي لاسيما وأنها لم ترد إلا من طريق سعيد بن منصور عند مسلم مع أن البخاري روى هذا الحديث من طريق آخر -كما تقدم- ولم ترد هذه اللفظة فيه, ورواه أيضاً مسلم من حديث عمران بن حصين -كما تقدم- ولم ترد هذه اللفظة فيه مما يدل على أنها شاذة, والله أعلم.
وقد اعترض على هذا القول بعدة اعتراضات ذكرها الحافظ ابن حجر وهي كالتالي:
- 1- “أن الزيادة من الثقة مقبولة, وسعيد بن منصور حافظ, وقد اعتمده البخاري ومسلم واعتمد مسلم على روايته هذه.
- 2- وبأن تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار إليه.
- 3- أن المعنى الذي حمله على التغليط موجود في المرقي”([203])، لأنه اعتل بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكل, فكذا يقال له: والذي يفعل غيره به ذلك ينبغي أن لا يمكنه منه لأجل تمام التوكل.
- 4- وليس في وقوع ذلك من جبريل دلالة على المدعي, ولا في فعل النبي r له أيضاً دلالة لأنه في مقام التشريع وتبيين الأحكام”([204]).
ولكن هذه الاعتراضات تصدى لها الشيخ سليمان بن عبد الله وأجاب عنها فقال بعدما ساق هذه الاعتراضات: ” كذا قال هذا القائل وهو خطأ من وجوه:
الأول: أن هذه الزيادة لا يمكن تصحيحها إلا بحملها على وجوه لا يصح حملها عليه, كقول بعضهم: المراد لا يرقون بما كان شركاً أو احتمله, فإنه ليس في الحديث ما يدل على هذا أصلاً, وأيضاً فعلى هذا لا يكون للسبعين ألفاً مزية على غيرهم, فإن جملة المؤمنين لا يرقون بما كان شركاً.
الثاني: قوله: فكذا يقال.. إلخ لا يصح هذا القياس, فإنه من أفسد القياس, وكيف يقاس من سأل وطلب على من لم يسأل ؟! مع أنه قياس مع وجود الفارق الشرعي, فهو فاسد الاعتبار، لأنه تسوية بين ما فرق الشارع بينهما بقوله r: “من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل”.. وكيف يجعل ترك الإحسان إلى الخلق سبباً للسبق إلى الجنان ؟! وهذا بخلاف من رقى أو رُقي من غير سؤال, فقد رقى جبريل النبي r, ولا يجوز أن يقال: إنه عليه السلام لم يكن متوكلاً في تلك الحال.
الثالث: قوله: ليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام.. إلخ, كلام غير صحيح بل هما سيدا المتوكلين, فإذا وقع ذلك منهما دلَّ على أنه لا ينافي التوكل, فاعلم ذلك”([205]).
وأما ما ورد عنه r من أمره بالاسترقاء كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ” أمرني رسول اللهr أو أمر أن يسترقى من العين”([206]). وكما في حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي r رأى في بيتها جارية في وجهها سعفة فقال: “استرقوا لها فإن بها النظرة”([207]).
فعنه جوابان:
أحدهما: أن هذا مخصوص من العموم بقول الرسول r: “لا رقية إلا من عين أو حمة” أي لا رقية أنفع, فلأجل عظم الرقية بإذن الله في العين والحمة رخص رسول الله r في طلب الرقية فيهما، ولا ينافي هذا تمام التوكل”([208]).
ثانيهما: حمل حديث “ولا يسترقون” على كراهية طلب الرقية وأن طلبها ينافي كمال التوكل كما تقدم.
وحمل أحاديث الأمر بالاسترقاء على الرخصة في ذلك وبيان الجواز”([209]).
وقد نص بعض أهل العلم على استحباب الرقية وسنيتها إذا كانت بكتاب الله وسنة رسوله r كالخطابي”([210]), والنووي”([211]), والبغوي”([212]), وابن مفلح”([213]), والعراقي”([214])، والمناوي”([215])، وحافظ الحكمي”([216]).
وفصل السعدي الحكم فيها فقال: “أما الرقى ففيها تفصيل:
– فإن كانت من القرآن أو السنة أو الكلام الحسن فإنها مندوبة في حق الراقي لأنها من باب الإحسان ولما فيها من النفع, وهي جائزة في حق المرقي إلا أنه لا ينبغي له أن يبتدئ بطلبها, فإن من كمال توكل العبد وقوة يقينه ألا يسأل أحداً من الخلق لا رقية ولا غيرها..
– وإن كانت الرقية يُدعى بها غير الله ويطلب الشفاء من غيره فهذا هو الشرك الأكبر لأنه دعاء واستغاثة بغير الله. فافهم هذا التفصيل وإياك أن تحكم على الرقى بحكم واحد مع تفاوتها في أسبابها وغاياتها”([217]).
مناقشة الأقوال الموجودة:
أما ما استدل به أصحاب القول الأول فمتعقب بما يلي:
1- أن ما استدلوا به من الأحاديث إنما هو في الاسترقاء, وفرق بين فعل الرقية وبين الاسترقاء الذي هو طلب الرقية -كما تقدم-.
2- وأما التفريق بين الرقى والكي وبين سائر الأدوية, فقد رد عليه القرطبي فقال: “وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن أكثر أبواب الطب موهومة كالكي فلا معنى لتخصيصه بالكي والرقى. وثانيهما: أن الرقى بأسماء الله تعالى هو غاية التوكل على الله تعالى فإنه التجاء إليه, ويتضمن ذلك رغبته له, وتبركاً بأسمائه, والتعويل عليه في كشف الضر والبلاء, فإن كان هذا قادحاً في التوكل فليكن الدعاء والأذكار قادحاً في التوكل ولا قائل به, وكيف يكون ذلك ؟! وقد رقى النبي r واسترقى ورقاه جبريل وغيره، ورقته عائشة وفعل ذلك الخلفاء والسلف, فإن كانت الرقى قادحة في التوكل ومانعة من اللحوق بالسبعين ألفاً, فالتوكل لم يتم للنبي r ولا لأحد من الخلفاء, ولا يكون أحدٌ منهم في السبعين ألفاً, مع أنهم أفضل من وافى القيامة بعد الأنبياء ولا يتخيل هذا عاقل”([218]).
وأما ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني فإنه ليس فيه إعمال لجميع الأدلة, وإجاباتهم على حديث السبعين ألفاً يمكن الإيراد عليها كما يلي:
– أما ما ذهب إليه المازري والطبري وابن قتيبة وغيرهم في تأويل حديث “ولا يسترقون” فإنه متعقب بما قاله القاضي عياض عنه: “ولا يستقيم هذا التأويل على مساق الحديث لأن النبي r لم يذم هنا من قال بالكي والرقى ولا كفرهم كما جاء في حديث الاستمطار بالنجوم.. وإنما أخبر أن هؤلاء لهم مزية وفضيلة بدخولهم الجنة بغير حساب.. وأخبر أن لهؤلاء مزيد خصوص على سائر المؤمنين وصفات تميزوا بها ولو كان على ما تأوله قيل لما اختص هؤلاء بهذه المزية لأن تلك عقيدة جميع المؤمنين ومن اعتقد خلاف ذلك كفر”([219]).
كما لا يستقيم القول بأن المكروه منها ما كان بغير أسماء الله تعالى لأن هذا محرم وليس مكروهاً فقط, وقد شذ القرطبي عندما قال: ” المقصود: اجتناب رقى خارج عن القسمين: كالرقى بأسماء الملائكة والنبيين والصالحين, أو بالعرش والكرسي والسماوات والجنة والنار، وما شاكل ذلك مما يعظم كما قد يفعله كثير ممن يتعاطى الرقى. فهذا القسم ليس من قبيل الرقى المحظور الذي يعم اجتنابه, وليس من قبيل الرقى الذي هو التجاء إلى الله تعالى وتبرك بأسمائه, وكأن هذا القسم المتوسط يُلحق بما يجوز فعله, غير أن تركه أولى”([220]) اهـ. كما لا يستقيم أيضاً القول: بأن المكروه منها ما صاحبه اعتقاد نفعها لا محالة لأن هذا فيه التفات إلى السبب, والالتفات إلى السبب شرك أصغر وقد يغلط حسب اعتقاد صاحبه.
– وكذلك ما ذهب إليه الداوودي وابن عبد البر وغيرهما من حمل حديث: ” ولا يسترقون” على ما كان في حال الصحة قبل نزول البلاء, متعقب بما سبق بيانه في كون الرقى منها ما يكون قبل نزول البلاء ومنها ما يكون بعد نزوله وسبقت الإشارة إلى أدلة ذلك. ولذلك قال الحافظ ابن حجر: وهذا “معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء”([221]). وقال النووي: ” قال كثيرون أو الأكثرون: يجوز الاسترقاء للصحيح لما يُخاف أن يغشاه من المكروهات والهوام”([222]), ثم استدل ببعض الأحاديث التي سبق ذكرها.
– وكذلك ما ذهب إليه الحليمي من حمل الحديث على قوم غفلوا عن أحوال الدنيا فهم لا يعرفون الاكتواء أو الاسترقاء. فإنه يُرد عليه أن قوله “ولا يسترقون” يدل على أنهم يعرفون الرقى لكنهم لا يطلبونها. وعلى فرض أنهم لا يعرفونها فإنهم لا يثابون على تركها لأن من شرط الثواب على الأعمال: الإرادة والقصد, فترك الشيء لعدم العلم به أو القدرة عليه ليس فيه فضل ولا مزية بخلاف ترك الشيء احتساباً للأجر وطلباً للثواب فإنه يثاب عليه, ومثل ذلك من ترك المعصية لعدم العلم بها أو القدرة عليها فإنه ليس بمنزلة من تركها خوفاً من الله وطمعاً في ثوابه, والله أعلم.
– وأما ما ذهب إليه الخطابي وغيره من أن المراد من قوله ” ولا يسترقون ” ترك الرقى توكلاً على الله.. فإنه متعقب بأن فعل الأسباب -والتي من بينها الرقى- لا ينافي التوكل.
ثانياً: مناقشة مذهب النسخ:
وأما مذهب النسخ فيُجاب عنه بما يلي:
- 1- أن النسخ لا يُصار إليه إلا عند تعذر الجمع وهو هنا غير متعذر وقد سبق بيان أوجه الجمع.
- 2- وأما ما ورد في بعض الأحاديث بلفظ ” رخص ” فليس معناه أن هذه الرقية التي رُخص فيها كان منهياً عنها ثم أجيزت, وإنما معناه أنه سئل r عنها فأذن بها ولو سئل عن غيرها لأذن فيه، قال النووي عند حديث ” رخص في الرقية من العين والحمة والنملة “: ” ليس معناه تخصيص جوازها بهذه الثلاثة, وإنما معناه: سُئل عن هذه الثلاثة فأذن فيها ولو سئل عن غيرها لأذن فيه وقد أذن لغير هؤلاء, وقد رقى هو r في غير هذه الثلاثة, والله أعلم “([223]).
- 3- وأما ما ورد من كونه r نهى عن الرقى ثم أجازها فليس المنهي عنه هو الرقى الشرعية وإنما المنهي عنه ما كان شركاً أو فيه شرك أو كان غير مفهوم المعنى ويدل على ذلك ما يلي:
- أ- أنه r قال: في آخر الحديث الذي فيه “إنك نهيت عن الرقى” وفي طريق آخر: “نهى رسول الله r عن الرقى “قال في آخره: “من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ” وفي رواية “فلينفعه”. ففي هذا بيان منه r إلى أن المنهي عنه من الرقى ليس هو الرقى الشرعية التي فيها نفع وإحسان إلى الغير, وإنما المنهي عنه نوع آخر من الرقى وهو الرقى الشركية كما يدل على ذلك الحديث الآتي:
- ب- قوله r كما في حديث عوف بن مالك الأشجعي t: “أعرضوا عليّ رقاكم، لابأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك”([224]). وعلى هذا يحمل حديث: “إن الرقى والتمائم والتولة شرك”([225]). قال الخطابي: “فأما الرقى المنهي عنه هو ما كان منها بغير لسان العرب فلا يُدرى ما هو ولعله قد يُدخل سحراً أو كفراً, وأما إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به, والله أعلم”([226]). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والأقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره التي تتضمن الشرك بل نهوا عن كل ما لا يُعرف معناه من ذلك خشية أن يكون فيه شرك بخلاف ما كان من الرقى المشروعة فإنه جائز([227]). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: “الرقى: هي التي تسمى العزائم, وخص منه الدليل ما خلا من الشرك”([228]). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله: “الرقى الموصوفة بكونها شركاً هي الرقى التي منها شرك من دعاء غير الله والاستغاثة والاستعاذة به كالرقى بأسماء الملائكة والأنبياء والجن ونحو ذلك, أما الرقى وأسماء الله تعالى وصفاته ودعائه والاستعاذة به وحده لا شريك له فليست شركاً بل ولا ممنوعة، بل مستحبة أو جائزة “([229]).
الخلاصة في حكم الرقى من حيث التوكل:
إن حكم الرقية يختلف باختلاف حال الراقي والمرقي والمرقى به:
1- فإذا كانت الرقية بكتاب الله تعالى أو سنة رسوله r.
- أ- فهي مندوبة في حق الراقي, لأنها نفع وإحسان وقد قال r: “من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه”([230]).
- ب- وجائزة في حق المرقي حيث رقي r ورقُي وأذن في الرقية وأمر بها.
- ج- ومكروهة في حق المسترقي من حيث كمال التوكل لقوله r في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: “ولا يسترقون”([231]). ولقوله r أيضاً: ” من اكتوى أو استرقى فهو برئ من التوكل”([232])
2- وإذا كانت الرقية بغير الكتاب والسنة أو تخلف شرط من شروطها التي سبق ذكرها فهي محرمة وقد تصل إلى الشرك والكفر وتنافي التوكل بالكلية. والله أعلم.
هل الرقية على التوقيف ؟
إن الرقية توقيفية من وجه, وهو أن تكون بالقرآن، وما ثبت من التعاويذ النبوية, ولا يقبل ما كان بغير هذا”([233]). ذلك أن الرقية المقصودة منها التأثير في المرض, بحصول الشفاء بإذن الله, وهذا التأثير سببه معارضة كلام الله تعالى لذلك الداء أياً كان نوعه, ولاشك أن كلام الله تعالى لا يعارض ولا يغالب أبداً, ولكن تخلف الشفاء له أسباب أخرى. قال الموفق البغدادي: واعلم أن الرقى والتعاويذ إنما تفيد إذا أخذت بقبول, وصادفت إجابة وأجلاً, فالرقى والعُوذ التجاء إلى الله سبحانه وتعالى ليهب الشفاء, كما يعطيه بالدواء”([234]). إذا تبين هذا, فالرقية بغير ذلك سبب غير مشروع، فلا تجوز. وهذا هو الوجه الذي تكون فيه الرقى توقيفية.
أما الوجه الآخر فأعني به حكم الاقتصار على ما وردت الإشارة إليه من السور والآيات الكريمة, والرقى النبوية, هل هذا لازم, أم تجوز الرقية بما لم يرد كذلك مادام أنه من القرآن والتعاويذ ؟
وهذا الأخير هو الصواب -فيما يظهر- ويدل عليه ما يلي:
- 1- القرآن كله كلام الله تبارك وتعالى, فتجوز الرقية بكل القرآن.
- 2- حديث عوف بن مالك مرفوعاً: ” لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً”([235]). فهذا إذن نبوي في أي رقية لا تتضمن شركاً.
- 3- عموم قول النبي r: “من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل”([236]). فهذا عام في الرقى، وهو مشروط بخلوه من الشرك كما في الحديث قبله, وبالنفع كما هو ظاهره, ولا يتحقق فيه النفع إلا أن يكون من القرآن, أو التعاويذ الإلهية.
وقد غلط في هذا العموم فريقان:
الفريق الأول: أجاز كل رقية جربت منفعتها, ولو لم يعقل معناها, ذكره ابن حجر”([237]), وأجاب عليه بقوله: لكن دل حديث عوف أنه مهما كان الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع, وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك, فيمنع احتياطاً.
الفريق الثاني: ممن غلط في هذا العموم, قوم وضعوا حزباً محدداً, بقراءة سور وآيات معينة، وبأعداد مخصصة, منها ما هو للعين, ومنها ما هو للمس, ومنها ما هو للسحر, وهكذا, وعمدتهم في ذلك التجربة. وهذا العمل فيه نظر. فلا يجوز لأحد أن يقيد ما أطلقه الشرع, أو يخصص ما عممه, لأن هذا تشريع، فلا يكون إلا بالوحي”([238]).
وقال الدكتور: علي بن نفيع العلياني في الإجابة على هذا السؤال هل الرقى توقيفية ؟ وهل يرقى من الأدواء ما نصه: الظاهر والله أعلم ـ جوازها وذلك لما يلي:
أولا: أن التداوي بالرقى من جنس التداوي بالأدوية الطبيعية المركبة من الأعشاب ونحو ذلك, وهذه مبنية على التجربة البشرية ويستفيد فيها الناس بعضهم من بعض, وهي من جنس الزراعة والصناعة, ولا تتوقف معرفتها على التلقي عن رسول الله r, كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن موسى بن طلحة عن أبيه. قال مررت مع رسول الله r بقوم على رؤوس النخل. فقال ما يصنع هؤلاء ! فقالوا يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح. فقال رسول الله r ما أظن يغني ذلك شيئاً, قال: فأخبروا بذلك فتركوه. فأخبر رسول الله r بذلك. فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه, فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن؛ ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به, فإني لن أكذب على الله عز وجل”([239]).
وعن أنس t أن النبي r, مرَّ بقوم يلقحونه فقال: لو لم تفعلوا لصلح ! قال خرج شيصاً”([240]). فمربهم قال: ما لنخلكم ؟ قالوا قلت كذا وكذا, قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم”([241]). ففي هذا دلالة على أن ما يتعلق بأمر الدنيا من طب الأبدان والزراعة والصناعة ونحو ذلك يؤخذ من التجربة والاجتهاد البشري ما لم يخالف حكماً شرعياً.
ثانياً: لقد ورد عن الرسول r، عدة أحاديث تدل على أنه أقر بعض الصحابة على رقية تعلموها من غيره r لما تبين له, عليه الصلاة والسلام, بأنها خالية من الشرك. من ذلك:
1- ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن جريح قال: وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: “رخص النبي r لآل حزم في رقية الحية”. وقال أبو الزبير: وسمعت جابر بن عبد الله يقول: لدغت رجلاً منا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله, فقال رجل: يا رسول الله أرقي. قال: “من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل”([242]).
2- عن الشفاء بنت عبد الله, قالت: دخل عليّ النبي, r وأنا عند حفصة, فقال لي ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة”([243]).
وروى هذا الحديث الحاكم في المستدرك وفيه قصة, وهي أن رجلاً من الأنصار خرجت به نملة فدل أن الشفا بنت عبد الله ترقي من النملة, فجاءها فسألها أن ترقيه, فقالت والله ما رقيت منذ أسلمت ! فذهب الأنصاري إلى رسول الله r, فأخبره بالذي قالت الشفا, فدعا رسول الله r الشفا, فقال: اعرضي عليّ فعرضتها عليه, فقال: ” ارقيه وعلميها حفصة كما علمتيها الكتاب”([244]).
وهذه القصة توضح أن رقية النملة تعرفها الشفا من زمن الجاهلية, فأذن لها الرسول r بالرقية بها لخلوها من الشرك, وما ذكره بعض العلماء بأن مراد الرسول, r, من قوله وعلميها حفصة أنه من لغز الكلام ومزاحه, وأن رقية النملة التي كانت تعرفها النساء هي أن يقال: للعروس تحتفل وتختضب وتكتحل وكل شيء يفتعل غير أن لا تعصي الرجل, فأراد الرسول, r بهذه المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضاً لأنه ألقى إليها سراً فأفشته”.. إلخ “([245]).
مردود بهذه القصة إذ فيها أن الشفا توقفت عن الرقية حتى أذن لها الرسول, r, وأن رجلاً من الأنصار هو الذي طلب منها الرقية, وأن عندها رقية صحيحة للنملة, وليس من قبيل لغز الكلام ومزاحه, ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك في الرقى, قال: “رخص في الحمة والنملة والعين”([246]). فهناك رقى حقيقية عرفت بالتجربة للنملة وليست من مزاح الكلام ولغزه, وكانت تعرف في الجاهلية قبل الإسلام, وأقرها الرسول r لخلوها من الشرك, ومن هذا أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه من طريق آخر عن أنس t قال: “رخص رسول الله r, في الرقية من العين والحمة والنملة”. وهذا يدل على أن رقية النملة كانت معروفة للناس من غير طريق النبي, r, ولما لم يكن فيها شرك رخص, r في تعلمها ولكن قول الصحابي t رخص رسول الله r يدل على أن العزيمة في غيرها وهو ترك الرقى إلا بكتاب الله, وما صح من السنة, ولهذا قال ابن التين “.. وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة ” وقال الربيع سألت الشافعي عن الرقية, فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله, وما يعرف من ذكر الله, قلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين ؟ قال: نعم ! إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله, وبذكر الله, وفي الموطأ أن أبابكر قال لليهودية التي كانت ترقي عائشة أرقيها بكتاب الله.
وقال المازري اختلف في استرقاء أهل الكتاب فأجازها قوم وكرها مالك, لئلا يكون مما بدلوه, وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه وهو كالطب سواء”([247]). فإن غير الحاذق لا يحسن أن يقول: والحاذق يأنف أن يبدل حرصاً على استمرار وصفه بالحذق لترويج صناعته”([248]). قلت: إذا قبلنا رقية أهل الجاهلية الوثنيين إذا لم يكن فيها شرك وجربت منفعتها كرقية النملة, فأهل الكتاب من باب أولى ! فقد تكون رقاهم متلقاة من الكتاب الذي لم يحرف لأنه لا غرض لهم في تحريف الرقية, كما أن لهم غرض في تحريف العقائد والأحكام, بل إذا حرفوا الرقية زالت فائدتها فربما يحرصون على بقائها على أصلها التماساً للفائدة الدنيوية. والله تعالى أعلم.
وليست الرقية خاصة بالعين والحمة كما يوهمه قول عمران بن حصين رضي الله عنهما: لا رقية إلا من عين أو حمة, وجاء في المسند مرفوعاً إلى النبي r”([249]). كما رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك t قال: “أذن رسول الله, r لأهل بيت من الأنصار أن يرقوا من الحمة والأذن”([250]).
قال ابن حجر: وأما رقية الأذن فقال: ابن بطال المراد وجع الأذن, أي رخص في رقية الأذن إذا كان بها وجع, وهذا يرد على الحصر الماضي في الحديث المذكور في باب من اكتوى حيث قال لا رقية إلا من عين أو حمة. فيجوز أن يكون رخص فيه بعد أن منع. ويحتمل أن يكون المعنى لا رقية أنفع من رقية العين والحمة. ولم يرد نفي الرقية من غيرهما”([251]).قلت: هذا الذي ينبغي المصير إليه، فالحصر غير مراد لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد أن جبريل أتي النبي, r فقال: “يا محمد اشتكيت. فقال: نعم ! قال: بسم الله أرقيك, من كل شيء يؤذيك, من شر كل نفس أو عين حاسد, الله يشفيك, باسم الله أرقيك”([252]). فقوله من كل شيء يؤذيك يدل على العموم”([253]).
فعن عمرة بنت عبد الرحمن؛ “أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها, فقال أبو بكر: أرقيها بكتاب الله”([254]).
وعن ابن عباس أن ضماداً”([255]). قدم مكة, وكان من أزد شنوءة, وكان يرقى من هذه الريح”([256]), فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي. قال: فلقيه, فقال: يا محمد ! إني أرقى من هذه الريح, وإن الله يشفي على يدي من شاء, فهل لك”([257]) ؟ فقال رسول الله: ” إن الحمد لله نحمده ونستعينه..”([258]) الحديث.
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية, فقلنا: يا رسول الله ! كيف ترى في ذلك ؟ فقال: “أعرضوا على رقاكم, لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك “([259]).
ذكر الإمام ابن حجر أن الربيع قال: سألت الشافعي عن الرقية ؟ فقال: لابأس أن يرقي بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله قالت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين ؟ قال: نعم. إذا رقوا يما يعرف من كتاب الله وبذكر الله. ثم قال الحافظ: وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية التي رتقي عائشة ” أرقيها بكتاب الله”([260]). وقال الحافظ أيضاً وقال المازري: اختلف في استرقاء أهل الكتاب, فأجازها قوم, وكرهها مالك؛ لئلا يكون مما بدلوه. وأجاب من أجاز؛ بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه”([261]). وهو كالطب, سواءً كان غير الحاذق لا يحسن أن يقول”([262]), والحاذق يأنف أن يبدّل؛ حرصاً على استمرار وصفه بالحذق؛ لترويج صناعته. والحق أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال”([263]).: ” وفي قول أبي بكر الصديق t: أرقيها بكتاب الله “؛ يعني أرقيها بكتاب الله بما في التوراة. وفي هذا دلالة على أن اليهود إنما يغيرون الأحكام والعقائد، وأما الرقى؛ فإنهم لم يغيروها حفاظاً على فائدتها، فإنها إذا غيرت لا تنفع, هذا الذي يظهر, والله أعلم. وإلا؛ لو كانت [ الرقية ] مما دخله التحريف؛ لما أمنها أبو بكر الصديق على الرقية “([264]).
————————–