الفلسفة الوجودية doc “الوجودية في الميزان”
Title: الفلسفة الوجودية doc/الوجودية في الميزان .
Author: د. سعيد بن أحمد الأفندي*.
Subjects: الفلسفة الوجودية .
Description: الفلسفة الوجودية doc هي إحدى الفلسفات المعاصرة في النصف الأول من القرن العشرين.
Publisher:جامعة القاهرة – كلية دار العلوم.
Source: مجلة كلية دار العلوم , ع 63.
المقدمة:
لقد انتشرت الفلسفات والأيديولوجيات المعاصرة انتشاراً واسعاً ولقيت رواجاً كبيراً، وسادت فترة من الزمن، كما حظيت بالتشجيع من الكثيرين، وكان لها أثر قوي على كثير من الأفكار والأنشطة والسلوك، لذا رأيت من واجبي أن أكتب عن هذه الأفكار بموضوعية، وبمنهجية علمية بعيداً عن الميل حتى نكون علي بيئة من أمر هذه الأفكار، كي توضع الأمور في نصابها الفلسفة الوجودية doc.
والوجودية هي إحدى الفلسفات المعاصرة في النصف الأول من القرن العشرين، وأصبحت حديث الجمهور في عدد من البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم أن الوجودية ليست واحدة، وإنما توجد وجوديات مختلفة بين ممثليها تتميز بعضها عن البعض بتميز أصحابها والداعين لها، فهناك “وجودية كيركجورد” و”وجودية مارسيل” و”وجودية يسبرز” و”وجودية هيدجر” و”وجودية سارتر”…. الخ.
ورغم الاختلاف العميق بين ممثلي الوجودية، إلا أنهم جميعاً يشتركون في سمات عامة، أهمها:”التجربة” و”الذاتية” و”الوجودية يسبق الماهية” و”الحرية”.
وقد أدى هذا الفكر إلى زعزعة الإيمان بالأديان، وهدم الأخلاق، وضياع كرامة الإنسان بعد أن كرمه الله على جميع المخلوقات في الخلق والطبع، حيث تدعو الوجودية إلي حرية مطلقة أباحت للإنسان أن يطلق العنان لرغباته، وأفسحت المجال أمام شهواته، غير متقيد بدين أو قانون أو عرف، فوجد الكثير من الشباب المنحل في هذا المذهب سنداً فلسفياً يسوغ انحلالهم ويفلسفه، فانطلقوا في دروب الرذيلة مجاهرين بها، وتجد هذا واضحاً عند معظم شباب “سان جرمان” في باريس، وهم يسكرون ويخمرون، ويأتون الفواحش تحت حماية الدولة وعلى ملأ من الناس.
وبهذا يكون السبب الذي دفعني إلى اختيار هذا البحث هو:
الدفاع عن الدين الإسلامي وذلك بالوقوف ضد تلك المذاهب الفكرية الحديثة والتيارات الجارفة من الأفكار الهدامة التي تجعل أكبر همها هدم الأديان وخاصة الدين الإسلامي الحنيف، وضياع الأخلاق، وإحلال أفكار أخرى مكان الإسلام، مستعملين كل الطرق والوسائل التي توصلهم لهذا الغرض السيئ الواضح المقاصد.
لقد ظهرت في مصر وغيرها طائفة من العلماء حذقوا بعض العلوم فأرادوا أن يخرجوها من طريقها المنير الذي رسمه دينها الحنيف، ولم يتزودوا بالزاد الذي يجب أن يتزود به المسلم الحق فضلوا وأضلوا، لذا كرست الجهد لبيان ضعف الفكر الوجودي وأثره الهدام الذي شغل بال الإنسانية كلها في عصرنا، وذلك بالنقد الموجه إليه ومدى مخالفته للإسلام والتحذير للإسلام والتحذير منه.
هدف البحث:
بناء على ما ذكرته سابقاً يكون هدف البحث:
الفلسفة الوجودية doc :
الوجودية (1) كلمة تنسب إلى الوجود، وهي تعني أن كل ما هو موجود يظهر وجوده على الرغم من أنه ينقصه مبرر الوجود، وعلى ذلك يظهر (الاختلاق) facticitce وهو الوجود المصطنع بصورة ما، أي تظهر عرضية وجودنا إلى الأرض بلا هدف وبلا أدنى سبب([2]) ، وهي لا تعني مطلق الوجود للحياة، ولكنها تعني أن يهتدي الإنسان إلى وجوده بنفسه، وأن يكون موجوداً بالنسبة إلى نفسه، وأن يسبر غور وجدانه وليستجمع نقائضه في وحدة شاملة تمضي إلى اتجاه متناسق لا تنازع فيه وأن يكون بهذه المثابة شيئا لا يتكرر ولا يتعدد([3]).
يقول سارتر: أن ما يمكن أن يقال منذ البداية هو أنا نعني بالوجودية مذهبا يجعل الحياة إنسانية ممكنة، مذهباً يعلن -فوق ذلك- أن كل حقيقة وكل عمل يتضمن موقفاً إنسانياً وذاتية إنسانية([4]).
وهذا يعني أن الوجودية تعني أنه يستحيل على الإنسان أن يتجاوز الذاتية البشرية. فالوجودية مذهب في الوجود محدد تام التحديد يقوم على مبدأ أساسي سهل بسيط هو أن وجود الإنسان هو ما يفعله، فأفعال الإنسان هي التي تحدد وجوده وتكونه، ولهذا يقاس الإنسان بأفعاله، فوجود كل أنسان بحسب ما يفعله ([5]). ومعنى هذا أن الوجودية تعني أنه يستحيل على الإنسان أن يتجاوز الذاتية البشرية.
وهذا أن الوجودية تشعر الإنسان بذاته مفردة مستقلة عن غيرها من الذوات، فيدرك وجوده بنفسه ويعمل على إثبات هذا الوجود وجعله حقيقة واقعية لا مجرد، وترى أن الفردية هي أساس الوجود([6]).
هذه الوجودية حركة تحاول أن ترد اعتبار الفرد الذي ضاع في غمار المذاهب الاجتماعية التي مجدت الدولة والجماعة وجعلت الفرد مجرد وسيلة للغاية الكبرى التي هي مصلحة المجموع ([7]).
وهذا المعني ليس ببعيد عن المعني الذي ذكره الأستاذ “عباس محمود العقاد” وهو أن الوجودية الحديثة هي ثورة احتجاج من الفرد على طغيان الجماعات، وهي إثبات لحق الفرد أمام الدعاوي الكثيرة التي تكاد أن تلغيه وتفنيه في غمار السواد، فهي في الواقع ظاهرة اجتماعية نشأت بعد نشوء الديمقراطية وتضخمت بعد نشوء الشيوعية([8]).
فهي إبراز لقيمة الوجود الفردي وهي تعني أن الوجود أسبق من الماهية. فـ “ماهية الكائن” هي ما يحققه فعلاً عن طريق وجوده، ولهذا هو يوجد أولاً، ثم تتحدد ماهيته ابتداءً من وجوده.
والوجودية تتفق في أن الوجود هو في المقام الأول، الوجود الإنساني في مقابل الوجود الموضوعي الذي هو وجود أدوات فحسب، وتتفق في أن هذا الوجود متناه، وسر التناهي فيه هو دخول الزمان في تركيبه”([9]).
وهذا الوجود الإنساني ليست له قيمة إلا من خلال فعله، ففعله، هو الذي يحدد وجوده.
والوجودية كما يقول “سارتر”: ليست فلسفة تأمل وسكون؛ لأنها تحدد الإنسان طبقاً لما يفعل، وهي ليست فلسفة متشائمة، لأنها تضع مصير الإنسان بين يديه، ومن ثم فهي أكثر الفلسفات تفاؤلاً، وهي تدفع الإنسان إلى العمل ولا تثنيه عنه؛ بل أنه لا تري له أملاً إلا في العمل، فالعمل هو سبب استمرار الإنسان في الحياة، وإذن تكون الوجودية “فلسفة أخلاق عمل والتزام” فهي فلسفة متفائلة ومذهب العمل، ولا يمكن اتهامها باليأس([10])، إلا عن سوء نية([11])، فهي تدعو إلى العمل والالتزام إلا أنها مختلفة فيما بينها حول العالم وحياة الإنسان فيه، وهذا ما قاله “جون ماكوري” عن الوجودية: “أنها أسلوب أو طريقة في التفلسف تؤدي بمن يستخدمها إلى مجموعة من الآراء تختلف فيما بينها أشد ما يكون الاختلاف حول العالم وحياة الإنسان فيه”([12])
فهي تهتم بالعودة إلي الواقع الحقيقي، فهي فلسفة للمحسوس، يقول “جبريل مارسيل: “أري أنني أميل، فيما يختص بي، إلى نفي القيمة الفلسفية المحض عن كل أثر لا أستطيع أن أتميز فيه ما هو عضة الواقع”([13]).
يضاف إلى ما سبق: أن لفظ الوجودية لم يقتصر استخدامه على نمط فلسفي معين له خصائص معينة؛ بل وصل إلى حد إطلاق هذا الوصف على كثير من السلوك الصاخب والفاضح الذي يحدث في النوادي ذات الطابع الأخلاقي المنحل، وفي كل فعلا لا يليق بكرامة الإنسان.
وبذلك شاع استخدام لفظ “الوجودية” شيوعاً كبيراً في الأوساط الأدبية والفلسفية والفنية والاجتماعية، واتسع معناه اتساعاً غريبا حتى كاد يفقد معناه([14]). يقول سارتر “في مقدمة محاضراته”الوجودية مذهب إنساني”: إن ما يعقد الأمور هو وجود مدرستين وجوديتين تختلف الواحدة منها عن الأخرى، وبالتالي وجود نوعين من الوجوديون :أولهما: الوجوديون المسيحيون ومنهم الفيلسوف الألماني “كارل ياسبرز” والفيلسوف الفرنسي “جابريل مارسيل” والاثنان كاثوليكيان، والفئة الثانية هي فئة الوجوديين الملحدين وبينهم يوضع “هيدجر” والوجوديون الفرنسيون وأنا أيضا… وهاتان الفئتان تلتقيان على صعيد واحد وتتفقان في أمور([15])، سوف أتعرض لها في مبادئ الوجودية بعد ذلك.
والخلاصة أن الوجودية-كما يقول الدكتور زكريا إبراهيم-جهد يراد به التوفيق بين الموضوعي والذاتي، والمطلق والنسبي، وبين اللازمني والتاريخي بين العمق الفكري والثقل المادي… الخ، فهي محاولة إنسانية شاقة من أجل إدراك الماهية في صميم الوجود والكشف عن معني الحياة من خلال المواقف والأحداث([16]).
الوجودية في الميزان
لكي تتساوى كفتي الميزان، ويكون الميزان عادلاً، يجب أن نتحدث عن مميزات الفلسفة الوجودية قبل النقد الموجه إليها وذلك ما يلي:
ثانيا: مميزات الفلسفة الوجودية عند أصحابها:
يوجد للفلسفة الوجودية عدة مميزات من وجهة نظر أصحابها وأهمها ما يلي:
اهتمامها بالإنسان ومشكلاته الفعلية التي طالما أهملها الكثيرون من الفلاسفة الذين راحوا يبحثون عن مشكلات “الإنسان العام” وحسب، ويضعون ذلك في صيغ مجردة قد لا تمس صميم الوجود الفعلي للحياة الإنسانية كما يحيها أفراد الناس، فجاءت الوجودية لتضع هذا الجانب في بؤرة اهتمامها منادية بحرية الإنسان ومسؤولياته ومبرزة مشكلاته كما يشعر بها ويحياها بالفعل، أو على الأقل، هكذا كان تصورها وهدفها([17]).
أن الفلسفة الوجودية doc تتميز بجانبها التكنيكي الفلسفي, ومن خلاله يمكن للمؤرخ أن يسجل عدداً من الأفكار والنتائج من كل نوع، والتي هي ذات قيمة عظيمة، ولا جدال في أن هؤلاء المفكرين قد أثروا الفلسفة بعدد كبير من التحليلات السيكولوجية والفينومينولوجية المتميزة؛ بل أنهم استكشفوا ولأول مرة ميادين جديدة، ومنها على سبيل المثال: الارتباطات ذات الطابع الشخصي المحض بين البشر (الوجود- مع، الوجود من أجل- الآخر، الأنت،التواصل)، وهكذا ظهرت إلى الوجود سلسلة جديدة من المشكلات، وهي تؤذن بتوسع كبير جوهري لميدان الفلسفة.
إن تحليلات الفلاسفة الوجوديين تحليلات أساسية في مواجهة الوضعية من جانب، والمثالية من جانب آخر، في مواجهة الوضعيين، يرى الوجوديون أن الموجود الإنساني لا يمكن أن يختزن وجوده إلى المادة، كما يتعدون المثالية حيث يقررون أولية الوجود على الفكر، وذلك في حماس وقوة إقناع بليغين، وقد أظهر الوجوديون غالباً نظريات أنطولوجية، كما أن بعضهم طور فيها وتوجها بمذهب الميتافيزيقا.
أن فهم الوجوديين لمختلف المشكلات المتصلة بنظرية الإنسان يتعدى كل ما أنتجه القرن التاسع عشر الميلادي في هذا الصدد، ولذلك فإن المؤرخ ليس بحاجة إلى التأكيد على أن الفلسفة الوجودية ليست صيحة نبوءة؛ بل هي أيضاً فلسفة ذات اصطلاح ومناهج تكنيكية فلسفية خاصة، وأنها أكثر من منظور، ذات قيمة عظيمة([18])
ونظراً لأن الوجودية اشتهرت بـ “سارتر” ذهب البعض إلى أن من مميزات فلسفة “سارتر” أن جعل فلسفته مفتوحة للجماهير وأوجد فئة من المثقفين الذين لا يقنعون بالعلم؛ بل بالعلم للحياة في تفاعلهم مع الجماهير وعلى تلبية حاجياتهم، ونحن نحمد له معاداته لفكرة الحرب باعتبارها (ضد) حرية الإنسان وتعمل علي سلب حرية الفرد، وقد اشترك لذلك في مظاهرات ضد حروب متعددة في أماكن كثيرة من العالم.
أن الوجودية من وجهة نظر “سارتر” إليها، ليست فلسفة استسلام؛ لأنها تعرف الإنسان تماماً بما يفعله-وهي أيضاً ليست فلسفة تشاؤمية؛ بل بالعكس من ذلك-لأنه لم يعرف مذهب أكثر منها تفاؤلاً-وهي التي تضع مصير الإنسان بين يديه.
7- أن وجودية “سارتر” لا تدعو إلى تثبيط الهمم؛ بل هي تدعو إلى العمل، وتنادي بأنه لا يوجد أمل إلا في العمل، والأمر الوحيد الذي يسمح للإنسان بالحياة هو العمل، والوجودية هي النظرة الوحيدة-في رأيه-التي تعطي الإنسان الكرامة؛ لأنها تجعل منه وسيلة أو موضوعاً([19]).
نقد الفلسفة الوجودية doc
وهذا النقد يشتمل على ما يلي:
1- النقد الفلسفي
يمكن القول بأنه ما من فلسفة تعرضت للهجوم بقدر ما تعرضت له الوجودية، وقد جاءت هذه الانتقادات من مصادر مختلفة، وسأذكر باختصار أهم الانتقادات التي وجهت إلى هذه الفلسفة فيما يلي:
أن الفلسفة الوجودية جاءت كرد فعلا مضاد يركز على اللاعقل ضد ما أكده فلاسفة القرن التاسع عشر وهو العقل، حيث تميز هذا القرن بثقة فلاسفته فيما يسمى بالعقل المطلق وذهبوا إلى أن العقل الإنساني يستطيع أن يشيد أنساقاً فلسفية ومنطقية بالغة الدقة والأحكام بحيث يمكن لهذه الأنساق أن تربط العالم والوجود والإنسان برباط متين لا تنقطع أوصاله أبداً فجاءت الوجودية بثورة على العقل، فتقدم كيركجورد “بفكرته المضادة للعقل والتي أسماها بالمفارقة المطلقة، وفكرته هذه تعني أن على العقل أن يسقط نهائياً إذا أردنا أن نخبر دوائر القيم والأخلاق والدين، فالمفارق تشير إذا أخذنا في اعتبارنا الجانب الديني-إلى أن المسيحية دين مناف للعقل أو هو دين العبث إذ لا يوجد أنسأن يثق في العقل وحده، ويستطيع أن يفهم أن الله أصبح في المسيح وهو إنسان تاريخي كان يتصرف كما يتصرف أقل الناس شأناً، كما أنه لا يستطيع أن يفهم ما عرضته المسيحية للعقل أنما يجعلها أحسن الأديان، فعلينا أن نمارس كل قوانا الاعتقادية والشعورية لكي نكون قادرين على الإيمان بالمسيحية، كما يجب أن نمارس حسب قول “كيركجورد”-“القفز في المجهول”أو “القفز في الهاوية”، لكن الحقيقة أنه في غياب العقل، وفي طمس دوره، نجد أنفسنا، في حالة لا نستطيع معها أن ندفع أي إنسان نحو الإيمان، فضلاً عن أنفسنا، إذ أن كل ما نستطيعه هو أن نخاطر، وأن نتوقف عن التفكير، وأن نكف عن الاستدلال العلمي، وأن نستسلم لصوت باطني فينا يقول لنا: “إن هناك حقيقة مختلفة دائرة من نوع فريد، تعلي على العقل، وتتسامي علي قواه، أن “كيركجورد” يعتقد أننا إذا فعلنا ذلك فسوف نقفز بين يدي الله المفتوحتين.
وهكذا أدى تأكيد فلاسفة القرن التاسع عشر على العقل إلى إيجاد تأكيد مضاد يركز علي اللاعقل، في مجال الإيمان على الأقل-وهو تأكيد لا نأمن عواقبه، ولا ندرك مساراته، لا نعلم نتائجه، و”كيركجورد” ذاته يدعونا-كما رأينا سابقاً-إلى أن نخاطر وحسب، وأن تكون مخاطرتنا تلك مشحونة بالعواطف متدفقة بالمشاعر ، ولا يهم إن كان نتيجة مخاطرتنا تلك سوف تؤدي إلى القفز بين يدي الله أو بين يدي الشيطان([20]).
يمكنك قراءة :
لقد أنكرت الفلسفة الوجودية أن الأشياء توجد مستقلة عن إدراكنا لها، حيث يعتقدون بأن إدراكنا للأشياء هو الذي يعطي لهذه الأشياء كيانها أو كما يسمونه فلسفيا “كينونتها”، يقولون:”جسمي مركز العالم” لماذا ؟ لأن “الوعي هو الذي يهب العالم كينونته”،وبالتالي” كينونة موجودة ما هي تماماً ما يظهر لنا من هذا الموجود”، وكون الأشياء توجد مستقلة عن إدراكنا لها خطأ كبير، يرجع إلى عدم التفريق بين الظواهر التي تدرس وبالتالي عدم التفريق بين مناهج دراستها([21]).
أن قول الوجوديين باتفاق أن “الوجود الإنساني يسبق الماهية” يوجد فيه تناقض، وهذا يعنى أن الإنسان يصنع ماهيته بحريته بأن يسقط مشروعاته على المستقبل، وبعد كل عمل اختاره نعلم أن ما ارتضاه الوجودي ماهية له هذا القول يصور إنساناً يعمل حراً فقط من غير ضوابط من القيم المسبقة وكأنما الحرية هدف في ذاتها، كما يمجد هذا القول العمل الزمني الذي يتجاوز به الإنسان حدوده ليختار ماهية قادمة دائما في مستقبل.
فالحقيقة الإنسانية غير قائمة؛ بل هي دوماً قادمة ولا تكتمل إلا مع آخر الأنفاس، وهذا هو في نظري المصدر الأصيل للقلق والإهمال واليأس واللامعقول والغثيان.
وإذا كانت الماهية لاحقة على الوجود الإنساني، ألا يعني ذلك أن الإنسان حين لا يكون حاصلاً أولاً على ماهية معينة، كما يرى “سارتر” يصبح بالتالي حراً في أن يكون أي شئ؟
أصبح معنى ذلك أن الإنسان-من حيث إن ماهيته لاحقة على وجوده-حر حرية لا حدود لها، بحيث يمكنه أن يكون نباتاً أو حيواناً آخر أو ملكاً أو إلها-وهذا الأمر هو مستحيل ومتناقض، والماهية بهذا المعنى لا يمكن أن تكون سابقة على الوجود الإنساني؛ لأن الإنسان بعد كل شئ لا يمكنه إلا أن يكون إنساناً وليس كائناً آخر أو من نوع آخر([22]).
وإذا كان سارتر قد قرر أن الماهية لاحقة على الوجود فينبغي أن نفهم ذلك من حيث إنها صفات وخصائص مدركة بالعقل، أي باعتبار أن وجودها هو وجود عقلي فقط، فإن هذا الوجود العقلي هو مستخرج من الوجود العيني الذي تحقق، فالماهية بهذا الاعتبار-ومن الناحية الابستمولوجية فحسب-لاحقة على الوجود، أما الماهية من حيث التحقق العيني في الواقع-أعني من ناحية وجودها متحققة في الإنسان الواقعي-فلا يمكن أن تكون كذلك لاحقة على الوجود؛ لأن الإنسان لا يكون في الواقع إنساناً موجوداً بالفعل إلا بتحقق هذه الخصائص أي حين تتحقق الماهية، فليست الماهية لاحقة على الوجود وليست كذلك سابقة عليه، وإنما هي-بهذا الاعتبار- مساوقة للوجود، الماهية إذن لاحقة على الوجود من الناحية الابستمولوجية أي باعتبار أن وجودها هو وجود عقلي مستخرج من الوجود العيني، وهي مساوقة للوجود من الناحية الأنطولوجية، أي باعتبار أنها خصائص وصفات متحققة فعلا في الواقع. ولكن “سارتر” لم يقم بهذه التفرقة كما أنه لا يهتم بالناحية الابستمولوجية ولا يقول بالتجريد. كان تقرير “سارتر” إذن لسبق الوجود علي الماهية لا يقصد به من الناحية الابستمولوجية، وإنما يقصد به جملة الصفات الخاصة متحققة بالفعل وحاصلة على وجود عيني. وهنا نتساءل أيضاً ألا يعني ذلك أن “سارتر” في الواقع لا يتحدث عن الماهية وإنما يذكرها ويعني أصلا جملة الأعراض التي تحقق الأنية، أعني أنه ينظر في الجزئي المحسوس بدلاً من الكلي المعقول؟ ألا يكون “سارتر” بذلك قد عاد إلى الحسية التي تضع الجزئي بدلاً من الكلي على نحو ما يفعل فلاسفة المذاهب الحسية؟
وبناء علي ما سبق يمكن القول:” أن الماهية عند “سارتر” إن كانت الماهية العامة التي هي مرادفة للمعني الكلي لا يمكن أن تكون لاحقة على الوجود؛ لأن معنى الوجود هو وجود شئ ما، أي وجود ماهية ما، وأن كان معنى الماهية مجرد جملة الأعراض التي تحقق الأنية، فلا تكون بالتالي ماهية،وإنما عين الوجود الجزئي المحسوس”.
وبهذا يتضح لنا وجود تناقض في قول “سارتر” بأن الوجود سابق على الماهية الإنسانية، كما أن هناك تعارضاً بين هذه القضية وبين محاولة “سارتر” إقامة انطولوجيا”([23]).
وهنا نلمس نقطة الضعف الأصلية في الوجودية، ومن منا يستطيع الإقناع بأن يكون وجود الإنسان وحقيقته في نطاق الفرد الفاني وحده وملك حريته؟ يجب أن نلقي في وجه هذه الحقيقة العرضية المتغيرة حقيقة جوهرية وثابتة وقديمة لا تتوقف على عمل الإنسان في مستقبله وإن كانت تسمح لنا بفهم هذا العمل الإنساني المستقبل إذا أردنا أن نرفع عن كاهلنا القلق والإهمال واليأس واللامعقول والغثيان، إن وجودنا لا يصبح مضاد أو معقولاً إلا بالرجوع إلى الوراء، إلى المبدأ، إلى القديم الثابت أعني إلى الألوهية التي تفسر وجودنا وسلوكنا الذي نختاره بحريتنا، المهم إذا أردنا أن نصل إلى الوجود وإلى الحقيقة يجب أن نصعد ضد مجرى الزمن ونخرج منه إلى الأزل. ونحن إذا أردنا أن نعرف وجودنا ومن نحن على حقيقتنا وما أفعالنا الحرة، لم نأتيها، علينا أن ندير ظهرنا إلى المستقبل، ونرفع الرأس إلى القديم ونتأمل ونتذكر ونتدبر ونمعن النظر؛ لأن الحقيقة والوجود ليسا أمامنا في الزمن وحسب بل يجب أن يكون وراءنا لأنهما حقيقة لإيجادنا وقيمنا في الوجود، وحقيقة أن ماهياتنا وأفعالنا ثابتة قديمة في خالقنا، حقيقة أننا مخلوقين على صورة خالقنا، ولو غلفنا عن حقيقتنا ضللنا الطريق مع الملحدين([24]).
4- لقد اهتمت الفلسفة الوجودية بعنصر “المصير” وغالت في رد فعلها ضد الماضي، ذلك أن كثيراً من فلاسفة الوجودية يرون أنه لا يوجد شئ آخر في الفلسفة غير مسائل المصير هذه، ويدور كل تأملهم الفلسفي حول الموت والألم والفشل وما شابه. أن الوجودية تؤكد غالباً على عنصر المصير وبقوة شديدة، حتى أنها لا تعود تظهر على هيئة فلسفة أوروبية بل بالأحرى كأنها فلسفة هندوسية، أي تأمل تهدف وحسب، حتى رغم المنطق الذي يأتي به إلى تحقيق الخلاص، لهذا السبب تصطدم الوجودية برفض له ما يبرره من جانب كثير من فلاسفة أوروبا الجادين، بل من معظمهم([25]).
5- يمكن القول بأن الأفكار الوجودية عموماً تقوم علي الاختيار الحر، هذا الاختيار، “اختيار” متعسف ومتحيز، وأن النتيجة النهائية لهذا “الاختيار” هي تجريد الناس من إنسانيتهم، وتجريد الوجود من معناه، نتيجة لخلو ذلك “الاختيار” من الألوهية. ومن الواضح أيضا أن (سارتر) يتخذ من هذا (الاختيار) مسلمة علينا أن نأخذ منذ البداية لكي نستطيع أن نتابعه حتى نهاية لا يستطيع أن يدركها هو نفسه، فإذا رفضناها-ولا مفر من رفضها لأنها مسلمة ذاتية صرف، ولك منا ذاتيته الخاصة التي ينبغي أن تكون لها تجربتها الوجودية الخاصة-أقول إننا إذا رفضناها انهارت فلسفته كلها من أساسها([26])، فحينما قال سارتر: “إننا حيث نقول: أن الإنسان يختار نفسه، فإنما نعني بذلك “أن كل واحد منا يختار الناس جميعاً”.. أن يختار المرء أن يكون هذا أو ذاك، معناه أن يؤكد في الوقت نفسه قيمة ما يختاره لأننا لا نستطيع أبداً أن نختار الشر. إن ما نختاره دائماً هو الخير، ولا شئ يمكن أن يكون حسناً عندنا دون أن يكون كذلك عند الجميع([27]).
ورد الدكتور عثمان أمين علي هذا القول بما ملخصه ومعناه: كيف يتسنى للإنسان أن يختار نفسه ويصنعها؟ إن الإنسان يستطيع أن يختار فعلاً من الأفعال التي يقدر عليها، أما أن ينصب اختياره على نفس وجوده فمحال؟
ثم ما معنى قول “سارتر”: إن الإنسان حيث يختار نفسه يختار الناس جمعياً؟ مع العلم بأن “سارتر” يرفض الطبيعة الإنسانية الشمولية ويرفض معها كل القيم الكلية؛ لأن الإنسان عنده وحيد فريد في نفسه وفي الطريق الذي يختار؟ وأيضاً ما معنى قول “سارتر”: لا شئ يمكن أن يكون حسناً عندنا دون أن يكون حسناً عن الجميع؟
أليس هذا اعتراف واضح بأن للإنسان طبيعة إنسانية شمولية, مع العلم بأن “سارتر” صرح مرات ومرات بأن الإنسان الفرد قلعة في ذاته، ووجوده يسبق ماهيته-كما أشرنا-فكيف أبرم هنا ما كأن قد نقضه هناك؟([28]).
والوجوديون لا يثقون في النزعة العقلية الجافة للعلم، وكذلك في التطبيقات العلمية للبحث العلمي، لأنهما معاً يمكن بطرق مختلفة أن يعوقاً النمو الكامل للوجود البشري، فمن أجل ذلك ومن المحتمل جداً أن يبدي الفيلسوف الوجودي رد فعل حاداً على ذلك الهيمان الأعمى بتقدم الإنسان عن طريق العلم، فيقول مع “برديايف”:”إن التاريخ الحديث كله بما فيه من عقلانية ووضعية وإيمان بالعلم-كان عصر ليل لا نهار”، غير أننا لو شئنا الدقة لقلنا إن الفيلسوف الوجودي ، ينتقد”النزعة العلمية المفرطة، وليس العلم نفسه، فهو يعترف بمشروعية المنظور العلمي للعالم، لكنه يحرص على إنكار أن هذا هو المنظور الوحيد، أو حتى الأساس، الذي يمكن أن يفضي إلى الحقيقة([29])، ولهذا فهو لا يهتم بالطبيعة.
أن الفلسفة الوجودية نزعة تشاؤمية انهزامية، تتشدد في القول بأن الإنسان مقذوف به في هذا العالم رغماً عنه، ويترك هذا العالم رغماً عنه ويعيش حياته كلها في ضجر، وسأم، وقلق، وندم، ويأس، ينظر إلى الآخرين على أنهم هم الجحيم بعينه، وينظر إلى حياته على أنها عبث ووجوده عبث؛ بل حريته عبث في عبث.
وهكذا ينتهي الأمر بالوجودية، خاصة تلك الوجودية الملحدة إلى العدم.
فها هو “سارتر” يضطر إلى القول: عن جميع الكائنات الموجودة قد جاءت إلى الوجود بلا سبب وتواصل وجودها خلال الضعف ثم تموت بالمصادفة.. إن الإنسان عاطفة فارغة، فلا معنى في كوننا نولد، ولا معنى في كوننا نموت”.
وها هي رفيقته سيمون دي بوفوار “تقول بدورها”:”أنني عبثاً أنظر إلى نفسي في المرآة أحكي لنفسي قصتي، أنني لن أستطيع أن أقفز خارج نفسي كموضوع تام، إني أختبر في نفسي الخواء الذي هو نفس فأشعر بأني لا أكون([30]).
وها هو “هيدجر” يقول:”في نفس قلب الوجود، يكون العدم كائناً مذاباً في العدم”.
فأي انهزامية وأي تشاؤم ذلك الذي يبدو في هذه الأقوال وأمثالها كثيراً ناهيك عما فيها من أفكار إلحادية مفجعة، وبعد ذلك تدعي الوجودية على لسان “سارتر” أنها فلسفة إنسانية؟ أي فلسفة إنسانية تلك التي ترمي بالإنسان في خضم اليأس والقلق، يجتر حسرة على حياته العبثية ووجوده الذي يخلو من كل غاية وهدف ألا نكون على حق حيث نصفها بأنها تشاؤمية لا إنسانية([31]). ولذا يشفق “جارودي” من آثار هذه الفلسفة على الشباب إذ تدفع به إلى اليأس واعتبار الحياة جحيماً أو هاوية يسيرون إليها بعين مغمضة.
ويسأل في حيرة: كيف أصف هؤلاء المفكرين والكتاب؟
ثم يجيبنا بقول: (إنهم سفاحوا الثقافة والفكر)!! ([32]).
ويضاف إلي هذا قول “بوخينسكي”: إن الوجودية قد اصطدمت باستنكار شديد له ما يبرره من جانب كثيرين من فلاسفة أوروبا الذين يشتهر عنهم الجد في المسائل الفلسفية؛ بل أنه في إمكاننا القول بأن معظم فلاسفة أوروبا قد رفضوا ادعاءاتها وفجورها الفلسفي([33]).
موقف الماركسية من الفلسفة الوجودية doc
تعتبر الوجودية هي الشبح الذي تقشعر منه أبدان الماركسيين، وذلك لأنهم يرون في الوجودية تهديداً مباشراً لهم، ومن أجل هذا كان نقد الماركسية للوجودية نقداً عنيفاً، وهذا النقد يتمثل في عدة نقاط أهمها ما يلي:
يتهم الماركسيون الوجودية بأنها دعوة للاستسلام ولليأس؛ لأنه مادامت كل الحلول مستحيلة، فإن العمل في هذا العالم مستحيل كذلك ولا جدوى منه، وحينئذ تكون الوجودية فلسفة تأملية، ومادام التأمل رفاهية ومن الكماليات فهي ليست سوى فلسفة بورجوازية تنضاف إلى الفلسفات البورجوازية الأخرى.
يأخذ الماركسيون على الوجودية أنها قد أبرزت النواحي البشعة، في الموقف الإنساني، وصورت كل ما هو مخجل سافل منحط فيه، وأهملت مواطن معينة رائعة وجميلة تنتمي إلى الجانب المشرق في الطبيعة الإنسانية.
يرى الماركسيون في الوجودية أنها أهملت ما يجب أن تكون عليه البشرية من تضامن، وعزلت الإنسان عن العالم فحصرته في وجوده الفردي؛ لأنها تقيم مذهبها على الذاتية الحاصلة، وعلى الكوجيتو الديكارتي “أنا أفكر فأنا موجود”. وهذه الذاتية هي الذاتية التي يدركها الإنسان في عزلته ووحدته، ومن ثم لا يستطيع معها أن يستعيد تضامنه مع الآخرين الذين يوجدون خارج ذاته، والذين لا نستطيع أن نصل إليهم عن طريق الكوجيتو([34]).
فالوجودية قد تنكرت للتماسك الاجتماعي الذي هو أساس العمل والتقدم؛ لأن “سارتر” اعتبر الإنسان-في فرديته المنعزلة-بدأ من تلك اللحظة التي يبلغ فيها الإنسان منتهى الانغلاق على نفسه والانعزال عن الآخرين، فلا يستطيع العودة إلى التماسك والتعاون مع هؤلاء كنقابة أو طبقة عمالية حيث لا يجدهم في أنا أفكر، وهذا هو منتهى اليأس([35]).
يتصور الماركسيون استحالة اندماج”الوجودية”في “الماركسية” لأمرين:
– أن ربط “سارتر” للعدم بالوجود البشري يجعل من المستحيل تصور وجود “صيرورة” في الوجود العام، ويقحم على الكينونة ضرباً من “الإمكان” أو”اللاضرورة” فيؤدي بذلك إلى “اللامعقولية” ويحول دون ظهور قوة السلب في الوجود كمرحلة هامة من مراحل تطور الوجود.
(ب)- أن تصور “سارتر” للحرية يجعل منها مجرد “قدرة ذاتية على الاختيار” على طريقة ديكارت، بدلاً من أن يدمجها في الصيرورة التاريخية لكي يجعل منها قدرة فعالة على بلوغ الهدف المنشود، والماركسيون يؤكدون أنه طالما بقي “سارتر” متمسكاً بتصوره الخاص للحرية فإن كل ضروب الصراع التي يقوم بها البشر لن تكون سوي مجرد رموز لدراما ميتافيزيقية صرفة([36]).
وإلى جانب ما ذكر وجه “كانابا” نقداً عنيفاً للوجودية في شخص “سارتر” ويكفي دليلاً على ذلك عنوان كتابه: “الوجودية” ليست فلسفة إنسانية([37]).
النقد الإسلامي للوجودية
لقد وجه إلى الوجودية انتقادات إسلامية كثيرة أهمها:
إذا كانت الوجودية تركز على الوجود الذاتي البشري، فإن الإسلام يقوم بجانب ذلك على الإيمان بوجود الله تعالى وبالحياة الأخرى؛ لأن الوجود الزمني في هذه الدنيا يتبعه وجود آخر دائم بعد الموت، وهو وجود الحياة الأخرى، ومن هنا فالموت ليس عدماً، وليس هو نهاية الوجود كما تظن الوجودية؛ بل هو مرحلة انتقال إلى الحياة الآخرة، والتي هي خير لمن اتقى وصلح أمره في الدنيا.
إذا كانت التجربة الفردية الحياتية عند الوجوديين هي أساس المعرفة، فإن المعرفة ليس قاصرة على إحساس الفرد نفسه بما يعنيه من تجربة فهناك بجانب الحس، العقل، الوحي المنزل من عند الله سبحانه وتعالى على رسله.
أن الوجودية تدعو إلى حرية مطلقة ومن هنا أباحت للإنسان أن يطلق العنان لرغباته، وأفسحت المجال أمام شهواته، غير متقيد بدين أو قانون أو عرف، فوجد الكثير منه الشباب المنحل في هذا المذهب سنداً فلسفيا يصوغ انحلالهم ويفلسفه، فانطلقوا في ضروب الرذيلة مجاهرين بها، وترى هذا واضحاً عند معظم شباب “سان جرمان” في باريس، وهم يسكرون الخمر ويأتون الفواحش تحت حماية الدولة وعلى ملأ من الناس.
أما الأديان السماوية وعلى رأسها الإسلام فقد وضعت للحرية قيوداً وضوابط لاستقامة الفرد وللمحافظة على حقوق الآخرين، وذلك لأن الإنسان مدني بطبعه يعيش في مجتمع له حقوق وواجبات، ولابد من أن يتفاعل ويتعاون معها. ومن المعروف أن الأهواء والأغراض الشخصية مختلفة وفي بعضها تضارب، والإنسان ليس كالحيوانات التي تسيرها غرائزها في أكثر أحوالها، من أجل ذلك نجد الإسلام يحض الإنسان على السيطرة على رغباته وشهواته وأطماعه، وتوجيهها وجهة تنفع الفرد، وتنهض بالمجتمع، فهي لم تغلق في وجه الإنسان باباً من أبواب المحرمات إلا فتحت له باباً من أواب المباحات، فهي حيث حرمت عليه الربا أباحت له الكسب الحلال عن طريق التجارة وغيرها، وحيث حرمت عليه غصب أموال الناس وأكلها بالباطل أباحت له التملك، وحيث حرمت عليه الزنا أباحت له الزواج ودعته إليه وحضته عليه، والإسلام يحرص أشد الحرص على الشباب، والرسول صلى الله عليه وسلم يحضهم في كثير من أحاديثه على ما فيه سعادتهم في الدارين.
فيقول: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة([38])،فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم…) ([39]).
ويقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله…) ([40]).
أن الوجودية تدعو كل فرد إلى التخلص من القيم المتوارثة البالية وإبداع قيم جديدة يختارها الإنسان لنفسه بنفسه ويلتزم بها وهذا يؤدي لكل إنسان له قيمه الخاصة، والتي تختلف من شخص لآخر، وأنها نسبية فتؤدي إلى التميز والتفرق والتشتت وعدم الوحدة.
أما الإسلام يلزم المسلمين بأحكام ربانية ثابتة راسخة لا تتغير أسسها ولا تتبدل، وكل ما يضاف إليها هو ما يجد في الحياة من أمور يعتمد المسلم في معالجتها علي المصالح المرسلة.
وإذا كانت الوجودية دعوة إلى التشاؤم واليأس والضجر والملل والقلق؛ لأنه يخاف الواقع والموت، فإن الإسلام فتح باب الأمل ودعا إلى النشاط والمثابرة والعمل الجاد، وعفي عن المسيئ إذا تاب، ووعد بالستر والفرج لمن توكل على الله وآمن برحمته وحكمته، ومن هنا كان الإيمان القوي والاستمساك بالدين والصلاة علاج القلق والمخاوف والتوتر العصبي؛ لأن المؤمن يحيا في أمن وطمأنينة، أما غير المؤمن من الملاحدة والمنحرفين يحيون في مخاوف دائمة، وإذا كان الوجودي يخاف الموت ويخشي عواقبه ويري فيه انتهاء لحياته ووجوده وانحلالا لبدنه، فإن المؤمن لا يخاف الموت ويرى فيه أنه انتقال إلى ربه.
ويشير “ابن مسكويه” إلى مثل هذا في قوله: “إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري الموت على الحقيقة، ولا يعلم إلى أين تصير نفسه أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقى موجوداً، وليس هو بموجود فيه. وأما المؤمن فكما لم يخف في دنياه، فإنه لا يخاف من آخرته ولا من الموت، وقد قيل لأعرابي اشتد مرضه: إنك ستموت، فقال: وإلى أين يذهب بي بعد الموت؟ قالوا: إلى الله… فقال: ويحكم، وكيف أخاف الذهاب إلى من لا أرى الخير إلا من عنده؟ إذا ففي الإيمان حفاظ على الإنسان وعلى الحياة من القلق، والتدهور والضياع، كما أنه هداية للقلب وهداية للنفس وأمان لها من كل المخاوف، قال تعالى: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) ([41]).
والمتتبع لنماذج البشر من المؤمنين وغيرهم، ومن مشاكل هؤلاء وأولئك يتضح له إلى أي مدى كان للإيمان أثره البالغ على حياة الناس وكيف حل مشاكلهم وأخذ بأيدي المجتمعات المؤمنة إلي شاطئ الأمان.
أن الوجودية أخطر دعوة هدامة ظهرت في العصر الحديث، من حيث إفسادها لطبيعة الإنسان وسلوكه، وتدمير عقله، وقلبه، وروحه، وتحويله إلى حيوان، بلا عقل، ولا قلب، ولا روح… وذلك لأنها تدعو إلى القضاء على الجهود التي بذلتها البشرية عبر تاريخها الطويل السوي الذي تنشده الرسالات السماوية عامة، والإسلام بخاصة.
وفي إيجاز يمكن القول
إن بلادنا تمتاز بصفاء تام لأجوائها ولم تعرف ضباب الوجود، وعقيدتنا تتلاءم مع فطرة الإنسان وجبلته ومحال أن تنحرف إلى طبيعة الوحوش.
فهل يعي شبابنا هذه الحقيقة، ويصلون في تصوره إلى ما وصل إليه الفيلسوف “جان كانابا” أن الوجودية رائعة إذا شوهدت عن بعد، غير أنها تبدو على حقيقتها حين نقترب منها، فتكشف أنها ليست إلا بناء من ورق([42]).
الخاتمة
وتشتمل على عدة نتائج، أهمها
- أن الوجودية ثورة علي العقل الذي يشيد أنساقاً تربط العالم والوجود والإنسان برباط متين لا تنقطع أوصاله أبداً.
- أن الوجودية تنكر استقلال وجود الأشياء عن إدراكنا لها، حيث يعتقدون أن إدراكنا للأشياء هو الذي يعطي لهذه الأشياء كيانها.
- أن الوجودية ترى أن الوجود الإنساني يسبق ماهيته، وهذا يعني أن الإنسان إذا لم يكن حاصلاً أولاً على ماهية معينة فإنه يصبح حراً حرية لا حدود لها في أن يكون أي شئ آخر نباتاً أو حيواناً أو ملكاً أو إلهاً، وهذا مستحيل ومتناقض.
- أن الوجودية دعوة إلي التشاؤم واليأس والضجر والملل والقلق، لأن الوجودي يخاف الواقع والموت، حيث ترى أن الإنسان قذف به في هذا العالم رغماً عنه، ويترك هذا العالم رغماً عنه، ويعيش حياته كلها في ضجر وسأم وقلق وندم ويأس وينظر إلى الآخرين علي أنهم هم الجحيم.
- أن الوجودية عزلت الإنسان عن العالم فحصرته في وجوده الفردي، ولذا فهي تنكر التماسك الاجتماعي الذي هو أساس العمل والتقدم .
- أن الوجودية تدعو إلي الحرية المطلقة، فأباحت للإنسان أن يطلق العنان لرغباته، وأفسحت المجال أمام شهواته، غير متقيد بدين أو قانون أو عرف.
- أن الوجودية تعتبر دعوة هدامة، حيث أفسدت طبيعة الإنسان وسلوكه، وتدمر عقله، وقلبه وروحه، وتحوله إلى حيوان بلا عقل، ولا قلب، ولا روح.
- أن الوجودية لا تتفق مع الإسلام، لأنه إيمان يعتمد علي النقل الصحيح، والعقل السليم معاً في وقت واحد، ولذا لا يجب الانتماء إليها بحال من الأحوال.
وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،
المصادر المراجع
- الإسلام والمذاهب الفلسفية، د.محمد مصطفي حلمي، الطبعة الأولى، دار الدعوة للطباعة والنشر1405هـ/ 1985م.
- دراسات في الفلسفة الحديثة، د.محمود حمدي زقزوق، دار الطباعة المحمدية، 1985م.
- دراسات في الفلسفة المعاصرة، د.زكريا إبراهيم، مكتبة مصر.
- الرد علي إلحاد سارتر، فؤاد كامل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985م.
- سورين كيركجورد، د.علي عبد المعطي، دار المعرفة الجامعية، 1986م.
- مدخل إلى الفلسفة المعاصرة، د.محمد مهران، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1984م.
- الفلسفة المعاصرة، د.وليم فرج، ط2،دار الثقافة، 1987م.
- الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي، ترجمة: د.عزت قرني، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد (165).
- فلسفة سارتر، عبد الفتاح الديدي، مكتبة الأنجلو المصرية، 1971م.
- الماركسية في الفلسفة، حسني ناثان، دار النشر للجامعيين، ط1، مكتبة النهضة، بغداد، فبراير، 1963م.
- معنى الوجودية، د.عبد المنعم الحفني، الطبعة الثانية، مكتبة مدبولي.
- مع الفيلسوف، د.محمد ثابت الفندي، بيروت: دار النهضة العربية، 1980م.
- الوجودية ليست فلسفة إنسانية، تأليف: جان كانابا، ترجمة، محمد عيتاني، دار بيروت للطباعة والنشر، 1954م.
- الوجودية مذهب إنساني، سارتر، ترجمة: د.عبد المنعم الحفني،ط4، 1977م.
- الوجودية والغثيان، محمد جواد مغنيه، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، لبنان، 1397هـ/1997م.
- الوجودية، جون ماكوري، ترجمة: د.إمام عبد الفتاح إمام، مراجعة: د.فؤاد زكريا، الكويت: عالم المعرفة، عدد (58)، 1982م.
* * *
[*] عضو هيئة التدريس في قسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية وجامعة الملك عبد العزيز.
- [1] الوجودية تنسب إلى الوجود وهو في أصله اللاتيني مشتق من مقطعين هما EX ويعني الخروج”، والتأني STER ويعني البقاء ثم أنتقل اللفظ إلى اللغات الأوروبية بما يحتويه من شحنة تعبيرية وما يرمز إلى من فكر، فدل على الخروج من الشئ، وفي اللغة العربية يدل لفظ “الوجود” علي معني الحضور، ثم نقل إلي معني آخر هو “الكون” أو “العالم”، فأصبح لفظ “الوجود” رمزاً اجتماعياً “للكون” بكل ما فيه لأن الكون يفيد دائما وفي أي مفهوم معنى الحضور، أي المثول وعدم الغياب عن البصر أو البصيرة، ثم نقل اللفظ إلي الفرد فلم يعد مقصوراً على الكون؛ لأن الإنسان رمزاً للكون ودليلاً علي قيامه، ومن جانب آخر فإن المثول وعدم الغياب ينصرفان بادئ ذي بدء إلي الفرد حين يراد إثبات حضوره، ومن ثم يقال أنه موجود، ويستفاد من ذلك أن لفظ الوجود في اللغة العربية، بدلالته الكلية (الكون) أو الجزئية (الفرد) يتضمن نفي الاستغلاق، ويفيد معني الإحالة المتبادلة بين الجزئي والكلي أي بين الفرد والعالم فوجود الكون يعنى حضوره في العالم، ووجود الكون يعني حضوره بإزاء الفرد-أما الذات المغلقة التي لا إحالة بينها وبين الوجود الكلي، فهي ذات وهمية لا يمكن أن تكون، وبالتالي لا يمكن أن توجد. (أنظر: تاريخ الوجودية في الفكر البشري، المستشار سعيد العشماوي، ط3، بيروت: الوطن العربي, 1984م، ص19-21).
- [2]أنظر: فلسفة سارتر، تأليف: عبد الفتاح الديدي، مكتبة الأنجلو المصرية، 1971م، ص71.
- [3]أنظر: أفيون الشعوب، المذاهب الهدامة، عباس محمود العقاد الطبعة السادية، القاهرة: دار الاعتصام، 1977م، ص108.
- [4]أراء فلسفية في أزمة العصر، تأليف: أدريين كوخ، ترجمة: محمد محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، 1963م، ص267
- [5]أنظر: دراسات في الفلسفة الوجودية. د.عبد الرحمن بدوي، ص5.
- [6]هذا الأساس الفلسفي ليس جديداً مطلقاً؛ بل قديم قد الفلسفة فكأن “أنتستأنيس الكلبي” ينكر أن تكون الماهية كلية؛ بل يراها فردية إذ كأن يقول:”أني أري فرساً ولا أري الفروسية، “وكأن أفلاطون” يفرق بين المحسوسات وبين المثل كما كأن “أرسطو” يفرق بين الكلي والجزئي، وقد أثار “ابن سينا” مسألة العلاقة بين الكلي وجزيئاته التي تحولت فيما بعد إلي خلاف بين الواقعيين الذين يقولون بوجود الكليات وجودا واقعياُ وبين الأسميين الذين كانوا يرون الكليات مجرد ألفاظ أو أسماء وليس لها وجود واقعي وأن الجزيئات والأفراد هي الموجودة حقاً، (أنظر:تاريخ الفلسفة الحديثة –تأليف: أ.و.بن القارئ، ترجمة: عبد المجيد عبد الرحيم، ص228.
- [7]أنظر: المصدر السابق.
- [8]أنظر: العقائد والمذاهب، تأليف: الأستاذ. عباس محمود العقاد، دار الكتاب اللبناني، ص388.
- [9]دراسات في الفلسفة الوجودية: د.عبد الرحمن بدوي، ص47.
- [10]هو إقطاع الرجاء وضياع الأمل، ويراد به القنوط: ولا تقنطوا من رحمة الله، أي: لا تيأسوا، وكل يأس في القرآن هو قنوط، إلا الذي في صورة الرعد فأنه بمعني العلم: واليأس خطيئة دنيئة؛ لأنه كفر بنعمة الله وخطيئة أخلاقية؛ لأنه اعتاد علي النفس وانتحار أدبي تدريجي، واليأس المطلق هو الموت، (أنظر: المعجم الفلسفي، د.جميل صليبا، ج2، ص587).
- [11]معني الوجودية: تأليف: د.عبد المنعم الحفني، ط2، مكتبة مدبولي، ص47-50.
- [12]الوجودية: جون ماكوري، ترجمة: د. إمام عبد الفتاح إمام، مراجعة: د.فؤاد زكريا، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، 58، 1982م، ص11.
- [13]هذه الوجودية، تأليف: بول فولكييه، ترجمة، محمد عناني، ط2، دار بيروت، 1956م، ص48.
- [14]أنظر: مدخل إلي دراسة الفلسفة المعاصرة، د.محمد مهران، دال الثقافة للنشر والتوزيع، 1984م، ص97
- [15]الوجودية مذهب أنساني، سارتر، ص10-11.
- [16]أنظر: مشكلة الفلسفة، د.زكريا إبراهيم، مكتبة مصر، ص233.
- [17]أنظر: مدخل إلى الفلسفة المعاصرة، د.محمد مهران، ص118.
- [18]أنظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي، ص320-321.
- [19]أنظر: الفلسفة المعاصرة، د.وليم فرج، ص193.
- [20]أنظر: سورين كيركجورد، د.علي عبد المعطي، ص475-477.
- [21]أنظر: الماركسية في الفلسفة حسني ناثان، ص23-24.
- [22]أنظر: فلسفة جأن بول سارتر، ص256.
- [23]أنظر: المصدر السابق، ص256-157-258-265.
- [24]أنظر: مع الفيلسوف، ص237-238.
- [25]أنظر: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي، ص 320-321.
- [26] أنظر: الرد علي إلحاد سارتر، فؤاد كامل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985م،ص37.
- [27] أنظر: الوجودية نزعة إنسانية، سارتر، 25-26.
- [28] أنظر: الوجودية والغثيان، محمد جواد مغنية، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1397م،1997م،ص43-44.
- [29] أنظر: الوجودية، جون ماكوري، ص 126-142-143.
- [30] أنظر: الفلسفة المعاصرة، د.محمد مهران، ص120.
- [31] أنظر: المصدر السابق، ص120.
- [32] أنظر: الإسلام والمذاهب الفلسفية، د.محمد مصطفى حلمي، الطبعة الأولي، دار الدعوة للطباعة والنشر،1405ه/1985م،ص226.
- [33] أنظر: دراسات في الفلسفة الحديثة، د. محمود حمدي زقزوق، ص244-245.
- [34] أنظر: معنى الوجودية، د.عبد المنعم الحفني، ص21-22.
- [35] أنظر: مع الفيلسوف .د.محمد ثابت الفندي، ص221.
- [36] أنظر: دراسات في الفلسفة المعاصرة، د.زكريا إبراهيم، ص521.
- [37] أنظر: الوجودية ليست فلسفة إنسانية، تأليف: جان كانابا، ترجمة، محمد عيتاني، دار بيروت للطباعة والنشر، 1954م، معني الوجودية، د.عبد المنعم الحفني، ص14.
- [38] الباءة النكاح، والأصل فيه المنزل استعمل في التزويج؛ لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً تسكن فيه.
- [39] رواه البخاري.
- الفلسفة الوجودية doc
مصادر ويب مفيدة لـ الفلسفة الوجودية doc