نظرية المحاكاة عند الفلاسفة المسلمين
- أ .فرحات الأخضري
- جامعة قاصدي مرباح ورقلة
- (الجزائر)
لقد عرض الفلاسفة المسلمون بدورهم نظرية المحاكاة في شروحهم لكتـاب أرسطـو (فن الشعر) و أبـدوا كثيرا أو قليلا من الدقة في استعمال المصطلح ” محاكاة ” للدلالة على النظرية؛ كما ميزوا بين أنـواع فيهـا حـين تحدثوا عن المحاكاة و التخيل و التمثيل والصور و الخرافة. (1)
فأبو نصر الفارابي يستهل رسالته في قوانين صناعة الشعراء بالحديث و التمييز بين جملة من الأقاويل، و منها الأقاويل الشعرية ” فالأقاويل منها ما هي جازمة، ومنها ما هي غير جازمة. و الجازمة منها ما هي صادقة، و منها ما هي كاذبة؛ و الكاذبة: منها ما يوقع في ذهن السامعين الشيء المعبر عنه بدل القول، ومنها ما يوقـع فيـه المحاكى للشيء، و هذه هي الأقاويل الشعرية. “. (2)
ثم يردف مميزا بين أنواع المحاكاة في الشعر فيقول: ” و من هذه المحاكية ما هو أتم محاكاة، و منها مـا هو أنقص محاكاة” (3). كما يراوح الفارابي بين المحاكاة و الإيهام والتمثيل حين يرى أن: ” الحال التـي تعـرض للناظر في المرائي و الأجسام الصقيلة فهي الحال الموهمة شبيه الشيء”(4) ثم هو يعتبر القول الشعري أحد فرعي القياس الذي هو بالقوة، والذي يكون إما استقراء و إما تمثيلا: “و التمثيل أكثر ما يستعمل إنما يستعمل في صـناعة الشعر، فقد تبين أن القول الشعري هو التمثيل”(5) و يعرض علينا الفارابي تقسيما آخر للقياسات و الأقاويل: فمنهـا الأقاويل البرهانية و منها الأقاويل الجدلية، و الأقاويل الخطبية، و كذا الأقاويل السوفسطائية، و الأقاويل الشعرية و هي جميعها تشترك في كونها أنواعا من السولوجسمـوس. و بعد أن يعرض بالشرح لتنـوع الأقاويـل الشـعرية بالوزن وبالمعاني و يعدد أصناف أشعار اليونانيين يستعمل من جديد المحاكاة بمعنى التشبيه وذلك أثناء حديثه عـن الطبع والروية في صناعة الأشعار” إن الشعراء إما أن يكونوا ذوي جبلة وطبيعة متهيئة لحكاية الشعر و قولــه ولهم تأت جيد للتشبيه والتمثيل…” (6) و هؤلاء “غير مسلجسين بالحقيقة لما عدموا من كمال الروية والتثبـت فـي الصناعة” و “إما أن يكونوا عارفين بصناعة الشعـراء حـق المعرفــة … و يجودون التمثـيلات و التشـبيهات بالصناعة وهؤلاء هم المستحقون اسم الشعراء المسلجسين”. (7)
و يذكر لنا الفارابي مراتب التشبيه، و درجة المشابهة، و يعقـد مقارنـة بين الشعــر و صناعة التزويق لما بينهما من مناسبة فلا يختلفان عنده إلا في كون موضع إحداهما صناعة الأقاويل، و موضع الأخرى الأصـباغ “إلا أن فعليهما جميعا التشبيه وغرضيهما إيقاع المحاكيات في أوهام الناس وحواسهم”(8)
فالفارابي يستعمل مصطلح “المحاكاة” و يعد الشعر قائما عليها سواء في ذلك اليونان أو عند الأمم الأخرى، و كما وظف أبو نصر هذا المصطلح وظفه أبو علي ابن سينا حين استعمل المحاكاة بمعنى التخييل: ” إن الشعر هـو كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية و عند العرب مقفاة”. (9)
و الكلام المخيل عند ابن سينا هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن أمور، وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر “.(10)
و بعد أن يفصل القول في الكلام المخيل، ويذكر مهمة الشعـر، و أنه يقـال للتعجيــب و للأغـراض المدنية كما عند اليونانيين يميز مثل الفارابي بين الخطابة و الشعر؛ ولا يفتأ منبها على ما يخص اليونانيين في كـل مرة كأنواع أشعارهم، ثم يعقد فصلا كاملا لأصناف الأغراض الكلية و المحاكيات الكلية التي للشعر فيوحـد بـين الخرافة و القول المخيل. ثم إننا نجده فيما بعد يقارب بالمحاكاة مفهوم الصورة في النقد العربي حين يقول ” كل مثل و خرافة فإما أن يكون على سبيل تشبيه بآخر، و إما على سبيل أخذ الشيء نفسه لا على ما هو عليه، بل على سبيل التبديل و هو الاستعارة و المجاز… و المحاكاة هي إيراد مثل الشيء و ليس هو هو”. (11)
و في خلال جميع شرحه لفن الشعر يظل أبو علي يـراوح بين المحاكـاة والتخييـل و الخرافة و الصـور البيانية فبعد أن يعرض للشعر اليوناني و أنواعه، و مما تتركب أوزانه يذكر محاكاة الفضـائل ومحاكـاة القبـائح(الرذائل) و أغراض المحاكاة التي تكون للتحسين، أو للتقبيح، مميزا خلال ذلك بين محاكاة الأفعال و الأحوال عنـد اليونان، و محاكاة الذوات التي في أشعار العرب، ثم يعود ليذكر بأن ثمة محاكاة للتشبيه المقصود منه المطابقـة وحسب، أي لا يقصد بها لا التحسين و لا للتقبيح.
و أما أبو الوليد بن رشد فلا يكاد يند عن زميليه في استعمال لفظ المحاكاة بل نجده يقارب بمدلول المصطلح سابقيه. ففي تلخيصه لكتاب فن الشعر، و بعد أن ذكر غرضه الذي هـو تلخـيص الكتاب الذي ” كثير مما فيه هي قوانين خاصة بأشعارهم – اليونانيين – وعادتهم فيها إما أن تكون نسبا موجودة في كلام العرب، أو موجودة في غيره من الألسنة ” (12) عرف الأقاويل الشعرية بأنها: ” هي الأقاويـل المخيلـة، وأصناف التخيل و التشبيه ثلاثة: اثنان بسيطان، و ثالث مركب منهما…” (13) و يلحظ مراوحة ابـن رشـد بـين المحاكاة والتخييل والتشبيه، فإذا أطال شرحه انزاح بالمعنى إلى عموم الصور البيانية شأن ابن سينا فمـن التشـبيه البسيط إلى التشبيه البليغ إلى الإبدال و الكناية فالاستعارة على التوالي، و كذا التشبيه المقلوب: ” و أما القسم الثـاني فهو أن يبدل التشبيه، مثل أن نقول: الشمس كأنها فلانة…”. (14)
و في أثناء مقابلته بين المحاكاة بالأفعال و المحاكاة بالأقوال و الألوان و الأشكال يشـير إلـى الطبـع والصناعة، و يعرج على الأقاويل الشعرية و أنها: “تكون من قبل ثلاثة أشياء : من قبل النغم المتفقـة، و مـن قبـل الوزن، و من قبل التشبيه نفسه “(15) و يذكر بأنه قد يوجد كل واحد منهما منفردا كما يمكن أن يجتمع: “هذه الثلاثة بأسرها مثلما يوجد عندنا في النوع الذي يسمى الموشحات و الأزجال” (16) و من هذه الزاوية يمكن أن يعتبر أبـو الوليد أقرب إلى فهم مقاصد أرسطو. أو على الأقل يفهم من عبارته إدراكه للمحاكاة التي تحدث عنها أرسطو وأنها تكون بالأقاويل الشعرية ، وبالأنغام ، وبالهيئات .
-و لقد تتضح لدى ابن رشد أكثر من سابقيه فكرة محاولة تنزيل “فن الشعر” تنزيلا يخدم الشعر العربي، و البحث لمضمونه عن مقابلات في ثقافته العربية و كأنه يريد أن يجعل من الكتاب أكثر فائدة و يظهر ذلك بوضـوح في معرض حديثه عن المحاكاة حين يجمع بينهــا و بين التشبيه مع عدم إغفال نوعيها الآخرين: محاكاة الفضائل ،و محاكاة الرذائل المقصود منهما التحسين و الترذيل على التوالي؛ و يطيـل الحـديث و الوقـوف عنـد تشـبيه المطابقة.(17)
و كالفارابي و ابن سينا نجد ابن رشد يشرح كتاب (فن الشعر) على شدة الاقتضاب فيمر على أهم ما فيـه من فصول كالعلل المولدة للشعر و لا يفوته في كل ذلك الإلماح إلى ما يجعل المحاكاة ناجحة أو تامة <<… و هي الإشارات و الأخذ بالوجوه… >> (18) و لنا أن نفترض أنه كان يقصد الأقنعة في المسرح اليوناني.
و لا علينا أأصاب ابن رشد في شرحه الكتاب أم أخطأ قليلا أو كثيرا بقدر ما يهمنا ههنا استعماله لمصطلح ” محاكاة” استعمالا فنيا، لم يبتعد فيه عما قرره أسلافه من الفلاسفــة؛ و إن تميز شرحه بمحاولة تنزيل صريحة لما في فن الشعر تنزيلا عربيا يتماشى و الشعر الغنائي و يتضح ذلك في كثير من استشهاداته بالمادة الشعرية العربية.
و إذا فالذي كان يوجه الفلاسفة المسلمين في شروحهم لكتاب (فن الشعر) إنما هو منطلقهم الثقافي العربي البياني، و تصورهم المميز للشعر العربي الغنائي تحديدا؛ ذلك التصور الذي نحسبه وراء مصـطلحهم عمومـا، وانتقائهم لمفهوم المطابقة و التشبيه في المحاكاة مع وجود الإشارة إلى أصنافها الأخرى و تنوعها.
و حتى انزياحهم بمدلول المحاكاة عما كان يريده لها أرسطو (19) لم يكن إلا استجابة لمقتضـى ثقـافتهم الشعرية العربية فكانت ترد بمعنى التخييل مرة، و أخرى بمعنـى الصــورة. و ثالثة بمعنى الخرافة أو التمثيل و التمويه، و في كل ذلك عطفوا على المقابلة بين الشعـــر و بعض الفنون الأخرى كالموسيقى، و الرسم، و هـم يدركون في ذلك مكانة الشعر في دائرة الفنون فهو في الثقافة العربية البيانية ديوان العرب/ و مجمع علومهم. و مع ذلك كله فإن سؤالا ملحا يظل مطروحا و هو ما مدى إفادة الأدب و النقد العربيين القـديمين مـن شـروح أولئـك الفلاسفة على <<فن الشعر>> لأرسطو؟
إن هذا السؤال سيزداد إلحاحا إذا ما علمنا أن الفلاسفة الشراح لم يبتعدوا في حقيقة الأمر كثيرا عن الطرح البياني و الرؤية البيانية في فهم الشعر و قضاياه. فظلوا لذلك محكومين بثقافتهم العربية و الإسلامية و مقتضياتها و مع ذلك كله لم تلق جهودهم تلك ما يقابلها من حفاوة و انتفاع بها. بل لقد قوبلت إنجازاتهم في كثير من الأحيـان –كما سيتضح بعد- بكثير من الإزدراء و التهكم من ثقافة الآخر.
حقا إن الناظر في جهود الفلاسفة المسلمين تلك، و المطلع على ترجمات <<فن الشعر>> على اختلافها و تباين ما بينها في الدقة يلحظ أمرا غريبا، و هو عدم تأثر النقـــد و البلاغة العربيين و حقل الأدب عموما بتلـك النقول و الشروح؛ بل إنه ليمكن الادعاء بان جهود أولئك المترجمين و الشراح كانت محدودة التأثير إن لـم تكـن معدومته على الأقل قبل ظهور حازم القرطاجني في القرن السابع الهجري و الذي يعد استثناء في ميدانه كما سيتضح فيما بعد. فما مدى صحة هذا الادعاء؟ و كيف تعامل النقاد العرب القدامى مع المحاكاة؟
لقد سبقت الإشارة في المدخل من هذا البحث إلى أن بعض الباحثين المحدثين ينحو باللائمة على الفلاسـفة المسلمين صراحة، و يرى بأن عدم فهمهم لحقيقة كتاب (فن الشعر) كان وراء إخفاقهم، و بالتـالي حرمـان الأدب العربي كله من الفائدة: “و إلا لعني الأدب العربي بإدخال الفنون الشعرية العليا فيه، و هي المأساة و الملهاة منذ عهد ازدهاره في القرن الثالث الهجري، و لتغير وجه الأدب العربي كله، و من يدري ! لعل وجه الحضارة العربية كله أن يتغير طابعه الأدبي كما تغيرت أوروبا في عصر النهضة”. (20)
و لكن هذه الدراسة ترى بان هناك أسبابا أخرى كانت وراء عدم الإفادة من كتاب (فـن الشـعر)، و مـن ترجماته و أول تلك الأسباب هو أن ترجماتهم لكتاب (فن الشعر) إنما كانت عملا يندرج ضمن مهمة ضخمة هـي اضطلاعهم بترجمة الفلسفة الإغريقية، و علوم الطبيعة و الرياضيـات و الحساب والطب، وعملا اسـتدعته لـدى الفلاسفة و المترجمين عملية استكمال ترجمة كتب أرسطو في المنطق (الأورغانون)وشرحها.
ثم إن العناية (بفن الشعر) لأرسطو إنما كانت تعكس الاهتمام البالغ بنتاجه، و تترجم المكانة التـي كـان أولئك الشراح يولونها للمعلم الأول و لفلسفته فلم يغادروا و هم يترجمون فلسفته رأيه في الشعر و الخطابة.
-أما أن المترجمين قد أخفقوا في مهمتهم قليلا أو كثيرا فلذلك أسباب واضحة كاعتمادهم علـى الترجمـة السريانية للنص اليوناني؛ و غير ذلك من الأعذار التي يمكن للباحث تلمسها لهـم. و أما أن الفلاسفة لـم يفهمـوا حقيقة الكتاب فهذا كلام فيه نظر، و لا تميل هذه الدراسة صراحة إليه. هذا من ناحية و من جهة ثانية فإن قضـية عدم فهم (فن الشعر) على فرض وجودها و عدم الإفادة منه لا تقع تبعاتها على الفلاسفة المسـلمين وحـدهم. بـل الصواب أن يتحمل جزءا كبيرا منها نقلة الفلسفة اليونانية الأوائل بترجماتهم، كما يتحملهـا دارسـو النقـد والأدب اللصيقون به، و القائمون عليه باعتبار أنهم أصحاب الكلمة الأولى و الأخيرة فيه.
-و في الحق فإن تقصي فهوم الفلاسفة المسلمين لكتاب (فن الشعر) من خلال شروحهم يوقف الباحث على أنهم قد قدموا أعذارهم بين يدي شروحهم بلغة واضحة، فيها
كثير من التواضـع، و كذا التنبيه على أن الأمر إنما هو من اختصاص أرباب الأدب والشـعر و الفنـون أساسا.
فالفارابي يعتذر عن استقصائه في هذا المبحث و يقول: “… من غير أن نقصد إلى استيفاء جميع ما يحتاج إليه في هذه الصناعة و ترتيبها إذ الحكيم لم يكمل القول في صناعة المغالطة فضلا عن القول في صناعة الشعر ..” (21). ثم نجده يصرح بان مسؤولية الاستقصاء تلك إنما تقع على المختصين: ” و الاستقصاء في الأتـم منهـا (أي المحاكــاة) و الأنقص إنما يليق بالشعراء و أهل المعرفة بأشعار لسان لسان، و لغة لغــة ولذلــك ما يخلـى ..” (22) و يختم شرحه بالاعتذار عن أن الاستقصاء في عملية الشرح تتطلب تفرغا هو لا يملكه. (23)
و أما ابن سينا فيقرر في آخر تلخيصه أن: ” هذا هو تلخيص القدر الذي وجد في هذه البلاد … و أما ههنا فلنقتصر على هذا المبلغ، فإن وكد غرضنا الاستقصاء فيما ينتفع به من العلوم” (24) و كأن أبا علي بهذه العبـارة الأخيرة يريد القول بان عملية شرح فن الشعر إنما كانت لديه نزولا عند الضرورة التي لابد منها و هـي محاولـة الاطلاع على كلام الحكيم في فن الشعر إجمالا من دون تفصيل ليس إلا؛ و أما المهمة الحقيقية للاستقصاء منه فهي في غير هذا من المنطق و الرياضيات و سائر العلوم. و إنه إذا صح هذا الفهم و رجح فلاشك يكـون مـن أفتـك العبارات و أدعاها لزهد الناس في فن الشعر و صناعته في المجتمع الإسلامي بعده لما كان يتمتع به أبو علي بـن سينا و فكره من رواج و انتشار في الأوساط الفكرية المختلفة و لأسباب لا يسمح المقام ببسطها ههنا. و تغدو حينئذ عبارة أبي نصر التي ختم بها شرحه المختصر جدا (لفن الشعر) و التي رأى فيها الدكتور بدوي مـدعاة للضـحك ألطف كثيرا من هذه الكلمة؛ فهو على الأقل ترك أملا في العودة إلى الكلام عن الشعر و لكنه إنمـا اكتفـى بتلـك القوانين الكلية التي (ينتفع بها في إحاطة العلم بصناعة الشعراء): و هو قوله “و لذلك ما لم يشرع …”. (25)
وكذلك يفعل ابن رشد حين نجده قد تفطن إلى أن (فن الشعر) لم يترجم على التمام (26) و يقرر في تواضع جم:” فهذا هو جملة ما تأدى إلى فهمنا مما ذكره أرسطو في كتابه هذا .” (27).
– و تميل هذه الدراسة صراحة في كون شروح هؤلاء الفلاسفة لم تؤد تأثيرها
المنتظر في النقد و الأدب العربيين إلى أن الثقافة العربية البيانية كانت قد أرست قواعدها، وتبلـورت خصائصـها المميزة لها لما طلع الفلاسفة الإسلاميون بشروحهم لكتاب (فن الشعر) منذ الفارابي على الأقل، و معنى ذلك أن تلك اللحظة التاريخية كانت لحظة احتكاك بين الثقافتيـن العربيــة و اليونانية و غيرها من الثقافات المجـاورة، بـل كانت لحظة زحام وصدام بين ثقافتين، و بين نظامين معـرفيين فيهمـا: نظـام معرفـي بيـاني مكتمـل الأدوات منهجـــا ورؤية، و نظام معرفي برهاني هو كذلك، و كانت قد بدأت تتحرك طلائعه على الساحة الثقافية العربية الإسلامية من خلال حركة الترجمة النشطة لثقافة الآخر. يضاف إلى ذلك ما كان في أيـام الجـاحظ ممـا عـرف بالحركة الشعوبية، و ما استدعته لدى حماة الثقافة البيانية من توجس، ثم من استنفار لكل الطاقـات للحـؤول دون هيمنة الثقافة الوافدة؛ آل مع الأيام، إلى نوع من الزهد في الآداب المجاورة بلغ حد التهكم من ثقافة الآخر على نحو ما ترسمه عبارة صاحب المثل السائر معلقا على ما جاء في الشفا لابن سينا حين حديث هذا الأخير عـن أشـعار اليونانيين: ” فإنه طول فيه و عرض، كأنه يخاطب بعض اليونانيين “(28)
و إنه لمن اليسير الرجوع بهذه الصورة لديهم عن الثقافات الأخرى المجاورة لهم وبخاصة فيمـا يتعلـق بالآداب و الفنون إلى اللحظات الأولى التي كانت قد بدأت تتشكل فيها داخل المحيط الثقافي العربي الإسلامي. و لعل من أشهر تلك اللحظات التاريخية ما تذكره مصادر الأدب عن المناظرة الشهيرة التي جمعت أبا سـعيد السـيرافي بصاحبه متى بن يونس في مجلس ابن الفرات، و التي تعكس بحق حدة ذلك الصراع الذي كان قائما بين النحـاة وبين المناطقـة و الذي كان قد حسم لصالح النحاة، فاستبعد المنطق الأرسطي من الثقافة البيانية –الأدبية على الأقل- بحجة أنه “لا مجال لإحداث لغة داخل لغة قائمة بمنطقها”.
و إذا فاللغة العربية لها منطقها الخاص بها، و الذي اجتهد النحاة في صياغته ووضع قواعده و آلياتـه. و في جملة إنه منطق النحو و الذي هو في الأخير منطق البيان.
و مع أن أبا نصر الفارابي كان قد حاول –بما أوتيه من سعة في الإدراك، و معرفة دقيقة بالمنطق و كـذا باللغة و نحوها- تقريب المنطق، و تبيين حدوده، و بلغة تعليمية بيانية يسيرة كما في كتابه (إحصاء العلوم)؛ و فـي محاولة للانتصار للمنطق العقلي الكلي، و تبيئته
في الثقافة العربية الإسلامية مبرزا الفروق الجوهرية بين المنطق (العقلي) الأرسطي الكلي وبـين المنطـق النحوي الخاص بكل لغة إلا أن محاولة الفارابي تلك كانت قد قوبلت بالتجاهل، وبإهالة التراب عليها مـن طـرف البيانيين.
و إذا فأعلام الأدب و النقد و الشعر كانوا يحسون بهذا الامتلاء، و بهذا الغناء في عالمهم فلم يكن لـديهم كبير تطلع إلى ما عند الأمم الأخرى من آداب و فنون.
فإذا أضيف إلى ذلك إدراكهم لما في تلك الآداب غير العربية، و اليونانية منها على وجه الخصوص –من اهتمام بالخرافات و الأساطير، و من تجسيم للآلهة علمنا الدافع الحقيقي في زهد القوم في تلك الآداب، إلا أن ذلـك كله لا يقود حتما إلى الزعم بأن المجتمع العربي الإسلامي لم يكن منفتحا على العالم القديم في الجوانب الفكريـة والثقافية العلمية الأخرى. (29)
– نظرية المحاكاة و النقد العربي القديم:
-إن عملية تقصي جميع آثار النقد العربي القديم المتاحة بحثا عن آثار المحاكاة وحديثها بينها يكاد يكـون عملا مستحيلا، و مع ذلك فإن هذه الدراسة ستقتصر في تتبع المفهوم لدى نقادنا العرب القدامى على أبرز الأعلام.
و لقد يكون من السهل اعتبار أن الأدب العربي القديم و في جانب الشعر منه خصوصا بما هو ممارسـة فنية كان قد عرف المحاكاة، و وظفها الشعراء في إبداعاتهم؛ إلا أن من اشتهر من النقاد القدامى في مقابل ذلك لـم يكونوا قد خاضوا في النظرية خوضهم فيما سواها من قضايا الشعر و النثر و ذلك لأسباب أهمها اتجـاه المباحـث النقدية أول أمرهـا –و لظـروف ثقافيــة و تاريخية يطول شرحها- وجهة مخصوصة ذات طابع بياني تطبيقي ثم هي بعد ذلك امتزجت بالدراسات الإعجازية. و النظر في جهود أولئك النقاد يوقف على أنهم لم يعرفوا نظريـات المحاكاة المشهورة كما في فن الشعر لأرسطو. و معنى ذلك أن النقد العربي القديم؛ مع أنه تداول بعـض مفـاهيم المحاكاة – بشيء من التحفظ- و ما يتنزل تنزل المحاكاة البسيطة، إلا أن النقاد لم يوظفوا صراحة شيئا مـن قبيـل محاكاة التحسين و لا محاكاة التقبيح و الترذيل، أو المحاكاة التامة و الجزئية و لا هم عرضوا في مباحثهم لشيء من محاكاة الجوهر أو محاكاة المثل الأعلى.
و لو عدنا إلى أشهر مؤلفات النقد العربي القديمة كطبقات فحول الشعراء، لابن سلام، أو الشعر و الشعراء، و أدب الكاتب لابن قتيبة، أو حتى البيان و التبيين للجاحظ –على فرض أنه كان يعنـي بثقافة الآخر، و يتحدث عن البلاغة عند الأمم الأخرى- أو غيرها، لم نعثر على هذه المفردة بمدلولها الاصطلاحي على نحو ما نلقاه عند الفلاسفة المسلمين و عند حازم القرطاجني. و حتى أولئك النقاد المنظرين و الذين كانت لهـم أسباب تربطهم بالفلسفة والمنطق من بعيد أو من قريب كابن طباطبا، و قدامة لا نعثر لديهم على المصطلح فضـلا عن الخوض في تفاصيله. و يكفي الباحث أن يقف على تعاريف أغلب النقاد للشعر في القرون الثاني و الثالـث والرابع و الخامس من الهجرة و كذا السادس، حتى يعلم أنهم لم يلتفتوا أصلا إلى المحاكــاة و لا أشاروا إلى أنهـا أساس في العملية الشعرية.
فقدامة بن جعفر يعرف الشعر بأنه “قول موزون مقفى يدل على معنى” (30). فهو يركز بذلك فـي حـده للشعر على الوزن و القافية و اللفظ و المعنى، و لا يمكن لنا أن نفهم أكثر من ذلك من النص. و أما ابـن طباطبـا فالشعر لديه: “كلام منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطبتهم بما خص به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته الأسمــاع، و فسد على الذوق”. (31)
و هذا كلام خال من أية إشارة للمحاكاة؛ بل يركز فيه قائله على البينونة القائمة بين الشـعر و النثـر، والمتمثلة في النظم و الإيقاع.
و نظرة في المشكلات التي كانت تستقطب اهتمام النقاد، و أهم القضايا التي تمرسوا بها خـلال القـرنين الثالث و الرابع الهجريين، و كذا القرن الخامس في المشرق الإسلامي تكفي للخروج بانطباع كاف علـى أنهـم، وحتى إلى غاية القرن السادس إذا أردنا الدقة –لم يخوضوا في المحاكاة، و لا نجد لها أثرا في ما عالجوه من قضايا الشعر، فلا الآمدي و لا الحاتمي، و لا القاضي الجرجاني و لا التوحيدي، و لا أضراب هؤلاء ممن يضيق المجـال بتعدادهم، فضلا عن الاستنجاد بمقولاتهم- ذكر المحاكاة من بعيد أو من قريب.
و مع أن الدكتور إحسان عباس يعتقد بأن عبد القاهر الجرجاني –و هو من أعلام القرن الخامس إن لم يكن أهمهم في مجال النقد باثريه الشهيرين: (الدلائل)، و (الأسرار)- كان قد تناول فكرة التخييل (32). و يورد عبـارة عبد القاهر في أسرار البلاغة: ” … ما يثبت فيه الشاعر أمرا هو غير ثابت أصلا، و يدعي دعوى لا طريق إلـى تحصيلها، و يقول : “قولا يخدع نفسه و يريها ما لا ترى”(33). إلا أن الدكتور يستدرك بعد ذلك بأن عبد القاهر لم يفهم من التخييل سوى كونه درجة من الحيل العقلية في التمويه. (34)
و يذهب إلى نحو من هذا الرأي الدكتور شكري محمد عياد حين يرى عبد القـاهر الجرجـاني يسـتعمل التخييل بمعنى المحاكاة في حديثه عن المعاني المبتدعة. و لكننا نستبعد ذلك في ظل ما نعلمه عن المنطلقات الفكرية التي يصدر عنها عبد القاهر الجرجاني في أحكامه النقدية؛ و لأنه كان في بحوثه البلاغية في كتابيه يعنـي بفكـرة الإعجاز في القرآن الكريم على نحو ما يفعل علماء الكلام قاطبة معتزلة و أشاعرة؛ و لذلك نجـده يـرفض فكـرة المعاني المخيلة في مقابل ما يسميه المعاني (العقلية). (35)
و الواقع أن في مثل هذه الفهوم ما لا يخفى من تمحل، و تحميل للنصوص أكثر مما تحتمله؛ و ربما كـان وراء ذلك بعض ما وقر لعبد القاهر الجرجاني من مكانة في نفوس بعض الدارسين، و ما يكنه الكثيرون من تقـدير لهذا الناقد المتميز، فيهيأ لهم بأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلى أحصاها.
-و لا شك أن عبد القاهر الجرجاني كان يمثل أوج الدراسات النقدية والبلاغيــــة والإعجازية إلـى زمانه. إلا أن ذلك كله لا يحمل على القول بأن شيخ البلاغيين العرب كان قد انخرط في مباحث المحاكاة، أو أنـه كان متأثرا بمنطق البرهان الأرسطي؛ و إنما الصحيح أن الجرجاني كان يمثل قمة التفكير البياني منهجا و رؤية، و هو واحد من خيرة من نافح عن حياض البيان العربي و آلياته بأدوات البيان نفسها و آلياته.
-و لسوف نلتقي في الأندلس و في المرحلة نفسها أي بدءا من القرن الخامس الهجري بنخبة مـن النقـاد يوظفون مصطلح المحاكاة و التخييل على ما في نقودهم من بساطة، و عدم جدة أو تميز إلا ما نادى به ابن حـزم من ترك للتقليد، و عودة إلى الأصول؛ و على ما في نقودهم من ارتباط بالنظرة الأخلاقية. ففضلا عن كـون أبـي الوليد بن رشد قد شرح و لخص (فن الشعر) لأرسطاطاليس وجدت مفردة التخييل في الأوساط النقديـة، ووظفهـا بعض نقاد الأندلس على تفاوت بينهم في دلالة المصطلح لدى كل منهم، كالشأن مع ابن خفاجة (533هـ) و كـذا الشقنـدي (629هـ) و على نحو ما عند ابن دحية الكلبي (633هـ)، أو ابـن سـعيد صـاحب المغــــرب(685هـ) و غيرهم.
-و في مقابل ذلك كله نستطيع إذا نحن نظرنا إلى مباحث التشبيه والمجاز والاستعارة والصورة (36) بوجه عام –على أنها انحراف بفكرة المحاكاة إلى مدلولها البسيط –أن نعدها ضربا من المحاكاة التي اشتغل عليها النقـاد منذ زمن الجاحظ أو حتى قبله بقليل.
و مع أن نقاد العربية القدامى لم يعرفوا المحاكاة بمفهومها الاصطلاحي الفلسفي –إلى غاية ظهور حـازم القرطاجني في القرن السابع الهجري فلنا أن نعتبر –و بشيء من التحفظ- أنهم دعوا ضمنيا إلى أحـد أشـكالها، ونعني بذلك (محاكاة المحاكاة). ذلك النوع من المحاكــاة و الذي ورد ذكره عند أبي نصر الفـارابي حـين قسـم الشعراء ثلاث فئات: شعراء جبلة و طبيعة، و شعراء مسلجسون مجودون، و “إما أن يكونوا أصحاب تقليد لهـاتين الطبقتين و لأفعالهما، يحفظون عنهما أفاعيلهما، و يحتذون حذويهما في التمثيلات و التشـبيهات…” (37) و هـذه المحاكاة هي التي كان لها أصداء في الآداب الرومانية القديمة لما دعا (كونتيليان Contilianus) إلى محاكاة الأدب الإغريقي، و سن لمحاكاته تلك القواعد المعروفة حين اطلع الرومان على أدب الإغريق، و انبهروا به. (38)
إنه على أساس من ذلك الفهم يكون من اليسير علينا أن نقول إن نقاد العربية في العصر العباسـي حـين اصطنعوا للشعر عمودا يقيم على أساسه الشاعر، و جودة شعره، و حين نادوا بضرورة التزام طريقة المتقدمين في النظم، وكذلك حين رتبوا على هذا مبحث السرقات الشعرية، و لما نظروا إلى النماذج الشـعرية الجاهليـة بعـين الإكبار. كل ذلك يمكن للباحث أن يعده ضمن هذا النوع من المحاكاة، والدعوة إليها.
و الجاحظ في محاولته لوضع قواعد لإنتاج الخطاب، في مقابل قواعد تأويل و تفسير الخطاب التي وضعها معاصره محمد بن إدريس الشافعي إنما كان يرسم طريقة بيانية عربية تتبع. والآمدي الذي نادى بعمود الشـعر، والمرزوقي بعده إنما كانا يريان هذا الاتجاه حينما كانا يريان في نموذج القصيدة العربية مثالا يجب أن يحتذي به، بل لا يجوز خرق قواعده.
و لقد كان يجوز من خلال هذا المنطلق، الزعم بأن نظرية المحاكاة كانت معروفة منذ بدايات النقد العربـي القديم، بل يمكن تلمس هذا الوجه من المحاكاة في أوليات ذلك النقد، و في خلال نصوص أشهر أعلامه كالأصمعي ،و أبي عمرو بن العلاء، و أضرابهما.
إنه ليمكن اعتبار ذلك كله لو لم يكن للمحاكاة حديث عميق، و شأن خطير مع مجيء حازم القرطاجني، و ظهور إنجازه النقدي ” منهاج البلغاء، وسراج الأدباء “. فما حقيقة المحاكاة مع حازم؟
نظرية المحاكاة عند حازم القرطاجني:
أ)- المحاكاة: من نظرية في الشعر و الفن، إلى محاكاة أرسطو منهجا و رؤية:
لاشك أن لقيمة الشعر عند حازم القرطاجني مكانة عظيمة، و أن الذي وفر تلك المكانة للشعر فـي نفـس حازم أمور و أسباب جمة ليس أقلها كونه أديبا شاعرا بين شعراء عصره على الأقل. كما كان واضحا أن لالتفـات الناس في عصره عن الشعر؛ والنظر إليه على أنه سقط متاع أثر جارح في نفسيته. وتلك النظـرة الزاهـدة مـن المجتمع في الشعر و مكانته و إمكاناته لم تكن مصادفة؛ و إنما هي دعوة روج لها عن قصد -و حازم يدرك ذلك- و كان وراءها شيوخ المنطق الفقهي و سيطرته على سائر مجالات الثقافة و الحياة، فتحجرت الأفكار بحيث غدا لا قيمة لأي معرفة لا يقول بها الفقهاء، بل ويفتي المفتون ببطلانها. فما كانت مقدماته كاذبة فهو كذب.
ولم يعد الأمر في أيام حازم القرطاجني مقصورا على مجرد زهد الناس في الشعر من حيـث إن مقدماتـه كاذبة؛ وانه لذلك يجب (الانصراف إلى المعاني العقلية)؛ بل: “الاستعداد الذي يكون بأن يعتقد فضل قول الشـاعر، وصدعه بالحكمة فيما يقوله فانه معدوم بالجملة في هذا الزمان؛ بل كثير من أنذال العالم -و ما أكثرهم- يعتقـد أن الشعر نقص وسفاهة. وكان القدماء من تعظيم صناعة الشعر واعتقادهم فيها ضد ما اعتقده هؤلاء الزعانفة، علـى حال قد نبه عليها أبو علي ابن سينا فقال: ” كان الشاعر في القديم ينزل منزلة النبي، فيعتقد قوله، ويصدق حكمـه، ويؤمن بكهانته(39) فأنظر إلى تفاوت ما بين الحالين: حال كان ينزل فيها منزلة أشرف العالم وأفضلهم، وحال صار ينزل فيها منزلة أخس العالم و أنقصهم”. (40)
-إن ما يمكن تقريره في هذا الموضع، هو أن التبرم بهذا الوضع الفني المتردي الذي آل إليه الشـعر، والهوان الذي صار إليه متعاطوه بعد أن كانوا (ينزلون منزلة النبي) لم يكن جديدا تماما على الساحة الثقافية العربيـة في أيام حازم (41). و إنما الجديد حقا في صيحة
حازم المتألمة من الوضعية هو أنها كانت تعكس تخمر الإشكال، و تفاقم حدته على عهده. ذلك من ناحيــة. و من جهة ثانية فإن موقف حازم لم يكن تجاه ذلك الوضع مجرد موقف المؤرخ الذي يرصد الظاهرة، و يكتفي بوصفها؛ بل إننا نجده عل عكس من أشار إلى كساد سوق الشعر، و بضاعته للأسباب المختلفة، نجد حازما قد جهد في وضع خطة لتصحيح الوضع، و علاج الموقف، ووضع الحلول التي كان يؤمن بجدواها للخروج بالشعر من أزمته.
و للحق فإن الأهداف المختلفة من ناقد إلى آخر، و كذا تباين المناهج و حتى المنطلقات التي كان ينطلـق منها كل ناقد في بحوثه النظرية أو التطبيقية هي التي كانت وراء اختلاف المواقف، و تباين الرؤى لدى كل مـنهم.
ففي حين يعدد صاحب العمدة أوجه المشكلة بإيراد عينات هي آخر الأمر جزئيات من الواقع تعكس تدني مسـتوى الذوق العام، و يتابعه في ذلك صاحب (نظرة الإغريض) حين يوصف ما آلت إليه حال الشعر و الشاعر من الهون بين الناس؛ و حتى عندما يقف صاحب (دلائل الإعجاز) في وجه المزرين على الشعر و صناعته و على صـناعة النحو، نلف حازما لا يكتفي بتشخيص الحالة، و نحس اختلاف زاوية التناول لديه في هذه القضـية بالـذات عمـن عرض لها من النقدة الأوائل. فهو أي (حازم) يتعمق في البحث عن أسباب الظاهرة بعيدها و قريبها؛ بل نجده ينتقل إلى مستوى ثان حين يحدد في شجاعة علمية فائقة المسؤولية الأخلاقية في حدوث هذه الأزمة فـي الثقافـة الفنيـة العربية الإسلامية، بل أكثر من ذلك هو يقترح مشروعا جديدا تماما في محاولة للنهوض بالشعر من كبوته. و فـي جملة، كان حازم يروم علاجا للمعضلة من أساسها، بحيث إنه كان يرى ضرورة إعادة تأسـيس للشـعر الغنـائي العربي بكل متعلقاته تأسيسا يقوم على البرهان؛ ذلك أن القرطاجني كان مؤمنا بأن التناول البياني للشعر و مباحثه و مسائله بات يدور في حلقة مفرغة بعد أن كان قد استهلك جميع أدواته، و استنفد جميع إمكاناته، و أنـه لابـد مـن البحث عن أدوات و آليات جديدة في التعاطي مع الأزمة الحاصلة فيه.
و إذا فحازم لم يكتف بتقرير الحقيقة المزرية الواقعة في زمانه وبين أهل زمانه، وتسجيل عـزوفهم عـن عالم الشعر؛ بل يتقصي البحث في أسباب ذلك ليجده افتقاد الاستعداد عند الناس لقبول الشعر و الإقبال عليـه. و إذا فالناس هم الذين تغيرت طباعهم، و افتقدوا لما كان يميز العرب الذين كانوا يعتقدون تأثير الشعر فـ: “هكـذا كـان اعتقاد العرب في الشعر
فكم خطب عظيم هونه عندهم بيت و كم خطب هين عظمه بيت أخر “. (42) و “لهذا ما كانت ملوكهم ترفع أقـدار الشعراء المحسنين، و تحسن مكافأتهم على إحسانهم “. (43)
بل إن الأمم الأخرى لتشاطر أمة العرب في هذه المزية، مزية تعظيم شأن الشعـــر، و نحس بعجـب حازم من أهل زمانه، و تردي أذواقهم- و كأنه لا يريد أن ينقضي حين يواصل متسخطا و شـارحا سـبب تفخـيم العرب للشعر الذي هان عند هؤلاء: <<فاتخذوا الإبل لارتياد الخصب و اتخذوا الخيل للعز و المنعـة، و اتخـذوا الكلام المحكم نظما و نثرا للوعظ، و الحض على المصالح>>. (44)
و يسجل حازم ملاحظته على أهل زمانه، و كيف استحكمت العجمة فيهم، فاختل لذلك طبعهم العربي، و لم يعودوا قادرين على التجاوب مع الشعر و هي ملاحظة دقيقة تشبهها ملاحظة ابن خلدون في سبب انحدار مسـتوى النثر في الزمان الأخير (زمانه) حين عزاه إلى العجمة في الأندلس (45). يقول حازم: “و إنما هان الشـعر علـى الناس هذا الهون لعجمة ألسنتهم، و اختلال طباعهم، فغابت عنهم أسرار الكلام و بدائعه المحركة جملـة، فصـرفوا النقص إلى الصنعة و النقص بالحقيقة راجع إليهم، و موجود فيهم”. (46)
و إننا لنحس المرارة التي كان يعانيها حازم جراء ما آل إليه وضع الشعر من هون خلال تتبعه لأسـباب الظاهرة، و هو كأنه يعذر الناس في فهمهم المغلوط لحقيقة الشعر، لأن طرق الكلام قد اشتبهت عليهم بسبب حثالـة من المسترفدين بالشعر ” ولكثرة القائلين المغالطين في دعوى النظم، و قلة العارفين بصحة دعواهم مـن بطلانهـا” (47). فاختلطت الأمور على الناس، و ضاع التمييز بين الشعراء و أشباه الشعراء، و بين جيد الشـعر و مسـفه ” فصارت نفوس العارفين بهذه الصنعة بعض المعرفة أيضا تستقذر التحلي بهذه الصـناعة… و حقهـا أن تهجـر” (48). ليس هذا وحسب. و ” لأن النفوس أيضا قد اعتقدت أن الشعر كله زور، و كذب …”. (49)
و المسألة ههنا لم تعد مجرد توجه عند الناس بل غدت اعتقادا فشا بينهم، و المسؤولية فيه تقع على من رسخ هذا الاعتقاد في الناس، و لا يتردد حازم في تحديد المسؤوليات، و الجهة التي كانت وراء شيوع هذا الفهم الفاسد في نفوس الناس، كما لا يتحرج في نعتهم بأنهم فئة لا علم لهم بالشعر، و أنه كان الأحرى بهم حين قصرت طباعهم ألا يخوضوا في ذلك بغير تحقيق.
ولنا أن نسأل حازما عن هؤلاء الذين أشاعوا في الناس أن الشعر زور وكذب من هم؟ وتجـيء إشـارته بأصبع الاتهام صريحة إلى زمرة النقاد الذين قالوا بكذب الأقاويل الشعرية في مقابل الأقاويل الأخرى: البرهانيـة،والجدلية، والخطبية، والسوفسطائية، ولا ينفك اللوم واقعا عليهم حتى إذا هم لم يقصدوا إلى ذلك لأنه: <<إن كـانوا ممن ليس لهم به علم –أي الشعر- وما أجدرهم أيضا بهذا! فكان يجب عليهم أن يتعلوا، أو لا يتكلموا فيما لم يعلموا “(50). فإذا نحن ألحينا على حازم بأن يحدد لنا هؤلاء المتهمين جاء جوابه: “و إنما غلط في هذا – فظن أن الأقاويل الشعرية لا تكون إلا كاذبة- قوم من المتكلمين لم يكن لهم علم بالشعر، لا من جهة مزاولته، و لا من جهة الطـرق الموصلة إلى معرفته. ولا معرج على ما يقوله في الشيء من لا يعرفه، ولا التفات إلى رأيه فيه. فإنما يطلب الشيء من أهله، وإنما يقبل رأي المرء فيما يعرفه. وليس هذا جرحة للمتكلمين و ا قدحا في صناعتهم”. (51)
و إذا كانت تلك هي حال الشعر، و ذلك هو مستوى تفكير الناس لعهده فيه؛ و إذا كان ذلك هو مبلغ علـم النقاد على أيامه فلا بد لحازم إذا هو رام تصحيح هذه الوضعية من التجرد لهذه المهمة و بدئها من أساسها و ذلـك برسم خطة جديدة تماما تسعفه في تدارك الوضع المتردي و لابد حينئذ من البدء من رأس الطريق. و لقد كان على وعي كامل بأنه لا يستطيع النهوض بتلك المهمة الشاقة في إعادة تأسيس و تأصيل البلاغة و النقد العربيين إلا امرؤ متوفر على حظ كبير من الثقافتين العربية و اليونانية؛ و أنه بسبب ذلك كان يرى بأنه مؤهل للقيـام بهـذا الـدور التاريخي. فكيف تأتى لحازم ذلك؟ و كيف تم له ما أراد؟
لقد كان لابد لحازم القرطاجني من تخطي ثلاث عقبات في المقام الأول: لقد كان عليه أن يحدد الأخطـاء، التي وقع فيها من قبله من النقاد، و ينظر في أسبابها ليتجنبها، و هي الأسباب نفسها التي دعته إلى وضـع كتابـه المنهاج ليكون نهجا يسلك، و سراجا يهدي.
و كان عليه أن يفصل البحث في المعاني الشعرية بعد أن قصر في بسـطها السابقــون، و ذلـك بـذكر أنواعها، و تقسيمها القسمة المنطقية المعقولة، و شرح كيفيات تخيلها، كما لزمه في مرحلة ثالثة توضـيح جـوهر الشعر و حقيقته، و حقيقة العملية الفنية الإبداعية ككل، و أساسها الذي تنبني عليه.
أما الخطوة الأولى فقد تخطاها حازم، و قد وقفنا على ذلك حين رأيناه يقارن بين حال الشـعر، و مكانتـه عند العرب الأوائل، و بين حال الشعر في عهده و علاقة الناس الشائهة به، ووقفنا على خلوصه إلى أن المسؤولية العظمى في تلك الوضعية المتردية إنما تقع عل النقاد أنفسهم حين تصدوا للكلام في الشعر و قضاياه ببضاعة قليلـة فخلطوا بذلك كثيرا من المفاهيم، و غلطوا الناس في حقيقة الشعر. فكان لابد من تصحيح المفاهيم الخاطئة، ومحاولة إرجاع الأمور إلى أنصبتها الحقيقية و ذلك أن: ” … الذي ران على قلوب شعراء المشرق المتـأخرين، و أعمـى بصائرهم عن حقيقة الشعر منذ مئتي سنة. فلم يوجد فيهم على طول هذه المدة من نحا نحو الفحول و لا من ذهـب مذاهبهم في تأصيل مبادئ الكلام وإحكـام وضعــه و انتقاء مواده التي يجب نحته منها فخرجوا بذلك عن مهيـع الشعر و دخلوا فـي محـض التكلم” (52). و عليه فإنها مشكلة ليست جديدة، و ستتطلب لحلها كثيرا من الجهد.
ـــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والإحالات:
1- يمكن الوقوف على مفاهيم النظرية لدى الفلاسفة المسلمين مثلا في مؤلفاتهم في النفس و في المنطق، وكذلك في:
- أرسطو طاليس، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مصدر سابق
- شكري محمد عياد: كتاب أرسطو طاليس في الشعر، مصدر سابق.
- أميرة حلمي مطر: فلسفة الجمال، مرجع سابق، ص 94 و ما بعدها.
- – إلفت كمال الروبي: نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين، مرجع سابق.
- – لخضر جمعي: نظرية الشعر عند الفلاسفة الإسلاميين، مرجع سابق.
- أبو نصر الفارابي: مقالة في قوانين صناعة الشعراء للمعلم الثاني ضمن كتاب فن الشعر لأرسطو طاليس، ترجمـة عبـد الرحمن بدوي، مصدر سابق، ص 150.
- المصدر نفسه، ص 150.
- المصدر نفسه، ص 151.
- المصدر نفسه، ص 151.
- المصدر نفسه، ص 155.
- المصدر نفسه، ص 156.
- المصدر نفسه، ص 158.
- الشيخ الرئيس ابن سينا: الفن التاسع من الجملة الأولى من كتاب الشفاء ضمن كتاب فن الشعر لأرسـطو، ترجمـة عبـد الرحمن بدوي، مصدر سابق، ص 161.
- المصدر نفسه، ص 161.
- المصدر السابق، ص 168.
- أبو الوليد ابن رشد: الشرح الوسيط ضمن فن الشعر لأرسطا طاليس، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مصـدر سـابق، ص .201
- المصدر نفسه، ص 201.
- المصدر نفسه، ص 202/203.
- المصدر نفسه، ص 203.
- المصدر السابق، ص 203.
- المصدر نفسه، ص 204 و ما بعدها.
- لمصدر نفسه، ص 205.
- د .أميرة حلمي مطر: فلسفة الجمال، مرجع سابق، الفصل 3، فلسفة الفن عند أرسطو، ص 78 و ما بعدها.
- عبد الرحمن بدوي، مقدمة فن الشعر: النقد الفيولوجي و كتاب فن الشعر، ص 56.
- مقالة في قوانين صناعة الشعر ضمن فن الشعر لأرسطو ترجمة عبد الرحمن بدوي، مصدر سابق، ص 149.
- المصدر نفسه، ص 150.
- المصدر نفسه، ص 158.
- فن الشعر من كتاب (الشفاء) ضمن (فن الشعر)، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مصدر سابق، ص 198.
- مقالة في قوانين صناعة الشعراء، مصدر سابق، ص 185.
- تلخيص كتاب أرسطا طاليس في الشعر (الشرح الوسيط)، ضمن فن الشعر لأرسطو، مصدر سابق، ص 250.
- المصدر نفسه، ص 250.
- ابن الأثير، المثل السائر، تحقيق بدوي طبانة و أحمد الحوفي، دار الرفاعي للطباعة و النشر، ط2، الرياض 1963، ص .6
الحقيقة هي أنه لا يتسع المقام في هذه الدراسة الآن لمناقشة ما إذا كان العرب و المسلمون قد عرفوا أو لم يعرفوا فـن المســرح و التمثيل في المجتمع العباسي؟
و الأكيد أن ثمة قناعة لدينا بأن المجتمع الإسلامي، و بخاصة المجتمع الشيعي –و الذي ينتمي إليه ابن سينا الاثنا عشـري- و منذ القرن الثاني للهجرة، كان و ما يزال يمارس طقوس المسرح و الشعر المسرحي في مناسبة استشهاد الإمام الحسين و لـو بتقنيات بسيطة، بل لقد تحدث الشيخ الرئيس مطولا عن( الرجل المسخرة) وعـن الأوضـاع المختلفـة التـي بهـا يحـدث الفرجة، ويؤثر في المشاهدين لمحاكاته. هذا الرجل المسخرة، مرة أخرى هو الذي نسميه اليوم( المهرج المسرحي) ؛و لا مجـال إلى القول بأن النقاد الفلاسفة الشراح كانوا يجهلون المسرح و التمثيل، و محاكاة الأفعال. و من ثمـة فمقولـة: إن المجتمـع العربي لم يعرف فن المسرح إطلاقا، وأن الفلاسفة الشراح كانوا يجهلون تماما ما كان يتحدث عنه ارسطو في (فـن الشـعر) تغدو مقولة مهزوزة فيها كثير من التسطيح لهذه القضية. إن مثل هذه لتعميمات و الأحكام المبتسرة هي في رأي هذه الدراسـة دليل على شيوع نظرة أحادية في الثقافة العربية الإسلامية كانت تعمل دوما و ما تزال على إلغاء الآخر و تهميشه و تحجيمه و تكريس السائد من الفكـر، و لو كان لا يمثل إلا نفسه.نقول هذا حتى لانتهم أحدا بمحدودية الإطلاع في تراثنا العربي.
و مرة أخرى فإن تقصي العبارة في نصوص الفلاسفة شراح فن الشعر، كحديثهم عن محاكـاة الأفعـال و متعلقـات الشـعر المسرحي من غناء و جوقة مصاحبة، و أخذ بالوجوه الخ …لا تفضي إلا إلى الاعتقاد بمعرفتهم لكثير من مقاصد المعلم الأول و من خلال معرفتهم لما كان في بيئاتهم من تمثيل و لوازمه.
قدامة بن جعفر، نقد الشعر، تح محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 64.
ابن طباطبا العلوي، عيار الشعر، تح طه الحاجري، و محمد زغلول سلام، المكتبة التجارية، القاهرة 1958، ص 3.
إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، ط4، 1983، ص 436.
عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تح السيد رشيد رضا، دار المعرفة،ط2، بيروت، ص 248.
إحسان عباس، المرجع نفسه، ص 437.
ومعلوم أن قصد عبد القاهر بالمعاني العقلية انما هو معاني النحو، وليس المعاني العقلية بالمعنى المنطقي البرهاني كمـا عند الفلاسفة والمناطقة.
لأخذ صورة أوضح على مباحث التشبيه، و الاستعارة عند النقاد القدامى، ينظر مصطفى ناصف، الصورة الأدبيـة، دار الأندلس، بيروت، ط3، 1983: مبحث (المعنى الأدبي و التشبيه)، ص 46 و ما بعدها، مبحث (نظرية الاسـتعارة)، ص 124 و ما بعدها و مبحث (المؤثرات الروحية في بحث الاستعارة)، ص 74 و ما بعدها.
- مقالة في قوانين صناعة الشعراء للمعلم الثاني، صمن فن الشعر لأرسطو، مصدر سابق، ص 156.
- المحاكاة مرآة الطبيعة و الفن، دكتور إسماعيل الصيفي، دار المعرفة الجامعية، ط1، الإسكندرية ،1989، ص 107.
- المنهاج، مصدر سابق، ص 124.
- للتوسع أكثر في مدى تأثير الشعر يمكن الرجوع إلى:
- -ابن رشيق القيرواني: العمدة في صناعة الشعر و نقده، تح محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة 1955، اط2، الأبـوا ب: الرابع، الخامس، السادس و السابع.
- 41-الجاحظ: الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة ط 1 1957 ج1، ص 364.
- 77- يمكن الوقوف على عمليات رصد ما آل إليه حال الشعر و الشاعر، و هوانه على الناس في كثير مـن مصـادر الأدب القديمة و من بدايات القرن الخامس للهجرة كما في نضرة الإغريض في نصرة القريض للمظفر بن الفضل العلوي، و قبله عند ابن رشيق القيرواني في العمدة، و قبلهما كما عند عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز، ص 9 و ما بعدها إلى ص 23.
- المنهاج، مصدر سابق، ص 122.
- للتوسع أكثر في مدى تأثير الشعر يمكن الرجوع إلى:
- -ابن رشيق القيرواني، العمدة في صناعة الشعر و نقده، تح محي الدين عبد الحميد، ط2، مطبعة السـعادة 1955، الأبـواب: الرابع، الخامس، السادس و السابع.
- المنهاج، مصدر سابق، ص 122.
- ابن خلدون، المقدمة، ص 1011 و قد أشار إلى ذلك الدكتور إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عنـد العـرب، الفصـل الخاص بنقد ابن خلدون ص 616 و ما بعدها.
- المنهاج، مصدر سابق ،124/125.
- المصدر نفسه، ص 125.
- المصدر نفسه، ص 125.
- المصدر نفسه، ص 125.
- المنهاج، مصدر سابق، ص 126.
- المنهاج، مصدر سابق، ص 86/87.
- المصدر نفسه، ص 10.