مفهوم السعادة عند الفارابي

 محمد أيت حمو /كلية الآداب، ظهر المهراز، فاس
تقديم
:
   إن الفلسفة الإسلامية لها ملامحها المبتكرة والمميزة لها عن الفلسفة التي سبقتها، بافتتاحها بمشكلات جديدة بالرغم من تلاقحها مع الفلسفات القديمة. فهي “فلسفة وليدة ظروفها الخاصة، لها كيانها ومقوماتها، وفيها ما فيها من ابتكار وأصالة”([1]). ويعتبر “الفارابي أكبر فلاسفة المسلمين على الإطلاق” بتعبير ابن خلقان، وهو “فيلسوف المسلمين بالحقيقة” بتعبير صاعد الأندلسي([2]). ومن أشهر شراح الفيلسوف اليوناني أرسطو لدرجة أن ابن سينا اعترف بأنه قرأ كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو أربعين مرة ولم يفهمه حتى اطلع على كتاب أغراض ما بعد الطبيعة للفارابي. استأهل عن جدارة واستحقاق لقب المعلم الثاني بعد أرسطو الملقب بالمعلم الأول.

إن الخوض في فلسفة الفارابي ليس سهلاً ويسيراً، بل مثقلاَ وعسيراً. ذلك أن الكتابات الفارابية متنوعة الملامح ومتعددة القسمات، تتميز بانعراجاتها والتواءاتها، بانكساراتها ونتوءاتها، بمتاهاتها وفوضاها، بتضاربها وتنازعها، بشطحاتها وتشظيها، باختلافاتها وتغايرها. وهذا ما يجعلها نصوصاً مفتوحة ويلعب دور تحريض على التفكير والتفسير والتأويل الذي يسمح بتأثيث جديد للبيت الفكري، والميلاد المتجدد للمعاني الخصبة، والدفع بعدم الرغبة في الانحباس عن التقدم في عملياتنا الفكرية، والتقدم خطوات إلى الأمام، والانفتاح على كل العوالم الجديدة والآفاق غير المتناهية التي تترفع قلق العبارة الفارابية المتعددة، وتدفع بمقدمات ومبادئ واختيارات الفكر الفارابي إلى نهاياتها غير المنتظرة، وتحفز لاستخراج ما لم يتوقعه حتى صاحبه من أطروحات ممكنة جديدة وموجودة بالقوة في قلب أعماله الفكرية العظيمة المترامية الأطراف
وإذا كان الفارابي قد ألف كتباً كثيرة ومتعددة، فإن الصعوبات التي تعترض الدارس لفلسفة الفارابي تتعدد بتعدد هذه المؤلفات، وتتكاثر بتكاثر النظرات المختلفة المبثوثة فيها والمتصارعة –لا المتساكنة- في جوف النص الواحد أحياناً. فهل هذه الأعمال الفلسفية للفارابي تتظافر لتؤدي موقفاً أو نظرية واحدة، أم أنها تختلف في ما بينها؟ وإذا كانت مختلفة في ما بينها،

 فهل نستطيع أن نجد مبادئ يمكن أن تقوم عليها هذه الاختلافات؟

لقد اختلفت آراء الباحثين المعاصرين إلى حد التناقض في فلسفة الفارابي وكتبه ومقدار فهمه لفلسفة اليونان، وطبعاً استندت هذه الآراء المتعددة إلى عدة مقاربات لاستخلاصها وفهم هذا الفكر الممتلئ بالتناقضات. نذكر من بينها، على سبيل التمثيل لا الحصر، المنهج الجدلي، المنهج التكويني، المنهج الإشكالي، …. لكننا قبل التعرض لآراء بعض هؤلاء الدارسين المحدثين، نريد القول بأن العقبات التي تعترض الدارس لفلسفة الفارابي تتخذ أشكالاً متعددة وصوراً متباينة، نود التنبيه إلى بعضها، والإشارة فيها إلى أن الفارابي لم يكن يقدم لأعماله السياسية بمقدمات توضح الغرض والبناء والخطوات التي سيتبعها ويقوم بتحليلها في هذا الكتاب أو ذاك. وهذا العائق، ينضاف إلى عائق آخر يتعلق باللغة والأسلوب. فلغة الفارابي مجردة وكتاباته لا تخلو من تنظير ومفاهيم وألفاظ غير مألوفة، أما على مستوى الأسلوب، “فهو إلى الغموض أميل، وفي باب التعمق والتركيز أدخل”([3]). ذلك أن كتابات الفارابي تحتوي على تكرار وحذف كثير، الشئ الذي يصعب معه استخلاص المقاصد والخلاصات من الكتاب الواحد. وهذه الملاحظة لا تنكر محطة هامة في تاريخ تطور المصطلح الفلسفي واستقراره مع “الفارابي الذي ازدهرت فلسفته في الثلث الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) بعد نضج اللغة الفلسفية في الترجمات اليونانية إلى العربية، وبخاصة منطق أرسطوطاليس. 

وإذا كان مما يؤسف له أشد الأسف أن الفارابي لم يترك لنا مؤلفاً مخصصاً للحدود والرسوم، فإن من الصحيح القول أن هذه الحدود والرسوم لعدد كبير من المصطلحات الفلسفية قد تناثرت في مطاوي مؤلفاته على العموم، ومن هنا، فمؤثرات الفارابي كانت بارزة في اثنين من رجال القرن الرابع الهجري، أولهما الخوارزمي… والثاني أبو حيان التوحيدي الذي جمع لنا عشرات التعريفات الفلسفية في كتابه “المقابسات”، وكلها ترجع إلى “الفارابي الذي تعود إليه أصول تأسيسات المدارس الفلسفية المختلفة في القرن الرابع الهجري”([4]).

وهناك صعوبة أخرى، تنضاف إلى الصعوبات السابقة التي تعترض الدارس في فلسفة الفارابي، تتعلق بعدم معرفتنا لكل تواريخ كتب الفارابي المختلفة، لأن هذه المعرفة هي وحدها التي تمكننا من فهم التطور العميق الذي كان يلحق بتفكير الفارابي كلما تقدمت به الحياة، وعندما نفقد تواريخ هذه الكتب، هل نستطيع أن نتكلم عن تطور في فكر الفارابي أم أن مصدر اختلاف المذاهب المكتظة في كتبه يكمن في كونه كان ينهل من منابع مختلفة؟ ولكن التطور ليس حجة دالة على أن الفكرة الأخيرة هي فكرة الفيلسوف دائماً، لأنه قد تكون الكتابات التي كتبها في عز شبابه هي الأطروحة الرئيسية له.             

دلالة السعادة عند الفارابي:

يعتبر الفارابي من أشهر فلاسفة الفكر السياسي في الإسلام، إذ أن “الجزء الرئيسي والأكثر أصالة من فلسفته هو سياسته”([5]). وغاية المرام من الفعل السياسي عنده هي السعادة. وقد تناولها في العديد من كتبه، وأهمها كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة وكتاب تحصيل السعادة. إذ يرى في كتاب تحصيل السعادة بأن السعادة هي سعادة المعرفة، والمقصود بها هنا ليس سعادة الفرد بل سعادة الأمة. والأمة لا تكون فاضلة إلا إذا حصلت الفضائل الأربعة:

الفضائل عند الفارابي 

هذا هو برنامج الفارابي لتحصيل السعادة في المدينة، فلابد من هذه الفضائل الأربعة لكي تحصل الأمة السعادة. ويضفي كتاب تحصيل السعادة وسام شرف المرتبة على الفلسفة لأنها “أقدم العلوم وأكملها رئاسة، وسائر العلوم الرئيسية هي تحت رئاسة هذا العلم… علم العلوم وأم العلوم وحكمة الحكم وصناعة الصناعات”([12]).

لقد اعتبر محسن مهدي تحصيل السعادة من الكتب الموجهة للعامة، وعده “مصنفاً يتوجه إلى عامة الناس”([13]). وإذا كان الفارابي يتحدث في كتاب تحصيل السعادة عن سعادة الأمة، فإنه يتحدث في كتاب رسالة التنبيه على سبيل السعادة عن سعادة الفرد. فهذا الكتاب هو تنبيه على الطريقة التي يمكن للإنسان أن يسلكها ليحصل على السعادة في نفسه وفيه يتحدث الفارابي عن الفضائل الخلقية للفرد، ويتبنى نظرية أرسطو القائلة بأن الفضيلة وسط بين طرفين أو نقيضين.

يستهل الفارابي كتاب رسالة التنبيه على سبيل السعادة بقوله: “أما أن السعادة هي غاية كل ما يتشوقها كل إنسان، وأن كل من ينحو بسعيه نحوها، فإنما ينحوها على أنها كمال ما، فذلك مما لا يحتاج في بيانه إلى قول، إذ كان في غاية الشهرة”([14]).

وغاية المرام من الإبانة عن أوجه الاختلاف بين كتابي تحصيل السعادة ورسالة التنبيه على سبيل السعادة للفارابي هي درء تهمة تكرار الفارابي لنفسه في جميع كتبه، والإبانة على أن الفارابي له غرض تربوي بيداغوجي، فالجديد في كل كتاب من كتبه هو الشكل. يقول الفارابي في كتاب فصول منتزعة: “ليس ينبغي للفاضل أن يستعجل الموت، بل ينبغي أن يحتال في البقاء ما أمكنه ليزداد من فعل ما يسعد به، ولئلا يفقد أهل المدينة نفعه لهم بفضيلته. 

وإنما ينبغي أن يقدم على الموت إذا كان نفعه لأهل المدينة بموته أعظم من نفعه لهم في مستقبل حياته. وإذا حل به الموت كرهاً فليس ينبغي أن يجزع، بل أن يكون فاضلاً فلا يجزع منه أصلاً ولا يفزعه حتى يذهل، وإنما يجزع من الموت أهل المدن الجاهلية والفساق”([15]).

السعادة: غاية المرام من الفعل السياسي:

يميز الفارابي بين الأفعال المشتركة بين الطوائف المختلفة في المدينة من جهة والأفعال الخاصة بكل رتبة من الرتب الاجتماعية من جهة أخرى. ولا مناص من تظافر هذين النوعين من الأفعال لتحقيق السعادة. فما هي صفات الأفعال الخاصة بكل فئة من الفئات؟ يقول الفارابي: “وإذا مضت طائفة فبطلت أبدانها، وخلصت أنفسها وسعدت، فخلفهم ناس آخرون في مرتبتهم بعدهم، قاموا مقامهم وفعلوا أفعالهم. فإذا مضت هذه أيضاً وخلصت، صاروا أيضاً في السعادة إلى مراتب أولئك الماضيين، واتصل كل واحد بشبيهه في النوع والكمية والكيفية. ولأنها كانت ليست بأجسام صار اجتماعها، ولو بلغ ما بلغ، غير مضيق بعضها على بعض مكانها، إذ كانت ليست في أمكنة أصلاً، فتلاقيها واتصال بعضها ببعض ليس على النحو الذي توجد عليه الأجسام. وكلما كثرت الأنفس المتشابهة المفارقة، واتصل بعضها ببعض، وذلك على جهة اتصال معقول بمعقول، كان التذاذ كل واحد منها أزيد شديداً. 

وكلما لحق بهم من بعدهم، زاد التذاذ من لحق الآن بمصادفة الماضيين، وزادت لذات الماضيين باتصال اللاحقين بهم، لأن كل واحدة تعقل ذاتها وتعقل مثل ذاتها مراراً كثيرة، فتزداد كيفية ما يعقل، ويكون تزايد ما تلاقى هناك شبيهاً بتزايد قوة صناعة الكتابة بمداومة الكاتب على أفعال الكتابة. ويقوم تلاحق بعض ببعض في تزايد كل واحد، مقام ترادف أفعال الكاتب التي بها تتزايد كتابته قوة وفضيلة. ولأن المتلاحقين هم إلى غير نهاية، يكون تزايد قوى كل واحد ولذاته على غابر الزمان إلى غير نهاية. وتلك حال كل طائفة مضت”([16]). ويعلق عبد الواحد وافي على هذا النص قائلاً: “ويظهر لي أن الفارابي قد استوحى هذه اللوحة المشرقة الرائعة من قوله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ “([17]).

إن الفارابي يعقد علاقة علية بين ممارسة الإنسان لعقله الخاص واكتسابه لهيئة نفسية جيدة فاضلة، وصناعة صنع الأفعال. وكل هذا يتظافر من أجل إنتاج السعادة. “فإذا فعل كل واحد من أهل المدينة ما سبيله أن يكون مفوضاً إليه، وذلك إما أن يكون علم ذلك من تلقاء نفسه أو يكون الرئيس أرشده إليه وحمله عليه، أكسبته أفعاله تلك هيئات نفسانية جيدة، كما أن المداومة على الأفعال الجيدة من أفعال الكتابة تكسب الإنسان جودة صناعة الكتابة، وهي هيئة نفسانية. وكلما داوم عليها أكثر، صارت جودة الكتابة فيه أقوى وكان التذاذه بالهيئة الحاصلة في نفسه أكثر واغتباط نفسه على تلك الهيئة أشد. 

كذلك الأفعال المقدرة المسددة نحو السعادة، فإنها تقوي جزء النفس المعد بالفطرة للسعادة وتصيره بالفعل وعلى الكمال، فتبلغ من قوتها بالاستكمال الحاصل لها إلى أن تستغني عن المادة فتحصل متبرئة منها فلا تتلف بتلف المادة إذا صارت غير محتاجة في قوامها ووجودها إلى مادة فتحصل حينئذ لها السعادة”([18]). 

والحق أن الفارابي يفاجئنا هنا بمفهوم غريب يتعلق بكيفية إنتاج لذة كثيفة وسعادة شديدة. ففي رأيه أن المداومة والتكرار يزيدان من قوة الهيئة النفسية وفضيلتها. إذ من الصناعة التي تكون بها تلك الأفعال، وزيادة هذه القوة يكون الانعكاس على زيادة الالتذاذ التابع لتلك الهيئة واغتباط الإنسان بنفسه ومحبته لتلك الهيئة. ومن أجمل الأمثلة التي يضربها الفارابي في هذا الصدد مثال الكتابة الذي أوردناه في النص السابق، ويأبى الفارابي إلا أن يكرره في نصوص أخرى عندما يقول أيضاً: “كما أن المداومة على الأفعال الجيدة من أفعال الكتابة تكسب الإنسان جودة صناعة الكتابة”([19]). ويكرر القول مرات ومرات: “ويكون تزايد ما تلاقى هناك شبيهاً بتزايد قوة صناعة الكتابة بمداومة الكاتب على أفعال الكتابة”([20]). فالفعل بلغة القدماء هو كمال للقوة الجسمية أو النفسية، وهو صورة العضو التي يقوم بها الفعل. فوظيفة العين مثلاً هي الرؤية، وهذه الأخيرة تستكمل وتخرج البصر من القوة إلى الفعل، وتجعلها عيناً حقيقية. فالفعل هو الذي يخرج الهيئة إلى الفعل، لكن الفارابي فعل العكس، فبتكرار الفعل تحدث في النفس هيئة نفسية جيدة. والهيأة هنا تعني الملكة، فالمواظبة تكثر قوة هذه الهيئة، مما ينتج عنها الفضيلة، أما كلمة الصناعة الواردة في النص فتستعمل مرادفة للعلم، بمعنى ذلك الجهاز النظري الذي إذا اتبعه الإنسان اكتسب هيئة نفسية. يقول الفارابي: “وأهل المدينة الفاضلة لهم أشياء مشتركة يعلمونها ويفعلونها، وأشياء أخرى من علم وعمل يخص كل رتبة وكل واحد منهم. إنما يصير (كل واحد) في حد السعادة بهذين، ٍأعني بالمشترك الذي له ولغيره معا، وبالذي يخص أهل المرتبة التي هو منها. فإذا فعل ذلك كل واحد منهم، أكسبته أفعاله تلك هيئة نفسانية جيدة فاضلة، وكلما داوم عليه أكثر، صارت هيئته تلك أقوى وأفضل، وتزايدت قوتها وفضيلتها. 

كما أن المداومة على الأفعال الجيدة من أفعال الكتابة تكسب الإنسان جودة صناعة الكتابة، وكلما داوم على تلك الأفعال أكثر صارت الصناعة التي بها تكون تلك الأفعال أقوى وأفضل، وتزيد قوتها وفضيلتها بتكرير أفعالها، ويكون الالتذاذ التابع لتلك الهيئة النفسانية أكثر، واغتباط الإنسان عليها نفسه أكثر، ومحبته لها أزيد. وتلك حال الأفعال التي ينال بها السعادة: فإنها كلما زيدت منها وتكررت وواظب الإنسان عليها، صيرت النفس التي شأنها أن تسعد أقوى وأفضل وأكمل إلى أن تصير من حد الكمال إلى أن تستغني عن المادة، فتحصل متبرئة منها، فلا تتلف بتلف المادة، ولا إذا بقيت احتاجت إلى مادة. فإذا حصلت مفارقة للمادة، غير متجسمة، ارتفعت عنها الأعراض التي تعرض للأجسام من جهة ما هي أجسام، فلا يمكن فيها أن يقال أنها تتحرك ولا أنها تسكن. وينبغي حينئذ أن يقال عليها الأقاويل التي تليق بما ليس بجسم. وكلما وقع في نفس الإنسان من شئ يوصف به الجسم بما هو جسم، فينبغي أن يسلب عن الأنفس المفارقة. وأن يفهم حالها هذه وتصورها عسير غير معتاد. وكذلك يرتفع عنها كل ما كان يلحقها ويعرض لها بمقارنتها للأجسام. ولما كانت هذه الأنفس التي فارقت، أنفساً كانت في هيوليات مختلفة، وكان تبين أن الهيئات النفسانية تتبع مزاجات الأبدان، بعضها أكثر وبعضها أقل، وتكون كل هيئة نفسانية على نحو ما يوجبه مزاج البدن الذي كانت فيه، فهيئتها لزم فيها ضرورة أن تكون متغايرة لأجل التغير الذي فيها كان. ولما كان تغاير الأبدان إلى غير نهاية محدودة، كانت تغايرات الأنفس أيضاً إلى غير نهاية محدودة”([21]). ولكن التكرار لا ينتج أشياء فاضلة إلا عندما تكون للإنسان هيئة محمودة للإبداع، ولذلك نجد أن أهل المدن الجاهلة يكررون، لكنهم يغرقون في السالفة.

ولعل ما يلفت النظر في نصوص الفارابي هو كون هذا الرئيس عندما يصل إلى مرتبة السعادة، فإنه يسعد سعادة جميع الرؤساء السابقين عليه والمتواجدين في زمانه سعادة مضاعفة تاريخياً وسانكرونيا. وهذا يعني أن السعيد في هذا المستوى يصل إلى درجة من الكثافة في سعادته بقدر ما يكون هناك من سعداء الذين تشكل نفوسهم نفساً واحدة، ويكون الاتصال بينها مباشراً. وعلة هذه النظرة يمكن تفسيرها باللجوء إلى مفهوم المادة. فهذه الأخيرة هي علة الاختلاف. والفيلسوف يصل إلى درجة تتبرأ نفسه معها من المادة بشكل مطلق. فتندثر مسألة الاختلاف وتكون نفساً واحدة. وهذه العقيدة سادت منذ العصر الهليستيني، عصر أفلاطون وأرسطو وما قبلهما. فالذين أتوا بعد العصر الهيليني هم إحياء للفلسفة القديمة كالفيتاغورية الجديدة والأفلاطونية الجديدة والأرسطية الجديدة. فالعصر الهيليني يتميز بالشرح والتأويل أكثر مما يتميز بالإبداع، باستثناء أفلوطين. فالعصر عصر شرح وتأويل وإيمان بأن الفلسفة لا يمكن أن تكون إلا واحدة. أما العصر السكولائي الذي جاء بعد العصر الهيليني، فيشترك معه في الإيمان بالتغير والوحدة والرجوع إلى النبعين الأصليين، وهذا ما يشكل القاسم المشترك بينهما، لكن الفرق بين العصرين يتمثل في كون العصر الهليني مطبوع باليونانية، أما العصر السكولائي فهو مطبوع بالديانات الثلاث، فالفلسفة السكولائية فلسفة كلامية تدافع عن علم الكلام، ونبتت في جو ديني تسيطر عليه التصورات الفكرية والحضارية الدينية بينما سيطرت الوثنية على العصر الهليني.

 

 ازدواجية موقف الفارابي من السعادة!

أن السعادة بالحقيقة “هي التي تطلب لذاتها ولا تطلب في وقت من الأوقات لغيرها”([22]). فالسعادة الحقيقية عند الفارابي لا تكون إلا في الآخرة، والإشارة هنا إلى الشريعة. ذلك “أن الهم الأساسي للفارابي هو تحصيل السعادة القصوى، أي السعادة في الحياة الآخرة، إذ يجب عليه، كمسلم، أن يعتبر سعادة الحياة الدنيا غير هامة، أو ثانوية، أو أداتية (Instrumental)” ([23]). غير أنه في الأخلاق إلى نيقوماخوس ينقل عنه ابن طفيل بأنه كان يعتبر السعادة الأخروية هي من أحلام وخرافات العجائز لأنها لا يمكن أن تكون بعد نفاذ الجسم وانعدامه بينما نقرأ هنا بأن السعادة الحقة هي السعادة الأخروية. ويمكن أن نقول بأن الفارابي تطور كثيراً، أو نقول بأنه متناقض في أقواله. والسؤال الذي يضعه مؤرخوا الفلسفة في مثل هذا المشكل هو: هل الفارابي تطور من فكرة كتاب الإحصاء إلى فكرة كتاب الأخلاق إلى ينقوماخوس أو العكس؟ بمعنى أنه كان مادياً في البداية ثم تحول إلى المذهب المثالي في آخر حياته؟

لقد خصص ابن باجة إحدى رسائله للدفاع عن الفارابي ضد ما نسب إليه من إنكار السعادة الأخروية، وإبطال التهمة التي ألصقت به، والمتمثلة في عدم اعتقاده سوى بالسعادة المدينية، بالرغم من أن ابن باجة لا يستبعد ورود هذا الرأي في شرح الفارابي لكتاب الأخلاق، حيث يقول في الرسالة المعنونة بــــــ في السعادة المدينية والسعادة الأخروية أو دفاع عن أبي نصر، “أما ما يظن بأبي نصر في كلامه فيما شرحه من كتاب الأخلاق (من أنه لا بقاء) بعد الموت أو المفارقة، ولا سعادة إلا السعادة المدينية، ولا وجود إلا الوجود المحسوس، وأن ما يقال أن بها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس خرافات عجائز، هذا كله باطل ومكذوب فيه على أبي نصر، وإن ذكر ذلك أبو نصر في أول قراءته. وليس يشبه قوله في هذا أقواله التي هي لوازم برهانية. وأقواله في هذا الكتاب أكثرها منسوبة، ويتشوق الرد بها على جهة توبيخ وسح لا يليق بمثله، مثل ما يقوله فيمن يقول إن بها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس أن قوله خرافات عجائز، بمثول سمجة ليكون حيوان عن حيوان أو عن نبات. وليس القول فيما هي السعادة الآخرة خرافات، وسيتبين أن لها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس. وكذلك لا يشبه قوله أقواله فيما نسبه إلى بعض المتقدمين أنه يحصر عند المفارقة احصاراً شديداً، وليس هذا قول أحد المتقدمين بل هو قول إخوان الصفاء الضالين”([24]). ويشرع ابن باجة في البرهنة على الوجود غير المحسوس والسعادة غير المدينية، من خلال التمييز بين الخير الأقصى والخيرات المدينية، محيلاً إلى أرسطو وغيرها من التفريعات الأخرى، ليخلص في هذه الرسالة التي لا غنى للقارئ من الاطلاع عليها كاملة، إلى زبدة المطلوب وتتمثل في قوله: “فقد تبين مما ذكرته أن ثم وجود غير الوجود المحسوس، وما أعظم هذا النظر كيف خرافات العجائز”([25]).

 وهذا ما يجعل موقف ابن باجة يختلف عن موقف ابن طفيل، كما انتبه إلى ذلك المرحوم جمال الدين العلوي في تعليقاته، لأننا “أمام موقف يختلف في الظاهر عن موقف ابن طفيل الوارد في مقدمة حي بن يقظان، وذلك حين ينسب إلى أبي نصر القول بإنكار السعادة الأخروية، ويعلق بالقول إن هذا قد أيأس الخلق جميعاً. كما يختلف عن موقف ابن رشد الذي عبر عنه في شرحه للمقالة الثالثة من كتاب النفس لأرسطو. وذلك على الرغم من أنهم جميعاً، أعني ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، يتفقون على القول بالوجود الآخر والسعادة الأخرى، وهو ما تروم هذه الرسالة البرهنة عليه”([26]). 

وقد حاول محمد المصباحي أن يميز موقف ابن رشد في السعادة ليس فقط عن موقف الفارابي، بل وأيضاً عن موقف ابن باجة وابن طفيل، حيث يقول: “إن ابن رشد لم يكن كالفارابي الذي نقل عنه قوله –في تفسيره لكتاب الأخلاق لأرسطو- بأن ما عدا السعادة المدنية هو خرافات عجائز، ولا كابن باجة وابن طفيل اللذين روجا لفكرة الإنسان المتوحد الخارج عن سلطة المدينة، المتحرر من قيم الخير والشر، بل إنه –أي ابن رشد- على العكس من هذين الفيلسوفين انطلق من مبدأ يقول بأن حق الشريعة لا يمكن أن يضاد حق الحكمة لأن “قصدهما في الأمور العملية قصد واحد في الجنس والغاية”، ليؤكد على ضرورة الشريعة في تحقيق أنواع السعادات المختلفة. هكذا تتقاطع من جديد ضرورة السعادة العملية التابعة للعقل العملي مع السعادة التي تنادي بها الشريعة([27]).

 ولذلك فالفارابي يتخذ موقفاً تارة ويتخذ موقفاً مضاداً تارة أخرى. “ولا يبدو، من ناحية أخرى، أن الفارابي كان يؤمن بإمكانية إنجاز الاتصال بالعقل الفعال. فقد نقل عنه ابن طفيل وابن باجة وابن رشد هذا الريب في إمكانية تحقيق مرتبة العقل المستفاد أو السعادة القصوى، حيث اشتهر الفارابي عندهم بقولته التي تعتبر الاتصال بالعقل الفعل هذياناً وخرافات عجائز”([28]).

ولعل الصعوبة التي تعترضنا تتمثل في كون الفارابي لم يفكر بألفاظ إسلامية في المدينة، دون أن نغض الطرف عن الغموض الكبير الذي يلف السعادة كما حاولنا التنبيه عليه. فما معنى السعادة المظنونة؟ وما معنى السعادة الحقيقية؟ فالسعادة المظنونة هي التوازن بين القوى الموجودة في الإنسان، والسعادة الحقيقية هي الاتصال بالعقل الفعال لأجل الوصول إلى سعادة غير منقطعة زمنياً لا تفتر زمنياً وفي بهاء تام. ذلك أن السعيد عندما يسعد في هذه السعادة الحقيقية يشعر بسعادة الجميع. “وكلما كثرت الأنفس المتشابهة المفارقة واتصل بعضها ببعض، كان التذاذ كل واحد منها أزيد”([29]).

 وبعبارة أخرى، ففي سعادة الفرد تتكثف السعادة الكلية([30]). فالسعادة الحقة في رأي الفارابي هي التشبه بالإله أو بالمفارقات أو الذوبان في الكائنات العليا. “وبهذا تشترط السعادة، في نهاية الأمر، المفارقة أو تؤدي إليها”([31]). فهي سعادة مثالية تتطلب التخلص من الجسم وأن تنسحب من إنسانيتك لتصبح كائناً مفارقاً شفافاً. أما السعادة الأرضية فقد اعتبرها الفارابي سعادة مظنونة لأنها غير قائمة على الحكمة، ولذلك فهو يهدف إلى القضاء على السعادة المحسوسة واللذات التي هي سبب كل الشرور والأمراض والفتن والحروب التي تقضي على الدولة. وبما أن الأمر يتعلق هنا بتأمل مؤسسة الدولة، فإنه أراد أن يزيل ما من شأنه أن يحدث الفتن والقلاقل داخل الدولة.

يمكن أن نقدم مخرجاً منطقياً لهذه المسألة، وهو أن كلمة المشترك لها معنيين:

المعنى الأول: هو المتساوي، ولكن الاشتراك في الاسم معناه أن نفس الشئ يقال بمعنيين مختلفين، إن لم يكونا بمعنيين متضادين. فالاشتراك في الاسم هو ضد التواطؤ في الاسم، أي بنفس المعنى. فالمشترك في الاسم معناه أن ما يفهمه زيد ليس هو ما يفهمه عمرو. فالمادة مثلاً تستعمل في عالم الكون والفساد بمعنى علة الفساد والتغير، ونقول عنها أيضاً بأنها جزء من الأجرام السماوية، ولكن نعرف بأن الأجرام السماوية لا تتغير ولا تفسد. فكيف تكون نفس المادة هي علة الفساد والتغير؟ فالمادة الأرضية تمتاز بأنها نوع من العدم، وتلبس صوراً متعددة، ولذلك تتلاشى الأشياء عندما تزول الصور.

لنستمع إلى الفارابي في هذا النص الذي يقول فيه: “وتبين أن تلك ليست تتأتى إلا برياسة يمكن معها تلك الأفعال والسنن والشيم والملكات والأخلاق في المدن والأمم، ويجتهد في أن يحفظها عليهم حتى لا تزول. وأن تلك الرياسة لا تتأتى إلا بمهنة وملكة يكون عنها أفعال التمكين فيهم وأفعال حفظ ما مكن فيهم عليهم، وتلك المهنة هي الملكية والملك أو ما شاء الإنسان أن يسميها، والسياسة هي فعل هذه المهنة”([32]). ونلاحظ في هذا النص بأن الفارابي يجعل الرئاسة هي علة الشيم والأفعال والسنن والأخلاق، ولم يفعل ما فعله ابن خلدون عندما جعل الرئاسة تتويجاً للعصبيات. فالوضع مقلوب عند الفارابي لأن الرياسة هي التي تضمن “البنية العليا” عنده، فالرياسة تتأتى منها تلك الأمور وتحفظها، وهنا يعرف السياسة بأنها حالة خاصة من العلم المدني، وهذا أمر غريب. ومن الصعب جداً أن نفهم المهنة هنا بالمعنى المعاصر. فالمهنة هي مزاولة الشئ والتمكن منه وحفظ أساليب فعله. إن الملكة هي القوة من الدرجة الثانية، وهي نوع من الموهبة المخزونة في ذات الفرد، هي فعل من الدرجة الأولى، والقدرة على التسيير. ولكن الملكة لا تخرج إلى الفعل إلا بالتربية.

إن الرياسة موهبة إلهية ميتافيزيقية عند الفارابي، والمهنة هي الملكية والملك، والسياسة هي فعل هذه المهنة وخروجها من القوة إلي الفعل. فالسياسة هي تدبير الرئاسة، ومعنى ذلك أن من له الحق في السياسة هو الموهوب بالملكة الرئاسية، أي يدير المدينة ويحفظ عنها أخلاقها وشيمها وسننها، فالذي يمارس السياسة عند الفارابي هو رجل واحد. والسياسة هي فعل هذه المهنة، بمعنى إخراج تلك الموهبة أو الملكة من القوة إلى الفعل، وليست مجرد مقاسمة بين الناس لآراء نتداولها من أجل تسيير المدينة في هذا المسلك أو ذاك. ويقسم الفارابي الرئاسة إلى ضربين. “وأن الرياسة ضربان: رياسة تمكن الأفعال والسنن والملكات الإرادية التي شأنها أن ينال بها ما هو في الحقيقة سعادة وهي الرياسة الفاضلة، والمدن والأمم المنقادة لهذه الرياسة هي المدن والأمم الفاضلة. ورياسة تمكن في المدن الأفعال والشيم التي تنال بها ما هي مظنونة أنها سعادات من غير أن تكون كذلك وهي الرياسة الجاهلية. وتنقسم هذه الرياسة أقساماً كثيرة ويسمى كل واحد منها بالغرض الذي يقصده ويؤمه، ويكون على عدد الأشياء التي هي الغايات والأغراض التي تلتمس هذه الرياسة: فإن كانت تلتمس اليسار سميت رياسة الخسة، وإن كانت الكرامة سميت رياسة الكرامة، وإن كانت بغير هاتين سميت باسم غايتها تلك”([33]). ونشير هنا إلى ما سبق لأفلاطون أن قاله، ولكن بكيفية موسعة، وهي أقسام المدن، وأن المدينة عندما تنهار أخلاقها تتفتت وتصبح عدة مدن جاهلة، وهي عند أفلاطون 1- التيموقراطية وهي حكومة اليسار 2- الأوليغارشية (الأقلية) 3- ثم الاستبدال. هذه إذن هي المدن الثلاث التي هي مسخ.

إن الرئاسات تسمى عند الفارابي بغاياتها، وهذه الغايات مرتبطة ببنية الإنسان الجينية النفسية، بمعنى أن النموذج السيكولوجي والبيولوجي كان وراء تقسيم هذه المدن. فالمدن تابعة للغايات التي هي انعكاس للطبيعة البيولوجية عند الأفراد. ويشير الفارابي هنا إلى جانب نظري وجانب عملي في العقل السياسي. وهنا يلتقي الرئيس بأصحاب العلوم الجزئية، وربما بأصحاب العلم الكلي وهو الفلسفة، لأن السياسي أو الرئيس يجب أن لا يكون من أصحاب التكتيك بلغتنا المعاصرة، وأصحاب معالجة حالة بحالة، بل يجب أن ينظر إلى بدن المريض في كليته وبعده المستقبلي، بمعنى أن تكون له مقدرة على النظرة الكلية الشاملة المستوعبة للتجارب الماضية. “لابد للسياسي إذا أراد أن يكون سياسياً حقاً، أي ذا نفس استراتيجي أن يتعالى بين الحين والآخر عن الهموم الجزئية والتكتيكية للسياسة، ويرنو ببصيرته إلى نظرة كلية مخترقة للزمن الطويل، أي أن تكون له نظرة فلسفية”([34]).

وهذا يعني أن السياسي يجب أن يكون ماهراً في المناورة وعلاج حالة بحالة. “وتبين أن المهنة الملكية الفاضلة تلتئم بقوتين: إحداهما: القوة على القوانين الكلية، والأخرى: القوة التي يستفيدها الإنسان بطول مزاولة الأعمال المدنية وبممارسة الأفعال في الأخلاق والأشخاص في المدن التجريبية، والحنكة فيها بالتجربة وطول المشاهدة على مثال ما عليه الطب. فإن الطبيب إنما يصير معالجاً كاملاً بقوتين: إحداهما: القوة على الكليات والقوانين التي استفادها من كتب الطب. والأخرى: القوة التي تحصل له بطول المزاولة لأعمال الطب في المرضى والحنكة فيها بطول التجربة والمشاهدة لأبدان الأشخاص. وبهذه القوة يمكن الطبيب أن يقدر الأدوية والعلاج بحسب بدن بدن في حال حال، كذلك المهنة الملكية إنما يمكنها أن تقدر الأفعال بحسب عارض عارض، وحال حال، ومدينة مدينة، في وقت وقت بهذه القوة وهذه التجربة”([35]). وكأن السياسة تنظر في والأعراض والأحوال، ولا تنظر في الأسباب والمبادئ. ومعنى الحال هو الشئ غير المستقر الذي يكون ثم يزول.

إن القوانين الكلية تنظر إلى الحال من حيث هي كائنة بسبب ثابت في الزمان والمكان “والفلسفة المدنية تعطي فيما تفحص عنه من الأفعال والسنن والملكات الإرادية وسائر ما تفحص عنه القوانين الكلية، وتعطي الرسوم في تقديرها بحسب حال حال ووقت وقت، وكيف وبأي شئ، وبكم شئ تقدر، ثم تتركها غير مقدرة، لأن التقدير بالفعل لقوة أخرى غير هذا الفعل وسبيلها أن تنضاف إليه. ومع ذلك فإن الأحوال والعوارض التي بحسبها يكون التقدير غير محدود ولا يحاط بها”([36]). وهنا نلاحظ نقلة إلى الفلسفة المدنية بعد أن كان الفارابي يتكلم من قبل عن العلم المدني. وهذا يعني أن الفارابي يصبح تعبيره إشكالياً غير قاطع وجازم في أقواله.

يعترف الفارابي بوجود قوتين:

الأولى عملية.

والثانية تسأل وتحيط وتعمل على تقدير الشئ.

وقد يتبين لنا الفارابي من حيث تأثره بنظرية العقل الأرسطية، بيد أنه يقسم النفس إلى نفس عاقلة ونفس غضبية ونفس شهوانية. وهنا يكون الفارابي متأثراً بالتحليل الأفلاطوني. فقد أبى قلب الفارابي أن يتقيد بليلى واحدة تستولي نفسها عليه طول العمر. “وهذه من جملة الصعوبات التي يثيرها فكر الفارابي… ويبدو أن السبب في هذا التناقض راجع إلى الخلط بين أفقي التحليل الأفلاطوني والأرسطي. فالقول بالمفارقة للنفس ينتمي إلى الأفق الأفلاطوني”([37]). 

فقد ميز أفلاطون بين ثلاث قوى في النفس وجعل بينها درجات، فالنفس ليست وحدة متجانسة ومتآلفة. هذه القوى الثلاث هي: القوة الشهوية وتتموقع في البطن، وفضيلتها هي العفة أما رذيلتها فهي الإفراط. ثم القوة الغضبية وتتموقع في القلب، وفضيلتها هي الشجاعة أما رذيلتها فهي الجبن. أخيراً نجد القوة العاقلة، وتتموقع في الدماغ، وهي تفوق القوتين الأخريين وفضيلتها هي الحكمة، أما رذيلتها فهي الجهل. يقول أفلاطون: “فإذا ما أخضع الجزء الأفضل الجزء الأقل فضيلة كان هذا هو ما نطلق عليه اسم “سيطرة المرء على ذاته”، وهنا يكون المعنى مدحاً. أما إذا حدث نتيجة لتعليم فاسد أو اختلاط سئ يجعل الجزء الأفضل أضعف من الآخر – إن قهرت قوة الجزء الفاسد الجزء الفاضل، فعندئذ يقال عن مثل هذا الشخص أنه عبد ذاته، وأنه لا يعرف الاعتدال، وهنا يكون المعنى قدحاً وذماً”([38]).

 وبناء عليه، فإن هذه القوى الثلاث تتصارع فيما بينها لأن كل قوة لها وظيفة خاصة تختلف، بل وربما تتناقض مع وظيفة القوتين الأخريين. وإذا لم تقم كل قوة بأداء وظيفتها المنوطة بها، وإذا لم تكن السيادة للقوة العاقلة، فإن النتيجة الحتمية لذلك هي فساد النفس. وقد حاول أفلاطون أن يتلافى هذا الصراع عن طريق الاستنجاد واللجوء إلى فكرة “الانسجام” التي كانت بمثابة وسيلة خلاص ونجاة، تسنى لأفلاطون باللجوء إليها أن يلم شمل أجزاء النفس ويلملم أجنحتها. يقول أفلاطون في هذا الصدد: “فالشخص العادل لا يسمح لأي جزء منه أن يفعل شئ خارج عن طبيعته، ولا يقبل أن يتعدى أي جزء من أجزاء النفس الثلاثة على وظائف الجزأين الآخرين، وإنما هو شخص يسود ذاته نظام عام ويسيطر على نفسه بحيث يعيش على وفاق مع ذاته ويبث الانسجام بين أجزاء نفسه الثلاثة”([39]). 

ويبدو أن تحقيق الانسجام بين هذه الأجزاء يحقق العدالة في الإنسان، أما إذا حدث أن فقدت القوة العاقلة سيطرتها على القوتين الأخريين، فإن ذلك سيولد الجور وغيره من الرذائل. بيد أنه لا يجب أن نمر عليها مرور الكرام، ذلك أن هذه الفكرة من الضبابية بمكان. فهو لم يوضح أبداً إن كان ما يعنيه بالانسجام هو تحقيق كل ملكات النفس بصورة متآلفة، أم تحقيق الرفع منها على حساب الأدنى. في الحالتين يمكن أن يكون هناك انسجام، ولكن شتان ما بين الموقفين”([40]).

وقد حاول أفلاطون تجسير الهوة التي تفصل بين قوى النفس عن طريق منح قصب السبق للقوة العاقلة التي لا مناص من أن تسيطر لكبح جماح القوة الشهوية، بيد أن ذلك لن يتأتى لها إلا إذا استعانت بالقوة الغضبية. فأي خلل في وظائف هذه القوى يدق ناقوس الخطر ويهدد الانسجام، وتصبح النفس عرضة للفساد. فالقوة العاقلة لا خيار لها إلا أن تسيطر، فإن لم تحكم سيطرتها على القوتين الأخريين وتقودهما، وإذا غابت هذه السيطرة فإن القوة الشهوية ستصول وتجول وتعربد. ويحضرني هنا حديث فؤاد زكريا عن التبعات السلبية التي ترتبت عن هذه النظرة التجزيئية للنفس الإنسانية، سواء داخل مجال علم النفس أو داخل مجال الأخلاق. 

وسنقتصر هنا فقط على مجال الأخلاق، لكونه جرنا إليه موضوعنا جرا، حيث يقول: “كذلك كان لهذا الاتجاه التجزيئي تأثيره الواضح في الأخلاق، حيث نظر إلى ملكة الرغبة أو الشهوة على أنها مبدأ غريب عن الإنسان، وإلى العقل على أنه وحده الحاكم، وبين الاثنين حرب لا هوادة فيها. مثل هذا التفتيت للشخصية الإنسانية انعكس على الأخلاق التقليدية بأسرها، ومازال من الممكن أن نجد حتى اليوم آثاراً لهذا الافتقار إلى التكامل الأخلاقي في الإنسان نتيجة لاستمرار الاعتقاد بأن الشخصية الإنسانية تتآلف من قوى وملكات متعارضة يسير كل منها في اتجاه مخالف للاتجاهات الأخرى”([41]). 

ويحضرني هنا أحد التشبيهات الجميلة لهذه القوى. “ويمثل أفلاطون هذه القوى بعربة ذات جوادين: أحدهما عنيف جموح والثاني قوي لين، وفي العربة سائق يكف الحصان الجموح مستعيناً بالحصان القوي عن أن ينفر بالعربة”([42]). أما بالنسبة للفضيلة فهي تحصيل حاصل، لأن ما ورد في كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة إثبات لذلك. فالفضيلة هي سر الاجتماع الإنساني من حيث هي الهدف الذي نصبو إليه، بيد أن الفضيلة هنا ليست فضيلة عملية، بل هي بالأولى فضيلة نظرية، لأن الإنسان الفاضل بالإحالة إلى الأخلاق معناه الإنسان المتبع لنموذج الخير، ولكن بالقياس إلى الموازين. فالفاضل هو الرجل الممتاز L’excellent الكامل perfectif الذي يصل إلى مرتبة النظر العقلي الذي يؤدي إلى العلوم الجزئية والفلسفة الأولى، وبالأخص الله. وهناك معنى ثابت لكلمة الفضل وهو الزيادة.

إن كتاب الأخلاق إلى ينقوماخوس لأرسطو هو العلم النظري لكتاب السياسة. فالفارابي يأخذ من أرسطو وأفلاطون، ولاسيما كتاب النواميس les lois وكتاب الجمهورية لأفلاطون. فهو يأخذ اللغة من أرسطو أما الحلول والآفاق فإنه يأخذها من أفلاطون. “وعلى هذا نرى أن نظرية السعادة الفارابية إنما نشأت عن عوامل عدة وظروف مختلفة.

 فهي مدينة لميول الفارابي واستعداداته بقدر ما هي متأثرة ببيئته ومفكري الإسلام المحيطين به، ولكنها في تكوينها العلمي تخضع خضوعاً كبيراً لنظرية الخير الأسمى الأرسطية ونظرية الجذب (الاكستاسيس) الأفلوطينية. جمع الفارابي كل ذلك ونسقه، ثم أخرج منه نظرية إسلامية قدر لها أن تؤثر تأثيراً واضحاً فيمن جاءوا بعده”([43]). فالفارابي من خلال حديثه عن السعادة يبئ مشروع المدينة الفاضلة في الواقع الإسلامي، فهو يعاني التجربة وخطابه الفلسفي لا يخلو من هموم الواقع، أما تقسيماته ومضامينه فقد أخذها من المجتمع الإسلامي. وهذا ما ينطبق على أغلب رموز الفكر الفلسفي السياسي في الإسلام. فـ”الفلاسفة… قبلوا بشكل كامل الدولة الإسلامية وأعطوها مكانة في نسقهم”([44]).

المصادر 

[1] إبراهيم مذكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق، ج2، الناشر: المكتب المصري للطباعة والنشر، ص77.

[2] صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، تحقيق حياة العيد بو علوان، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، شباط (فبراير) 1985، ص137.

[3]إبراهيم مذكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق، ج1، سبق ذكره، ص39.

[4] عبد الأمير الأعسم، المصطلح الفلسفي عند العرب: نصوص من التراث الفلسفي في حدود الأشياء ورسومها، دراسة وتحقيق وتعليق عبد الأمير الأعسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية 1989، ص 89-90-91.

[5] Laoust (Henri), Les Schismes dans l islam Introduction a une étude de la religion Musulmane, Payot, Paris 1983, P . 159.

[6] أبو النصر الفارابي، كتاب تحصيل السعادة، حققه وقدم له وعلق عليه جعفر آل ياسين، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1403هـ- 1983م، ص49.

[7] المرجع نفسه، ص68.

[8] المرجع نفسه، ص69.

[9] المرجع نفسه، ص69.

[10] المرجع نفسه، ص71.

[11] المرجع نفسه، ص79.

[12] المرجع نفسه، ص88.

[13] محسن. س. مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية، الناشر: دار الفارابي-بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 2009، ص240.

[14] أبو النصر الفارابي، رسالة التنبيه على سبيل السعادة، دراسة وتحقيق سبحان خليفات، الجامعة الأردنية، الطبعة الأولى، عمان، 1987، ص177.

[15] أبو النصر الفارابي، فصول منتزعة، دار المشرق، بيروت، لبنان، طبعة ثانية، 1993، ص84. ويضيف بعيد أسطر: “إذا مات الفاضل أو قتل فلا ينبغي أن يناح عليه، بل يناح على أهل المدينة بمقدار غنائه فيها، ويغبط بالحال التي صار إليها على مقدار سعادته. ويخص المجاهد الذي قتل في الحرب أن يمدح مع ذلك على بذله نفسه دون أهل المدينة وعلى إقدامه على الموت[…] قوم من الناس يرون أن الإنسان الذي ليس بحكيم إنما يصير حكيماً بمفارقة النفس البدن بأن يبقى البدن غير ذي نفس، وذلك هو الموت. فإن كان حكيماً قبل ذلك ازدادت حكمته بذلك وتمت وكملت أو صارت أكمل وأفضل. ولذلك يرون أن الموت كمال وأن مقارنة النفس للبدن فشر. وآخرون يرون أن الإنسان الشرير إنما يكون شريراً بمقارنة النفس البدن، وبمفارقته يصير خيراً. فيلزم هؤلاء أن يقتلوا أنفسهم وأن يقتلوا الناس جميعاً”. المرجع نفسه، ص85-86. وقارن دعوة الفارابي إلى الغبطة والمدح بدل النوح على موت الفاضل بما ورد في محاورة فيدون حول “استشهاد” سقراط.

إننا نعتقد أن الإنسان يسعى أفلاطون إلى تهيئه من خلال محاورة الفيلفس، هو الإنسان السقراطي الذي كان يجوب شوارع اليونان حافي القدمين ولا يستطيب ما يتلذذ به العامة. فسقراط هو البجع الذي يغتبط يدنو أجله ويحن إلى ديار هاديس، بينما يفتري عليه الجهلة الذين يزعمون أن غناءه نابع من هلعه وألمه. ألم ينتشي سقراط يتجرع السم (الشوكران) حتى الثمالة عوض الهروب من السجن؟! يقول أفلاطون: “أليس الرجل الذي تراه يغضب ساعة الموت هو ذلك الذي لا يحب الحكمة، ولكنه يحب الجسد؟ ولربما أحب هذا الرجل نفسه الثروة أيضاً، وربما أحب الجاه والألقاب علاوة على ذلك. إما أحد هذين الشيئين أو الآخر، وإما الشيئين مجتمعين”. أفلاطون محاورة فيدون، ترجمة علي سامي النشار، عباس الشربيني دار المعارف بمصر، ص330.

إن أفلاطون يربأ في محاوراته، وخاصة في محاورة فيدون ومحاورة الفيلفس أن تكون الفضيلة هي استبدال ملذات بملذات أخرى أو آلام بآلام أخرى. لأن العملة الوحيدة والواحدة الجديرة بأن نستبدل بها الملذات هي عملة الفكر وحدها. فملذات المعرف تظل حكراً على النزر اليسير من الناس. ولذلك فهي تحتل الأوج داخل الملذات الصافية. يقول أفلاطون عن هؤلاء الذين يقومون بالاستعاضة عن ملذات بملذات أخرى. “ولننتقل إلى أصحاب الحكمة منهم، ألا يحدث لهم بالمثل، أن يكون نوع من فساد السيرة هو مبدأ عفتهم؟ ومهما نقل باستحالة ذلك إلا أن الواقع مع ذلك أنهم يبلغون مثل هذه الحالة بعفتهم البلهاء. ذلك أنهم يخشون أن يحرموا من لذات أخرى يشتهونها. وإذا امتنعوا عن بعض اللذات، فذلك لأن هناك لذات أخرى تسيطر عليهم، ومهما سمينا الخضوع للذات فساداً، إلا أن هؤلاء الناس مع ذلك يخضعون لسلطان بعض اللذات، وبهذا هم يسيطرون على لذات أخرى. وهذا ما يشبه تماماً ما قلناه منذ هنيهة، من أن أصل عفتهم هو نوع من الفساد”. أفلاطون، محاورة فيدون، سبق ذكره، ص33.

ولذلك يأبى أفلاطون أن تكون العفة هي ترك بعض الملذات والتمسك بأهداب البعض الآخر. فهو ينتقد التعلق بأهداب الملذات مهما كان لونها، وحتى لو كان ذلك على حساب ملذات أخرى وأعنف، لكن العفة الحقة لن تتأتى إلا بالتخلص من كل هذه الشهوات جملة وتفصيلاً، والتطهر من دنسها. يقول أفلاطون: “وبالأحرى قد تكون الحقيقة الواضحة أن التطهر من كل هذه الشهوات يكون العفة والعدل والشجاعة، وأخيراً قد يكون الفكر نفسه وسيلة للتطهير”. الرجع نفسه، ص34.

إن الجسد هو مصدر الشرور والآثام بجميع أنماطها، والعائق الرئيسي للنفس، لأنه يحول بينها وبين نقاوتها وطهارتها التي فقدتها بسبب حلولها فيه. ولذلك طالما أشار إليه أفلاطون بالبنان. يقول في هذا الصدد: “أنظر إلى الحروب والفتن والمعارك ليس لها من باعث غير الجسد ومطالبه، فامتلاك الخيرات هو السبب الأصلي لجميع الحروب، وإذا كنا مدفوعين إلى تحصيل الخيرات، فإن ذلك بسبب الجسد الذي يصيرنا عبيداً في خدمته. وبسبب زلته أيضاً”. المرجع نفسه، ص30.

  فالنفس التي تتعلق بالجسد ترحل عنوة أثناء الموت لا لشئ إلا أنها بعد مسايرتها للجسد ردحاً من الزمن لا يستهان به، أصبحت مطبوعة الشهوي البهيمي. وهذا مالا يحدث للنفس العاقلة التي تكون على وعي بما ينتظرها من سعادة في العالم الآخر. ولذلك فهي تفارق الجسد مغتبطة لا تلوي على شئ كما حدث لسقراط الذي كان يزداد اغتباطاً بازدياد دنو رحيله. يقول أفلاطون: “وعلى ذلك فإن النفس الرشيدة العاقلة، تكون مطيعة كما أنها بعيدة عن الجهل فيما يخص بما يحدث لها، أما تلك النفس التي بالعكس تتعلق بالجسد تعلقا شديداً، والتي تتخذ من الجسد لزمن طويل مركزاً ومحلاً ظاهراً للإحساسات العنيفة، إن تلك النفس بعد كثير من المقاومة، وكثير من المحن، ترحل مكرهة”. المرجع نفسه، ص79.

إن إشاحة أفلاطون بوجهه عن الملذات وعفة لا يمكن استيعابها جيداً بمعزل عن إيمانه الراسخ الذي لا يتزعزع بالخلود لأن تعاسة المصير الأخروي أو سعادته رهينة بالكيفية التي قضى بها صاحبه حياته التي ليست في حقيقة الأمر سوى مجرد لحظة تهيئ الروح للانتقال إلي العالم الأزلي. وهذا يبدوا لنا الأثر الأورفي الفيثاغوري الذي تحدث طويلاً عن ضرورة خلاص الروح من الجسد بالتطهير ولعل مثال سقراط سيظل ملازماً لأذهاننا في هذا الصدد، فلقد كانت حياته ترجمة للقدرة التي تضطلع بها الروح ولسلطتها التامة على الجسد. يقول أفلاطون في هذا السياق: “وفي الواقع أن النفس لا يكون معها شئ عندما ترحل عند هاديس أكثر من تكونها الخلقي، وأسلوبها في الحياة الذي سيكون بالضبط تبعاً لتقاليد السلف ينفع أو يضر الميت من بداية الطريق التي تقوده إلى هناك”. المرجع نفسه، ص79.

[16] أبو نصر الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، قدم له وعلق عليه ألبير نصري نادر، الطبعة الثامنة، دار المشرق، بيروت 2002، ص137-138.

[17] عبد الواحد وافي، المدينة الفاضلة للفارابي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ص96.

[18] أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية، قدم له وبوبه وشرحه علي بوملحم، دار ومكتبة الهلال، ص91.

[19] أبو نصر الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، سبق ذكره، ص134.

[20] المصدر نفسه، ص138. ويقول أيضاً: “فإذا كانت أفعال أهل مدينة ما غير مسددة نحو السعادة، فإنها تكسبهم هيئات ردية من هيئات النفس، كما أن أفعال الكتابة متى كانت ردية أفادت كتابة ردية”، كتاب السياسة المدنية، سبق ذكره، ص93. أما في كتاب فصول منتزعة، فيقول: “الفضائل والرذائل الخلقية إنما تحصل وتتمكن في النفس بتكرير الأفعال الكائنة عن ذلك الخلق مراراً كثيرة في زمان ما واعتيادنا لها. فإن كانت تلك الأفعال خيرات، كان الذي يحصل لنا هو الفضيلة، وإن كانت شروراً كان الذي يحصل لنا هو الرذيلة على مثال ما عليه الصناعات مثل الكتابة، فإنا بتكريرنا أفعال الكتابة مراراً كثيرة واعتيادنا لها تحصل لنا صناعة الكتابة وتتمكن فينا. فإن كان ما نكرره ونتعوده من أفعال الكتابة أفعالاً رديئة تمكنت فينا كتابة سوء، وإن كانت أفعالاً جيدة تمكنت فينا كتابة جيدة”. أبو نصر الفارابي، فصول منتزعة، سبق ذكره، ص30. 

[21] أبو نصر الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، سبق ذكره، ص134-135-136.

[22] أبو نصر الفارابي، فصول منتزعة، سبق ذكره، ص96.

[23] محسن. س. مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية، سبق ذكره، ص236.

[24] جمال الين العلوي، رسائل فلسفية لأبي بكر بن باجة: نصوص فلسفية غير منشورة، دار الثقافة-بيروت، دار النشر المغربية، الدار البيضاء-المغرب1983، ص197-198.

[25] المرجع نفسه، ص202.

[26] المرجع نفسه، ص64.

[27] محمد المصباحي، الوجه الآخر لحداثة ابن رشد، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، تشرين الثاني (نوفمبر)، 1998، ص54-55.

[28] محمد المصباحي، من المعرفة إلى العقل، بحوث في نظرية العقل عند العرب، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، شباط (فبراير) 1996، ص32.

[29] أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية، سبق ذكره، ص92.

[30] يقول محمد المصباحي: “هذا الوضع هو ما يفسر الطابع الجماعي والكلي لهذا النمط من السعادة لأنه كلما انضافت نفوس فاضلة ومفارقة إلى عالم الخلود، تضاعفت السعادة وصارت أعظم كثافة وقوة، إذ أن الواحد يشعر في نفس الوقت بسعادته وسعادة الآخرين”. محمد المصباحي، من المعرفة إلى العقل، سبق ذكره، ص42.

[31] المرجع نفسه، ص41.

[32] أبو نصر الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، سبق ذكره، ص80.

[33] المرجع نفسه، ص81.

[34] محمد المصباحي، التحالف بين الفلسفة والدين بوصفه مخرجاً لأزمة الحداثة السياسية عند ليو شترووس، ضمن، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 148 – 149، شتاء 2009، مركز الإنماء القومي، ص28.

[35] أبو نصر الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، سبق ذكره، ص81-82.

[36] المرجع نفسه، ص 82 – 83.

[37] محمد المصباحي، من المعرفة إلى العقل، سبق ذكره، ص43.

[38] أفلاطون، محاورة الجمهورية، ترجمة ودراسة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص310.

[39] المرجع نفسه، ص328.

[40] دراسة فؤاد زكريا لمحاورة الجمهورية، سبق ذكره، ص119.

[41] فؤاد زكريا، المرجع نفسه، ص 118.

[42] عبد الرحمان بدوي، أفلاطون، الناشر: وكالة المطبوعات الكويت، دار القلم، بيروت، لبنان، ص204.

[43] إبراهيم مذكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق، سبق ذكره، ص 44.

[44] Watt (W. Montgomery), Muslim Intellectual: A Study of Al-Ghazali, Edinburgh at The University Press, 1963. P. P. 54.