فلسفة الفارابي السياسية “دارسة في علاقة الفيض بالعلم المدني”
ضرار علي بني ياسين([*]) ملخـص : هدفت هذه الدارسة إلى البحث في النظرية السياسية عند الفارابي، أو ما دعاه هو بـ “العلم المدني” أو “السياسة المدنية”، بما هو موضوع الفلسفة السياسية والاجتماعية. وذهب الباحث إلى تتبع أصول هذه النظرية واستقصاء مصادرها كما بثها الفارابي في مؤلفاته ورسائله. وخَلص البحث إلى إن الفلسفة السياسية عند الفارابي تشكل جزءا هاما وأصيلا من فلسفته العامة، كما إن آراءه السياسية النظرية تغلغلت في ثنايا هذه الفلسفة وفرضت حضورًا وترسّخا لافتين، وتبيّن للباحث مدى متانة الوشائج التي أوجدها الفارابي بين كل من السياسة والأخلاق ونظريته في السعادة من جهة وبين آرائه السياسية ونظريته في الفيض وتراتب الموجودات من جهة أخرى، من زاوية إن الفارابي لم يشأ إن يفصل العلم المدني والسياسة المدنية عن باقي فروع فلسفته، وذلك لإيمانه بوحدة العقل الإنساني. إن الفيض لدى الفارابي الذي رتبت بمقتضاه الموجودات له دلالته المنطقية والأخلاقية والإبستمولوجية، كما إن له أيضا دلالته الكبرى في شأن بناء الفارابي وتأسيسه لمبادئ السياسة المدني. الكلمات الدالة: الفيض، الفلسفة السياسية، الفارابي، العلم المدني.
المقدمـة:
كثيرون هم أولئك الدارسون الذين يُعيدون قراءة فلسفة الفارابي العامة لأغراض عديدة، وبضمنها الغرض الذي يَروم تَجلية المكانة التي تحتلها السياسة (الفلسفة المدنية) في هذه الفلسفة، وكذا الكشف عن أصول نظريته السياسية وتجلية مظانها وأبعادها، وسعوا في هذا السبيل إلى قلب الرؤية التقليدية الرائجة التي كان يُنظر خلالها إلى الجانب السياسي في فلسفته، عندما كانت تؤَول غالبا بوصفها أجزاء مبعثرة مُضمنّة في كتبه الكثيرة، ومن أنها لا تمثل أزيد من مُجرد جزئية مُلحقة لبقية الفروع الأساسية في فلسفته العامة، أو أنها تابعة لمباحث الإلهيات والطبيعيات والمنطقيات، أي بوصفها من توابع الميتافيزيقا أو نتيجة لازمة لها.
إن ما دفع الباحثين في فلسفة الفارابي إن ينزعوا هذا المنزع، وقوفهم على حقيقة إن أغلب كتبه تبدأ بمقدمة في مسائل الإلهيات، ثم تعرض فيما يلي ذلك الموضوعات المتعلقة بالغاية التي من أجلها ألف الكتاب، أمّا في حالة كتاب “المّلة”، فهو وإن لم يسلك في مبتدأه بحث موضوع الإلهيات، فإن القصد عنده في هذا الكتاب من الممكن إن يُفسَر بأن الفارابي لم يقصد البحث في العلم المدني (السياسة) على الخصوص بقدر ما أراد البحث “في الأصول التي يُبنى عليها تركيب المدينة الفاضلة والسياسة المدنية والمنهج الذي استخدمه في الكتب”(1).
إن الإشارة إلى نزعة الفارابي النظرية التي حددت إطار بحثه المسائل السياسية في فلسفته ضمن موضوع الميتافيزيقا، قد لا تكفي لتفسير مقصده الأسنى في طرح المسائل السياسية ضمن ذلك الإطار، عوضا عن طرحها في صورة مباحث مستقلة تحت عنوان العلم المدني أو السياسة المدنية. وفضلا عن المساحة الكبيرة التي تحتلها مباحث الإلهيات في كتب الفارابي، فإن هناك من أرى أنه لم يرغب في “أن يطرق قضايا السياسة ضمن إطار الميتافيزيقا بقدر ما هو عكس ذلك”(2). والمسألة، هنا، جدّ مختلفة، كونها ترتب على الدارسين في فلسفة الفارابي قضايا إبستمولوجية، من زاوية دحض اعتقاد مؤداه إن السياسة خادمة لمشروع الفارابي وليس العكس.
الفلسفة والسياسة المدنية:
لقد أعطى الفارابي من دون شك لفلسفته طابعا سياسيا خاصا، فقد كان للنظر السياسي فيها أثرٌ بيّن وجلي لا يُخطئه الباحث المتعمق في هذه الفلسفة، حتى إنه ليتعذر على الدارس فهم هذه الفلسفة بمعزل عن دارستها في ضوء نزعتها السياسية الخاصة، “وكأن هذه النزعة المسيطرة على فكر الفارابي وتوجهه تخضع القضايا الفلسفية الأخرى لها”(3)؛ وذلك لأن الغرض الذي يحرك فلسفته كلها، كما يبدو، إنّما هو غرضٌ سياسي، وإنه لا يمكن وفقا لهذا المقتضى من الاعتقاد فهم هذه الفلسفة على أصول النظر الصحيحة فيها ما لم يُنظر إليها من هذه الناحية السياسية(4).
نحن إذا أنعمنّا النظر في العلم المدني عند الفارابي بما هو موضوع الفلسفة السياسية والاجتماعية ألفيناه يُعنى في المبتدأ منه بالمبادئ والنظريات الإلهية ذات العلاقة الوشيجة بسعادة الإنسان في دركيها: الدنيا والآخرة، وهو عندما يَسِم كتابه بـ”السياسة المدنية” “مبادئ الموجودات”(5)، فإنما يؤكد نتيجة منطقية لنظرته إلى الإنسان، بوصفه حيوانا مدنيا غير قادر على تحقيق كماله الاّ من بعد انضوائه إلى المدينة الفاضلة وجملة السياسة المدنية الفاضلة. وبالنتيجة فإن كل ماله علاقة أو صلة بكمال الإنسان وسعادته، ومن ضمنه، بالتأكيد، العلم المدني ومبادئ الموجودات، فإنما يَخضَعُ للعلم المدني(6).
وبخصوص التوصيف السابق للعلاقة بين الفلسفة والعلم المدني لدى الفارابي فإن هذا الفهم يتقضّانا القول بأن السياسة من أهم المباحث في فلسفته بعامة؛ وذلك لأن المرامي القريبة لهذه الفلسفة إنما يتشخص مطلوبها النظري في العلم المدني أو السياسة، وعليه، فإن اكثيرً من الآراء التي فصِّلت حول فلسفته السياسية إنّما جاءت نظرة عجلى، وبعضها اكتفى بدارسة كتاب “آراء أهل المدينة الفاضلة”، فوقع في وهم أصحابها إن السياسة لم تشكل سوى حواشي مُشذبة في فلسفته العامة، ولو إن هؤلاء قالوا بأن السياسة المدنية تمثل خيطا متينا يمتد في كل حقول هذه الفلسفة، ما انتقص قولهم هذا من قدر المعلم الثاني، وما قلل من شأن عبقريته الفلسفية.
لم يلتفت هؤلاء – ربما- إلى مسألة منطقية الربط بين هذا الكتاب وبين نظريته الفلسفية العامة في حقول المعرفة والوجود والأخلاق والمنطق والنفس، ولا إلى إن يدرسوه في ضوء كتبه الأخرى، من مثل كتاب: “الملّة الفاضلة”، و”رسالة التنبيه على سبيل السعادة”، وكتاب “المبادئ الإنسانية” وكتاب “تحصيل السعادة”، وكتاب “السياسة المدنية”. إذ إن هذه الكتب تبين إن الأفكار السياسية أشغلت عقله النظري وأهاجت فكره الفلسفي، بسبب إن “النظرية السياسية تهيمن على فكره، لدرجة إن باقـي الدارسات الفلسفية [وليس] الإلهيات والأخلاق وعلم النفس فحسب، بل كذلك الطبيعة والمنطق. تتبع لتلك النظرية وتخضع لها”(7).
من الممكن إن يبدو للرائي إن الموقف السابق يمثل مقاربة دقيقة للفلسفة السياسية عند الفارابي. بالرغم من مبالغته بعض الشيء، إذا فهمناه في حدود توصيفه للروابط والعلائق المتينة بين أجزاء فلسفة الفارابي. والارجح هو إن الفارابي نفسه لم يشأ أن يفصل العلم المدني والسياسة المدنية ويخصهما بمباحث مستقلة، والسبب قد يعود إلى أنه كان مؤمنا بوحدة الفلسفة كما بوحدة العقل، ومن إن السياسة علم لا يمكن فهم أغراضه وأبعاده النظرية والعملية إلاّ إذا رُبط بنظرية فلسفية عامة، تسبرها رؤية شاملة متكاملة، تكشف عن أصول النظام والترتيب للموجودات التي يسعى كل واحد منها إلى إحراز كمالاته الخاصة، وصولا إلى بلوغ السعادة القصوى التي لا تستقيم ولا يتم لها تحقق إلاّ بالاجتماع الإنساني المدني في الملّة الفاضلة.
عاش الفارابي في بداية القرن الاربع الهجري (260-874م/339 -950م) في وقت شهدت خلاله الدولة العباسية كثيرًا من التصدعات: سياسيا واجتماعيا ودينيا عقديا، فكان من َّ المحتم إن تصدم هذه الأحوال المتبدلة وعي المفكرين المسلمين عامة إبّان عصرهم ذلك، ويظهر إن الفارابي قد أصابه شيء غير هيّن من هذه الصدمة، فابتدر فكره ونذر نفسه وقضيته الأساسية لما رآه السبيل لإعادة الوحدة إلى الفكر والمجتمع معا، ذلك إن إعادة الوحدة إلى الفكر تكون في تجاوز الخطاب الكلامي السجالي الذي فشا في المدن الجاهلة “التي لا مراتب فيها ولا نظام”(8). وفسدت فيها الملّة الفاضلة إلى إن تحولت إلى ملة غير فاضلة(9)، ومن ثم الشروع في إعادة بناء العقل الكوني والنظر البرهاني، كما وإعادة بناء لحمة المجتمع ووحدته(10)، على أساس من النظر الفلسفي. هكذا أراد الفارابي بناء أسس جديدة أو مُجددة للمشروع الفلسفي برمته، بصورة يمكن، خلالها، إن تعاد للسلطة وللسياسة وحدتهما، ولم الشتات لإصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، وتجاوز ملة المدن الجاهلة الفاشِيَة، “وأئمة الضلال وأهل الجاهلية الذين في الزمان الحاضر”(11). عن طريق الفلسفة “التي تعطي براهين ما تحتوي عليه الملّة الفاضلة”(12)، والعمل على تخليصها من الأمراض التي تصيب المدن الفاضلة، بأسباب من الأفعال والملكات التي في المدن غير الفاضلة (الجاهلة)(13)، والتي حصلت نتيجة استبداد السلطة وانحرافها، وطغيان أرباب الجهل فيها.
طبيعة مشروعه الفلسفي المدني:
إن إعادة تأسيس المشروع السياسي الذي يخص الواقع، تطلب لدى الفارابي، إعادة تأسيس مكانة العقل في الفلسفة بشقيها النظري والعملي، لأن وظيفتها لا تنحصر في دارسة الوجود والموجودات، كما يمكن أن يُظن لأول وهلة، بل إن وظيفتها بالأحرى إن تنخرط في الزمان والتاريخ الأشد محسوسية وفي المعيش الإنساني الحي، وأن تدخل المجتمع والمدينة لإصلاح عالم الإنسان في الحياة والواقع(14). ولكن ما بدا واضحا من زاوية خاصة عند دارسة فلسفة الفارابي السياسية، هو إن نظرية الفارابي السياسية أدارت ظهرها للواقع السياسي والاجتماعي المشحون آنذاك بالأحداث، وبما انتهى إليه الحال الاجتماعي والسياسي إبان ذلك العصر، فهو، وإن كان قد تعايش واقعيا بشكل مباشر الواقع مع السياسي آنذاك، إلّا أنه كان يبدو واثقا كفيلسوف من رغبته في تجاوز الواقع، المرفوض بالنسبة إليه وأن يسعى إلى بناء أسس نظرية فلسفية جديدة، من شأنها إن تدشن واقعا جديدا تتحقق فيه المدينة الفاضلة، وتتحقق وحدة العقل مع الواقع. وإن كان وجد هناك من فسّر مشروعه الفلسفي بأنه يتجاوز مسألة كونه يهدف إلى غاية نظرية، بل إلى غاية عملية أيضا، يتغيا “تجسيدها إلى أرض الواقع المحتاج إلى تحقيق هذه الغاية، فهو من خلال هذا المشروع الفكري يسعى إلى تغيير ما هو كائن إلى ما ينبغي إن يكون”(15).
والواقع إن الباحث المتمعن في فلسفة الفارابي السياسية لا يعوزه التأويل البعيد لاكتشاف الطبيعة المثالية البارزة فيها، وانصرافه العملي عن حركة الواقع وقواه المختلفة، وعلى الأغلب لم تكن للفارابي أية صلة بالسياسة العملية، ولا بأهل السلطة في زمانه، ولم يُؤثَرْ عنه اهتمامه بها، فمع أنه “من أشد الفلاسفة المسلمين عناية بالسياسة، لم يشارك فيها أدنى مشاركة”(16).
من الممكن إن الفارابي تطلع إلى مدينة فاضلة شأنها إن تعكس أصالة مجتمع فاضل تتحقق في كنفه السعادة والكمالات الضرورية للمجتمع، وأن هذه المدينة تمثل لديه أكثر من دلالة روحية واجتماعية وسياسية لحركة المجتمع الإسلامي، ولكنها دلّت من ناحية ثانية على فكرة الوحدة “وحدة الفكر ووحدة المجتمع”، على أساس أن وحدة الفكر تقضي بأن الحقيقة الفلسفية واحدة مهما تعددت المذاهب، فذهب من هذا الجانب إلى التأويل في الكلام عن وحدة الفكر، كما أنها تقضي بأن الدين والفلسفة يصدران من مشكاة واحدة، فأصلهما يصدر عن العقل الفعال، الذي تستفيد منه الموجودات تحققها وكمالاتها وتُحرز سعادتها. وأما وحدة المجتمع فمن الممكن تحققها عنده بوضع أسس راسخة عن طريق الربط بين جوانب فلسفته الطبيعية والأخلاقية، الأمر الذي يدفع إلى الاستنتاج بأن فلسفته السياسية أتت محاولة نظرية منه لتقديم رؤية يتحقق من خلالها لم شتات الأمة الإسلامية تحت ظل حاكم مركزي قوي. من هنا، يبدو إن العقل الفعال يحتل عنده المكانة الرئيسة في كل فلسفته بأقسامها الإلهية والطبيعية والسياسية، لأن وظيفته إدامة فاعلية تنظيم عالم الكون والفساد ومراقبته، وأن يبقيه مربوطا بعالم الخلود والثبات. ومن شأن تجاهل هذا الدور للعقل الفعال إن يفضي إلى قراءة غير صحيحة أو خاطئة للفارابي، ولتصور مشروعه الفلسفي الذي يبدو من خلاله وكأنه أراد “أن يسيّس الفلسفة بدل إن يعقلنها”(17).
لا مناص من القول بأن الفارابي أخضع السياسة المدنية لنظرية عقلية تقع في لب فلسفة الوجود عامة، فالكيفية التي تصور فيها مهمة العقل البشري ضمن صيغة العلاقة بينه وبين العقل الفعال من جهة، وبين صيغة العلاقة بين النفس والجسم من جهة أخرى، هي بالأحرى التي يتوقف عليها مصير المجتمع المدني، وبنيته، وطرائق تدبيره، والعلاقة بين أفراده وفئاته، سواء في الاجتماعات المدنية الكاملة أم في الاجتماعات غير الكاملة، وعلى مستوى المدينة والمعمورة، إذ إن صياغة المجتمع المدني وقيامه في الاجتماع المدني الفاضل ترجعان عنده في آخر المطاف إلى نظرية العقل الذي “لا يتجلى في السياسة، فليست السياسة هي التي تنعكس في العقل، لأنه أداة تدبيرها وقانونها وغايتها المطلقة”(18).
إن الارجح لدينا إن انصراف الفارابي إلى المنطق من جهة وإلى الفلسفة السياسية من جهة أخرى، وإلى الأخلاق العملية من جهة ثالثة، وكلها حقول فكرية متتامة في عقله، لم يكن هذا الانصراف إلا تتويجا لصورة انعكاس الواقع الاجتماعي والسياسي في هذا العقل، فابتغى إن يعيد تأسيسها على نحو جديد على أساس إعادة الوحدة إلى هذا الواقع. من هنا يكون بالإمكان فهم معاني مدينته الفاضلة التي أسس لها، وكذا فهم مضاداتها من المدن غير الفاضلة (الجاهلة)، وذلك من خلال بحثه في الأسباب والجهات التي لا يُؤمن معها إن تتحول الرياسات الفاضلة وسنن المدن الفاضلة إلى السنن والملكات الجاهلة(19)، كما والبحث في جملة التدابير التي يجدر اتخاذها في حالة لم تعد المدن الفاضلة فاضلة، وتحولت إلى مدن جاهلة، وذلك بغرض إعادتها إلى حالة الفضيلة، بمعونة العلوم النظرية والعملية والقوة الحاصلة عن التجربة(20).
وإذا كانت فلسفة الفارابي تصدر عن هذا الوعي بتلك التناقضات التي حملتها ثقافة عصره، بكل ما تمور به من إرهاصات روحية وفكرية وسياسية واجتماعية ومن هدف أسنى يتطلع إلى الوحدة بين العقل والفلسفة والواقع، فهل يصح القول إن هذه الفلسفة تصدر في جانبها المدني والسياسي من دوافع تتعدى النزعة التوفيقية وبضمنها توفيقه بين فلسفة أفلاطون وأرسطو، وتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك نحو غرض بناء أنطولوجي خاص بالوجود الإنساني في عصره، ومن ثم العمل على توحيد “الرؤية الدينية والفلسفية والسياسية والاجتماعية”؟(21).
الفيض ووحدة العقل النظري والعملي:
يُفضي التساؤل السابق، بنا، إلى مسألة وحدة العقل التي أكدّ عليها الفارابي، وعكف على إبرازها وبحثها، ومن الممكن فهمها من زاوية اعتقاده بنجاعة هذا العقل وقدرته على إعطاء تأويل شامل تتمثل وتترابط فيه جدلية فلسفية بين الصاعد والنازل، ويبدو إن هذا بالتمام، هو، ما هدفت إليه الميتافيزيقا الفيضية في فلسفته. فقد وضع الرئيس (حاكم المدينة) في المدينة الفاضلة موضع قطب الرحى، بوصفه الأساس العقلي المسوغ، الذي بمقدوره توجيه المجتمع وتوحيده فكريا وسياسيا واجتماعيا، الأمر الذي يُفسح المجال أمام بناء دولة العقل(22)، أو تحقيق مدينة فاضلة عاقلة تناط فيها رئاسة الحكم لفيلسوف(23)، يقضي غاياتها الحقيقية الأسمى، وذلك بوصول أهلها إلى السعادة القصوى التي هي الخير الأسمى الذي يمكن إن تناله النفوس الزكية في العالم الآخر بالأفعال الخيّرة الجميلة(24).
لقد بنى الفارابي العالم ونظامه اعتمادا على نظرية الفيض العقلي(25)، بصورة تبدو معها إن نظرية العقل، عنده، يهيمن عليها محور العقل الفعال/ النفس، فمن النفس إلى العقل الفعال منهجيا وزمانيا بالمعنى النسبي للزمان للوصول إلى المعرفة وإلى السعادة العظمى، ولكن أيضا من العقل الفعال إلى النفس انطولوجيا ومنطقيا، لأن الأسبقية للعقل الفعّال الذي يخلق النفس وجوديا، ويمحضها المعرفة إبستيمولوجيا، لأجل إن تسعى نحوه وتتصل به بمقدار كمالات العقل المستفاد لبلوغ السعادة والمعرفة المطلقة(26).
اتخذ مثل هذا الجدل الذي اختطه الفارابي في فلسفته الفيضية صورتين: صورة الجدل النازل الذي يبرز من خلال تحليل العالم الإلهي العلوي المفارق ولوحة ترتيب العقول، ابتداءً من العقل الأول (الله) وانتهاءً بالعقل العاشر (العقل الفعّال)، الذي تصدر عنه الهيولي المشتركة بين جميع الأجسام(27)، ثم صورة الجدل الصاعد عند تركيب العالم السفلي، عالم الطبيعة إلى العقل المُستفاد، وانطلاقا من الكائن الفرد وضرورة الاجتماع الإنساني إلى رئيس المدينة الفاضلة(28).
ذهب الفارابي إلى إدراج الموجودات في فلسفته السياسية والاجتماعية ووضعها على ذات الهيئة التي هي عليها في نظرية الفيض من ناحية العلاقة بين واجب الوجود بذاته وسائر الموجودات، بناء على الواقع السياسي والاجتماعي القائم فيذلك الوقت. وبذلك يظهر الفيض كما لو أنه ينطوي على نظرية ميتافيزيقية وأنطولوجية، تتموضع في قلب العالم الطبيعي والإنساني، وتشكل بُعدا أخلاقيا وسياسيا يحقق السعادة الإنسانية بالكمالات المرجوّة، من حيث إن هذه السعادة تطل في جهتيها على مركزية ميتافيزيقا حضور الله من جهة، كما على مدى تحقق الإمكان في إحراز الحياة المدنية الفاضلة للبشر من جهة أخرى، وتبقى مسألة إحرازها هذه مرهونة بدرجة هذا الحضور وقوته.
ما يبدو واضحا إن الفيض عند الفارابي لا يثير لدى البعض سوى النقد والتوقف عند المشكلات الأنطولوجية والإيبستمولوجية التي تطرحها سلسلة الفيض وتراتبية العقول، وقضايا عويصة أخرى تتعلق بالوحدة والكثرة والعلاقة بين العقل الفعال والموجودات، وانقطاع سلسلة الفيض أو العقول، عند هذا الحدّ، وما إلى ذلك من مشكلات تجلبها نظرية الفيض.
والواقع أنه إلى جانب الدلالات المعرفية والميتافيزيقية للفيض، لا يمكن نكران دلالاته السياسية في فلسفة الفارابي، لأن الفيض هو شكل لما يمكن دعوته بميتافيزيقا صنع العالم أنطولوجيا، الذي يتم بصورة السقي الوجودي وبرعاية الأعلى للأدنى.
وبذلك تصبح الموجودات العليا عقولا تفيض على ما دونها أو تحتها، إلى إن يصل الفيض غايته إلى المادة، بيد إن السقي الإلهي للموجودات في الميتافيزيقا الفيضية عند الفارابي لا ينقطع عند هذه العناصر التي تتشكل على هيئة إنسان له كينونته الأخلاقية الخاصة في الاجتماع الإنساني المدني، بل لا بُدّ له من إن يستمر من خلال فعالية العقل الفعّال، ويقوم بدور الاربطة الشّغالة على الدوام بين عالم الروح وعالم المادة، غير أنه لا يؤثر إلا في نوعه الخلاّق، فتجري عملياته في العقل الإنساني فائضا عليه هو الآخر.
من هنا يمكن القول بأن فلسفة الوجود عند الفارابي، هي تعبير عن تدرج أشكال الاجتماعات الإنسانية في كل من المدن الفاضلة والمدن الجاهلة، ولكن هذا التدرج في الأشكال يعوزه شيء أساسي هو الترتيب والتنظيم، الذي على أساسه تصح، عنده، التراتبية الخاصة وتستقيم، بالمقابلة المنطقية بين لوحتين أساسيتين: لوحة الوجود، الذي هو النتيجة المباشرة وغير المباشرة في الفيض، ولوحة المجتمع المدني (الاجتماعات المدنية) وتدرجها على أساس الترتيب والتنظيم.
من المرجّح إن الفارابي في تقديمه لنظرية الفيض وتصميمه للوحته الانطولوجية الخاصة بالموجودات القائمة على أساس النظام والترتيب، والمتممة حضورًا واستكمالا دائما وأبدا بالسقيا(الفيض) الإلهية وميتافيزيقا حضور الله في العالم، كان يأمل في الوقت نفسه رسم نظرية سياسية واجتماعية تعيد تشكيل المجتمع الإسلامي في لحظته السياسية ودولته الراهنة آنذاك، لا سيما وأنه يشهد تصدعا في الدولة الإسلامية، فوجد أن الفلسفة وحدها يمكنها إن تطرح صورة جديدة للسياسة المدنية الفاضلة، تقوم على مركزية هذا الحضور، أو هذا الشكل من ميتافيزيقا الحضور، التي من شأنها إن تعكس صورة السلطة الجديدة ومراتبها على الهيئة التي يريدها إن تكون.
استنتاجا مما سبق، يتبين إن الفارابي أورث مذهبا متكاملا محدد المعالم إلى حد كبير تتواشج أجزاؤه، سواء “في الطبيعيات أو الإلهيات أو الأخلاق أو السياسة”(29). ومن هنا ينبغي فهم فلسفته السياسية، التي تتغلغل في كل هذه الحقول الفلسفية، واستخدم في تسميتها عبارات متشابهة، فتارة يدعوها بالفلسفة السياسية، وتارة ثانية ينعتها بالسياسة المدنية، كما في كتاب “التنبيه على سبيل السعادة”، وتارة ثالثة يسميها بالعلم المدني أو العلم الإنساني، كما في كتاب “تحصيل السعادة”، أما في كتابه الملّة، فدعاها: فلسفة مدنية وعلم مدني.
ونجد أيضا في هذا الخصوص إن مقاربة فلسفته السياسية في المدينة الفاضلة ومضاداتها من المدن الجاهلة تعتمد إلى حدّ كبير على أفكاره في نظام الكون وفي النفس والعقل الفعال ونظرية النبوّة، التي تقوم على “دعائم من علم النفس وما وراء الطبيعة، وتتصل اتصالا وثيقا بالسياسة والأخلاق”(30)، ولا يمكن بالتالي الفصل بين هذه البناءات النظرية المتواشجة في فلسفته، وجعلها واقعيا في صميم العلوم التي تدخل فيها “الأخلاق أو الصناعة الخلقية من جهة أخرى”(31).
السعادة: الأخلاق والسياسة:
ربط الفارابي في فلسفته بين السياسة والسعادة والأخلاق، وهي الغاية القصوى التي “ليس وراءها شيء آخر يمكن إن يناله الإنسان أعظم منها”(32). ويبدو إن السعادة لديه تنطوي على مفهوم متكامل يشتمل على جوانب أخلاقية واجتماعية، ولكنها لن يتم بلوغها إلاّ عند تحقيق هذه الجوانب في صورها التامة، وأولها الاجتماعات المدنية الفاضلة، لأن المجتمع السياسي يقوم أساسا ساعيا إلى السعادة القصوى، التي هي ليست أي شيء آخر سوى “الخير على الإطلاق، وكل ما ينفع إن يبلغ السعادة وينال به، فهو أيضا خير، لا لأجل ذاته لكن لأجل نفعه في السعادة”(33). كما إن السعادة عنده تقوم على تحقيق العقل في الإنسان وصيرورته جوهرًا مفارقا، فيما الاجتماع في المدينة الفاضلة، بل وحتى أي اجتماع آخر كامل هدفه وصول الإنسان إلى هذه الغاية، أي السعادة.
جعل الفارابي في كتابه “تحصيل السعادة”، “الأشياء الإنسانية التي إذا حصلت في الأمم وفي أهل المدن حصلت لهم بها السعادة الدنيا في الحياة الأولى والسعادة القصوى في الحياة الأخرى، أربعة أجناس: الفضائل النظرية، الفضائل الفكرية، الفضائل الخلقية، الصناعات العملية”(34). وهكذا، يبدو أن السياسة في مذهبه الفلسفي لا تنفصل عن الأخلاق، بلهما بالحري كل واحد يتعلق بالسعادة وسبل تحصيلها، والفارابي نفسه عبّر عن هذه الوحدة بالقول: “والفلسفة المدنية صنفان: أحدهما تحصل به الأفعال الجميلة والأخلاق التي تصدر عنها الأفعال الجميلة والقدرة على أسبابها، وبه تصير الأشياء الجميلة قنْيةَ لنا، وهذه تسمى الصناعة الخلقية، والثاني يشتمل على معرفة الأمور التي تحصل الأشياء الجميلة لأهل المدن والقدرة على تحصيلها لهم وحفظها عليهم، وهذه تسمى الفلسفة السياسية. فهذه جمل أجزاء صناعة الفلسفةـ ولما كانت السعادات إنما تنالها متى كانت لنا الأشياء الجميلة إنما تصير لنا قنْيةَ لصناعة الفلسفة، فلازم ضرورة إن تكون الفلسفة هي التي بها تنال السعادة”(35).
والواضح إن العلم المدني عند الفارابي يشير إلى الفلسفة السياسية والاجتماعية، ولكنه في مواضع مختلفة من مؤلفاته، فإن الفارابي يحيل إلى علم الأخلاق الذي يبحث في السعادة من ناحية والفلسفة الاجتماعية ـ السياسية الخالصة من ناحية أخرى(36).
يتبين إن الفلسفة المدنية عند الفارابي تحصل على وجهين: “أحدهما به يحصل على الأفعال الإرادية الجميلة والأخلاق التي تصدر عنها الأفعال الجميلة، وثانيهما، معرفة الأمور التي بها تحصل الأشياء الجميلة لأهل المدن والقدرة على تحصيلها لهم، وهذه تسمى: الفلسفة السياسية وعلم السياسة”(37). وقد دعا الفارابي علم السياسة بالعلم المدني، وعرّفه تعريفا جامعا، وبين أنه العلم الذي “يفحص عن أصناف الأفعال والسنن الإرادية، وعن الملكات والأخلاق والسجايا والشيم التي تكون عنها الأفعال والسنن، وعن الغايات التي لأجلها تفعل، وكيف ينبغي إن تكون موجودة في الإنسان، وكيف الوجه في ترتيبها فيه على النحو الذي ينبغي إن يكون وجودها فيه والوجه في حفظها عليه”(38).
إن غاية العلم المدني عند الفارابي هي الخير، وهو يشمل علم سياسة المدينة الفاضلة والمدينة الفاسدة(39)، وهو من بعد وسيلة التمييز بين الغايات التي لأجلها تفعل الأفعال في الحياة، والتي منها ما هي في الحقيقة سعادة، ومنها ما هو مظنون أنها سعادة، وإن تلك التي هي في الحقيقة سعادة لا يمكن إن تكون في هذه الحياة، بل في حياة أخرى، والمظنون أنها سعادة هي الثروة والكرامة واللذات، المجعول منها غايات في هذه الحياة فقط(40).
ضرورة الاجتماع الإنساني:
لم يكن مطلوب الفارابي السياسة نفسها، بقدر ما كانت طِلبته تحصيل السعادة، بامتلاك الفضائل التي تمكن من بلوغها، ولا تتأتى إلا بالاجتماعات الإنسانية التي غايتها بلوغ الكمال، الذي به “تكون السعادة الدنيا في الحياة الأولى، والسعادة القصوى في الحياة الآخرة”. غير إن هذه الكمالات الإنسانية لا يمكن للإنسان إن “يبلغها وحده بانفراده دون معاونة أناس كثيرين له… وإنه لذلك يحتاج كل إنسان فيما له إن يبلغ من هذا الكمال إلى مجاورة أناس آخرين واجتماعه معهم”(41).
وأكد الفارابي هذا المعنى السابق في كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة”. بالقول: “كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه، وفي إن يبلغ أفضل الكمالات الذي لأجله جعلت له الفطرة الطبيعية إلا بالاجتماعات”(42). وعليه فإن الفارابي يرى إن الإنسان مخلوق اجتماعي لا يمكنه العيش بمفرده، وأن يوفر لنفسه كل احتياجاته، فهو إنسان مدني لا يتكامل إلاّ مع الآخرين، وعندئذ عليه إن يسعى دائبا بحثا عن الصفات الفاضلة، إلى إن يصل إلى الكمال ومن ثم السعادة.
يؤكد الفارابي على ضرورة الاجتماع الإنساني، لأن به تُلبى حاجة الأفراد من الناس إلى التعاون، لكنه لا يطلب اجتماعا كيفما اتفق، بل هو اجتماع يستقيم بالمراد أو الغرض، لأنه عنده وسيلة إلى غاية أسمى، تلكم هي بلوغ الكمال وتحصيل السعادة في الدنيا والآخرة، ولأجل ذلك فقد وازى في نظرته إلى الاجتماع الإنساني مع نظرته إلى السعادة، فاعتقاداته في السعادة تشكل من جهة أعمدة مشروعه الفكري السياسي، إذ هي قضايا يصدق بصوابها وبقدرتها على توجيه السلوك نظريا وعمليا نحو غاية مطلوبة، هي تحقيق الدولة الفاضلة التي يترتب على قيامها تحقيق السعادة لأفراد ومجتمع هذه الدولة، كما أنها تشكل من ناحية ثانية مفاتيح فهم أوعى لأفكار الفارابي(43).
لم تكن الاجتماعات الإنسانية عند الفارابي كاملة كلها، فمنها ما هي كذلك، ومنها اجتماعات غير كاملة، والواقع أنه ذهب إلى تقسيم هذه الاجتماعات حسب الكم والكيف على الصورة التي سمحت له إن يصفها بما وصفها. وقسّم الاجتماعات الكاملة إلى عظمى ووسطى وصغرى، الأولى منها هي اجتماع أمة المعمورة، والثانية اجتماع أمة في جزء من المعمورة، وأما الثالثة، فاجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة، بينما المجتمعات غير الكاملة فإنها تأخذ، عنده، صورة أنقص من المدينة وتشمل تجمعات القرى والمحال والسكك والبيوت(44).
رتب الفارابي، إذن، الاجتماعات الإنسانية إلى مرتبتين، وعند تحليلهما يتبين إن الاجتماعات الكاملة هي التي يتحقق فيها التعاون الاجتماعي بوجه كامل، لبلوغ المراد في سعادة الأفراد. أما الاجتماعات الناقصة فتلك التي يعوزها مثل هذا التعاون الكامل، ولن يتأت لها إن تكفي نفسها بنفسها. من الملاحظ إن صورة الاجتماع الأول من الاجتماعات الكاملة ويقصد بها اجتماع أهل المعمورة (العالم كله)، لم يأت أحد من فلاسفة اليونان الذين انتهل الفارابي من فلسفتهم كأفلاطون وأرسطو على ذكره، ولم يسبقه أحد ـ فيما يبدو ـ إلى هذه النظرة العالمية في الاتحاد الإنساني. ومعلوم إن هذين الفيلسوفين وغيرهما لم يجيلوا النظر في آرائهم السياسية إلاّ فيما وقع تحت نظرهم وخبرتهم المباشرة، أي الدويلات الصغيرة (دولة المدنية) التي كانت سائدة في عصرهم.
الملاحظ أيضا هو إن الفارابي لم يتوسع في تفصيل النوعين الأولين من أنواع المجتمعات الكاملة (اجتماع العالم واجتماع الأمة)، واقتصرت أفكاره على صورة اجتماعات المدينة بنوعيها، المدينة الفاضلة ومضاداتها من المدن الجاهلة، وفصّل القول فيما ينبغي إن توفره هذه المدن في مجتمعها لكي تكون فاضلة على الحقيقة، وتنال غايتها ومطلوبها الأسنى في السعادة. وربما يُفهم من كلام الفارابي إن طموحه في مشروعه يسعى إلى تحقيق الحالة الوسطى، (دولة- الأمة)، حيث إن “هذه الدولة القومية لا يوجد ما يمنع نظريا إن تتعاون مع غيرها من الدول القومية الفاضلة الأخرى، فيتكون منها (دولة- المعمورة) الفاضلة كما أنه لا يوجد ما يمنع من الناحية النظرية إن تكون هناك (دولة- مدينة) فاضلة تنتمي لأمة ما، وتتعاون لتكون الدولة القومية”(45). وقريب من هذه المقاربة الأري الذي يرى بأن الفارابي اعتقد “أن المدينة هي الخلية الأولى للمجتمعات الكاملة، فبصلاحها تصلح هذه المجتمعات وبفسادها يعتورها الفساد”(46).
إن فرضية المجتمع الفاضل التي شكلت المحور الأساس الذي قامت في ضوئه نظرية الفارابي في فلسفته السياسية، كان لا بُدّ إن تقوم على دعامتين:
- دعامة مدينة فاضلة تتحقق فيها السعادة بوصفها الهدف المنشود.
- دعامة رئيس لهذه المدينة يكون أكمل إنسان، ويصبح بالنسبة لها بمثابة القلب من البدن.
وإذا كان العقل الفعّال بحسب لوحة الفيض يمنح الكمالات الإنسانية على مثال ما هي عليه الأجسام السماوية، فإنه يُعطي الإنسان أولا قوة ومبدأ يقدر بهما إن يسعى إلى سائر ما يكون عليه من الكمالات(47). وعليه فإن رئيس المدينة الفاضلة، يتوجب عليه إن يصل بأهلها إلى مرتبة فائقة من السعادة، بدوام حصول فعالية اتصاله بالعقل الفعال(48)؛ لأن حكيم الفارابي المأمول أو المنشود تنتدبه مهمته لكي يقود أهل المدينة نحو هذا الهدف بالذات، إذ إن السعادة الحقة مبلوغه في عملية الاتصال تلك، بيد إن المدينة الفاضلة عنده ليست مقصودة لذاتها، لكنها بالأحرى وسيلة لهداية الناس إلى طريق السعادة(49)، من حيث إن أهلها يتعاونون على بلوغ أفضل الأشياء التي بها يكون وجود الإنسان الحقيقي وقوامه وعيشه وحفظ حياته، وإحراز أقصى الكمالات المرغوبة.
من الجلي إن الفارابي يُماهي بين الأخلاق والسياسة، بدليل إن غاية السياسة، لديه، هي السعي إلى توفير الكمال الأخلاقي للأفراد بمعونة القوانين والتربية(50). وهو من بعد يتبع في الأخلاق والسياسة الأسلوب المنطقي نفسه في الموضوعات الأخرى في فلسفته: الله والنفس والعقل وغيرها، ويستنبط صور المجتمع وتدرجه وأصنافه من نظرياته الفلسفية في الوجود(51).
الأمر الذي يشير إلى حقيقة الترابط بين النظرتين: الفلسفة النظرية والفلسفة العملية، أو بين الميتافيزيقا والاجتماع الإنساني في السياسة والأخلاق. وبدورها تكون فلسفته الاجتماعية انعكاسا لفلسفته الماورائية، تستقي منها نظامها وتسلسلها. ومن هنا تظهر مسألة “إيمانه بوحدة العقل ووحدة الفلسفة”(52).
وما يبدو على مقتضى هذه الكيفية النظرية، هو إن غرض الفارابي من وراء هذا الربط محاولته بناء الموجودات في عالم الإله وعالم الطبيعة والإنسان، لأجل بناء أساس نظري للمدينة الفاضلة التي تقاوم تحولها إلى مدينة جاهلة(53). وقد جاء هذا الربط أيضا لدى الفارابي تتويجا لمبدأ وحدة العقل أنطولوجيا وميتافيزيقيا، ليتسنى له بناء نظرية متتامة في الفيض ونظام الكون بصورة يمكنه بعدها موضعة فلسفته السياسية والاجتماعية في قلب هذه النظرية الفيضية، ولتغدو جزءا أصيلا لا يتجزأ منها.
يتضح للباحث في فلسفة الفارابي إن غاية العلم المدني، عنده، هي تحصيل الخير، الذي يشتمل على علم سياسة المدينة الفاضلة والفاسدة، وبه يكون ممكنا التمييز بين الغايات التي لأجلها تكون الأفعال في الحياة، والتي منها ما هي في الحقيقة سعادة، ومنها ما هو مظنون أنها سعادة، على إن الأشياء التي يُظن فيها السعادة، فهي الثروة والكرامة واللذات، المجعول منها غايات في هذه الحياة فقط.
هكذا يكون الاجتماع الإنساني وسيلة لا غاية، حيث الغاية تتحقق ببلوغ الكمال الذي به تكون السعادة، على إن “الخير الأفضل والكمال الأقصى إنما يُنال أولا بالمدينة، لا بالاجتماع الذي هو أنقص منها، والمدينة التي يُقصد بها الاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة الحقيقية هي المدينة الفاضلة والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة هو الأمة الفاضلة”(54). وهكذا يتضح للباحث إن الفارابي لا يبحث عن اجتماع إنساني كيفما أتفق، لأن مجرد الاجتماع ليس إلاّ تحقق ناقص لصورة المدينة، وأما الكمال فهو يتحقق بالاجتماع الإنساني في صورة المدينة الفاضلة.
إن السعادة الحقة عند الفارابي ليست أي شيء آخر سوى الخيرات والأفعال الجميلة والفضائل، وأما ما سواها فليس غير الشرور والقبائح والنقائص(55). وهذه الأفعال موزعة على المدن المختلفة وتستعمل فيها استعمالا مشتركا، وأهلها هم “الذين عرفوا من الخيرات بعض هذه التي هي مظنونه في الظاهر أنها خيرات، من التي يُظن أنها الغايات في الحياة، وهي سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات”(56). وبذلك فإنهم صائرون إلى حياة يعيشون فيها في سعادة زائفة.
لقد تبين الآن مقدار عناية الفارابي بفكرة السعادة، فلا عجب أنها أدرجت عنده على رأس الغايات في فلسفته السياسية. فإذا كان العلم المدني لديه يُعنى بالمبادئ الأولية والنظريات الإلهية نظرًا للصلة التي تربطها بسعادة الإنسان، فإن هذه السعادة لكي تصل ذروة درجاتها من الكمال، فلن يتوقف أمر تحصيلها على الأفعال الإنسانية فحسب، وإنما على آرائه أيضا . ولكن يتعين أولا إن يُحرز الناس ويقيموا مدينتهم الفاضلة قبل كل شيء، لكي يتسنى لهم إن يُحرزوا الكمال النظري.
تكلّف الفارابي إذن عناء التفكير في وضع الأسس والتصورات الكفيلة، بنظره، بتحقيق السعادة لمجتمع المدنية الفاضلة، ليخلص إلى وضع تصور فلسفي أخلاقي للعلم السياسي الذي بواسطته يمكن تحقيق السعادة.
المدينة الفاضلة ومضاداتها من المدن الجاهلة.
في كتاب الفارابي” آراء أهل المدينة الفاضلة” فصل بعنوان: “القول في احتياج الإنسان إلى الاجتماع والتعاون”، ذكر فيه إن “كل واحد من الناس مفطور على أنه يحتاج في قوامه إلى إن يبلغ أفضل كمالاته، إلى أشياء كثيرة لا يمكنه إن يقوم بها كلها هو وحده”(57)، بيد إن الإنسان لا يمكنه إن يقدر على تحصيل هذه الأشياء وأن ينال الكمال “الذي لأجله جُعلت له الفطرة الطبيعية إلا بالاجتماعات”(58).
إن الاجتماعات التي قصدها الفارابي، والقائمة عنده على الفطرة الطبيعية، تأتي على أشكال مختلفة وعديدة، وبالنظر إلى عناية الفارابي في ربط الاجتماع السياسي بالخير والسعادة، فإن الشكل المثالي الذي يتطلع إليه هو اجتماع أهل المدينة الفاضلة. التي “يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة هي المدينة الفاضلة، والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل، والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة، هي الأمة الفاضلة، وكذلك المعمورة الفاضلة، إنما تكون إذا كانت الأمة فيها تتعاون على بلوغ السعادة”(59).
إننا إذا أمعنا النظر في المدينة الفاضلة لدى الفارابي، فقد تحقق لدينا أنها تطلُ على جهتين اثنتين: جهة العالم المتعالي والعقل الفعال، وفق الأنطولوجيا الفارابية الخاصة بلوحة الفيض، وعبر الرئيس (النبي-الفيلسوف)، الذي يتلقى الفيض من العقل الفعال، وبذا يكون هو أساس هذه المدينة الفاضلة، ومحورها ونظامها ودستورها، ولكنه يبقى في الوقت نفسه على اتصال دائم بالعقل الفعال، الذي يمدّه بالسقيا الإلهية الفائضة من الملأ الأعلى، لكي يبقى عقلا مستفادا بالتمام والكمال.
ومن جهة ثانية، فإن مدينة الفارابي الفاضلة، تظل تُباطن الموجودات الإنسانية والاجتماعية، من حيث إن هذه المدينة تشكل التجسد الأنطولوجي والأخلاقي والمنطقي والسياسي لهذه الاجتماعات الإنسانية الفاضلة. بيد إن الأساس الأخلاقي لها، في هذه، الحال يكون قد بلغ ذروته، لأنه قد استقام بوجود هذه الاجتماعات الفاضلة وأحرز الكمال الذي به تتحصل السعادة في الحياة، التي يلزمها إحراز فضائل وأعمال خيرة تحصل من جهة التعاون الإنساني الذي يتمثل بالسياسة المدنية والعلم العملي الخاص بها.
يتضح إن النظام الذي تقوم عليه المدينة الفاضلة، ليس كله من عالم المثال أو اليوتوبيا، بل ينطوي على قواعد تنتمي إلى عالم الواقع. كما إن مبدأ التراتب الذي تُبنى على أساسه المدينة الفاضلة، هو المبدأ الذي تنتظم بموجبه كل الاجتماعات. ولا شك إن التراتب الذي وضعه الفارابي أقل طوباوية من صنيع أفلاطون في عصره، لأن نظرية الفارابي السياسية تتضمن بعض وشائج قربى مع نظريات الحكم في الإسلام، رغم َّ حدة نزوع الفارابي نحو واقع الفيض والسقيا الإلهية في التنظيم والتنسيق، مع الإبقاء على الدلالة الصريحة لفكرة الفطرية والعصمة بالنسبة لرئيس المدينة الفاضلة وهذا شان له دلالاته بخصوص الاتجاه العقدي الذي ينتمي له الفارابي، وليس هنا مكانه في هذا البحث.
لقد دمج الفارابي بين الأخلاق والسياسة والفيض المتيافيزيقي في وحدة نظرية وفلسفية مقصودة، إذ كان غرضه محاولة بناء الموجودات في عالم الإله وعالم الطبيعة والإنسان، على أساس بناء أسس ومبادئ نظرية للمدينة الفاضلة التي يبدو إن عليها إن تقاوم باستمرار احتمال أو إمكان تحولها إلى مدينة جاهلة(60). وقد جاءت هذه المدينة الفاضلة عنده تتويجا لمبدأ وحدة العقل أنطولوجيا وميتافيزيقيا. وهكذا يبدو إن جزءا من غرضه الفلسفي قد أنجز ببنائه نظرية الفيض ونظام الكون، وجعل فلسفته النظرية السياسية تتموضع في لب هذه النظرية الفيضية.
يتأكد إن الهدف الأبرز الذي كان يحرك الفارابي في فلسفته السياسية، شأن العديد من المفكرين المتنورين الإصلاحيين، يرتقي إلى مستوى إعادة بناء الحياة السياسية والاجتماعية وموضعتها على أسس عقلانية أكثر رشادة مما هي عليه، لأن فكرة مملكة العقل، عنده، قائمة على عقلنة التاريخ والواقع، فضلا عن عقلنة البشر والمجتمع. وهذا الأمر يبين بأن أفكاره السياسية جاءت انعكاسا دقيقا لآرائه الفلسفية: عن العالم والكون، حيث بالإمكان رؤية فلسفته السياسية وهي مدمجة بمنظومة أفكاره الفلسفية ومنغمسة فيها، من قبيل: (الفيض، الوحي، النفس، السعادة، القوة المتخيلة، المنطق). وهكذا صار كل ما هو سياسي يرتكز لديه إلى ما هو فلسفي، وربما قصد ـ معتمدا على مبادئ فلسفية تأملية عالية ـ من وراء هذا البناء التصوري الوصول إلى معادلة، مطابقة ما في الأعيان مع التصورات الفلسفية النظرية للكون والعالم والاجتماع المدني، الذي ينبغي إن يخضع للمبادئ التي يخضع لها العالم الطبيعي نفسه، على أساس إن هذه المبادئ تنطلق من التسليم بوجود الله الذي يكون على رأس الموجودات وكمالها المطلق، فهو واجب الوجود، الذي يعقل ذاته بذاته وتصدر عنه سائر الموجودات بالترتيب والنظام.
من المعقول إن يُنظر إلى مثل هذا التفكير لدى الفارابي بأنه تفكير مثالي، لأن ممكلة العقل في سياق تطور التاريخ وتحولات قواه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تبدو حلما بعيد المنال. ومن هذه الزاوية يمكن إن تقوم الانتقادات في وجه أفكاره حول المدينة الفاضلة، التي هي إلى المثال أقرب منها إلى الواقع، كما أنها تظهر كما لو أنها نتيجة من نتائج فلسفته الكونية، وتعكس آرائه الخاصة بمراتب الموجودات التي وضعها وأدرجها على الهيئة التي هي عليها في نظرية الفيض، “من ناحية العلاقة بين واجب الوجود بذاته وسائر الموجودات بناءً على الوضع السياسي والاجتماعي القائم في الواقع في ذلك الوقت”(61). ولذا فإن الفارابي تصّور إن المدينة الفاضلة يمكنها إن تحقق السعادة إذا تيسّر لها مدبر/ رئيس شبيه بالسبب الأول الذي به يكون وجود سائر الموجودات، ويمكنه إن يبلغ بأهلها السعادة بزوال الشرور(62). وعندئذ تكون مبادئ السياسة (السياسة المدنية)، عنده، نتيجة لازمة عن مقدماته في معرفة العالم ورؤيته الكونية.
تضاد المدينة الفاضلة عند الفارابي مدنا كثيرة منها: المدينة الجاهلة، المدينة الفاسقة، المدينة المتبدلة، المدينة الضالة، وغيرها من المدن الأخرى الجاهلة التي يذكرها الفارابي(63)ويتوسع في وصفها وبيان طبائع أهلها وأفعالهم. لكن كيف فهم الفارابي هذه المدن الجاهلة؟، وهل كان غرضه في عرضه للآراء التي يعتقد بها أهل هذه المدن إن يبين فساد هذه الأنواع من المدن، وبالتالي أراد إن يقدم بديلا إصلاحيا يقوم على أساس إصلاح آراء الملل الجاهلة الموجودة اليوم (زمن الفارابي) في الأمم(64)؟
كان الفارابي قد أفصح عن نزعته تلك عندما بيّن إن تقسيمه لتلك المدن الجاهلة لا يوافق تقسيما واقعيا65) والحق إن تصنيفه لهذه المدن يختلف في كتبه ورسائله، ففي كتاب “الفصول” يتحدث عن أهل الكرامة وأهل الخساسة الذين يؤثرون الحياة اليسيرة والتمتع باللذات(66). أما في كتاب (الملّة) فيذهب إلى تقسيم الرئاسة إلى رئاسة تلتمس، “إمّا الخير الضروري الذي هو الصحة والسلامة، وإما اليسار، وإما لذة، وإما كرامة وجلالة، وإما غلبة”(67).
وفي كتاب “آراء أهل المدينة الفاضلة”، نلاحظ تقسيم المدينة الجاهلة إلى مدن عدّة منها. المدينة الضرورية أو البدّالة، مدينة الخسّة، مدينة الكرامة مدينة التغلب(68). ويتحدث في كتاب “السياسة المدنية” عن الاجتماعات الضرورية، واجتماع أهل النذالة والاجتماع الخسيس، والاجتماع التغلبي، واجتماع الحرية في المدينة الجماعية(69).
هذه المدن التي ذكرها الفارابي جميعها على اختلافها في معرفة السعادة الحقة أو سبل تحصيلها، يجمعها شيء واحد بينها، وهو المعرفة الفاسدة عن السعادة الحقيقية، فهي إما أنها تعتقد إن السعادة تكون بالتمتع باللذات، أو في امتلاك الثروات والكرامات، أو في إتباع الشهوات، وهذه أفعال جميعها يُظن بها تحصيل السعادة في الحياة الدنيا فقط(70). وغني عن التفصيل إن هذه الأمور يعدّها الفارابي شرورًا وقبائح ونقائص(71).
وهكذا، فإن سكان أهل المدن الجاهلة لا يمكنهم إن يحرزوا أبدًا السعادة الحقة المتممة بالكمال العقلي، فيما هم لا يعرفون من الخيرات سوى ما يُظن في الظاهر أنها خيرات. من قبل سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات، فكل واحد من هذه الخيرات هو سعادة عند أهل المدن الجاهلة.
ومثلما يقوم التفاضل بين المدن جميعها على معيار معرفي صرف، فكذلك تتباين المدن الجاهلة في ما بينها بتباين مفهومها عن السعادة، لأن مناط الأمر عند الفارابي يتعلق بمعياري المعرفة ونقص المعرفة، وهذا الأخير هو ما يكتنف أهل هذه المدن وتعكسه أفعالهم، فمن شأنه إن يجعل كل آرائها تقوم على آراء قديمة فاسدة، “كالذي يراه البعض من إن الكون الطبيعي فيه موجودات متضاربة تتغلب على غير نظام”(72). وهؤلاء القوم من أهل هذه المدن يرون إن المدن دائما “متغالبه متبارجة”، وأن الأشد قهرًا لغيره هو الأسعد”(73).
لا يخفي الفارابي تفضيله المدن الضرورية والجماعية من بين تلك المدن، “إذ إن إنشاء المدن الفاضلة ورئاسة الأفضل يكون من المدن الضرورية ومن المدن الجماعية أمكن وأسهل”(74)، علما بأنه يصفها بأنها هي، “التي كل واحد من أهلها مُطلق مخلى لنفسه، يعمل ما يشاء”(75). وأنها تحوز على “رئاسة جاهلة، وسياسة جاهلة، ومهنة جاهلة بل لا تسمى ملكا “(76).
واذا كانت الأمة المنقادة إلى خيرات الدنيا غير فاضلة، وأمة جاهلة، وأن الإنسان الذي هو جزء من هذه الأمة إنسان جاهل(77)، فإن رياستها رياسة جاهلة، وبالتالي فإنها لا تحتاج في شيء من أحوالها وأعمالها وتدابيرها إلى الفلسفة، لا النظرية ولا العملية، على غرار الرياسة الفاضلة، بل يمكن إن يصير كل واحد منها “إلى غرضه في المدينة والأمة التي تحت رياسته بالقوة التجريبية التي تحصل له بمزاولة جنس الأفعال التي ينال بها مقصودة، ويصل بها إلى غرضة من الخيرات”(78).
هكذا، يبدو إن جميع أفعال أي رئيس من رؤساء المدينة الجاهلة صنف من أصناف السياسات الجاهلة، إذ كان كل واحد منهم إنما تصدر أفعاله عن أري نفسه وظنونه الخاصة، لا عن علم وخبرة واحتراف، فلذلك صار الموجود في هذه المدن إنما هو سياسات ممتزجة من هذه السياسات الجاهلة أو أكثرها.
يبين الفارابي بعد ما أسماه “الأصول الفاسدة” التي منها تفرعت أصناف الآراء، وأشكال الاجتماعات الإنسانية والمدن والرئاسات الجاهلة والضالة، أنه يلزمه ذكر المثالات من المدن الجاهلة الموجودة اليوم (في عصره) في الأمم، وجميعها تضاد المدن الفاضلة. وقد يكون قصد الفارابي هي الفصول الأخيرة من كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة”، وما يهمنا هو تفصيله المذهل لطبيعة العلاقات والروابط التي تسود في الاجتماعات التي على صورة المدن الجاهلة، تلك التي يعتقد أفرادها ورؤساؤها باعتقادات فاسدة، منها خداع الناس والحصول على ولائهم بشتى الطرق والوسائل التي لا توصل إلى تحصيل السعادة الحقيقية كما فسّرها الفارابي.
يمكن القول من هنا، إن فلسفة المدن الجاهلة فلسفة نقدية وبنائية في إن معا، نقدية لأنها تنزع إلى تقديم نقد اجتماعي سجله الفارابي من خلال هذه الفصول، وهو ينطبق كما يبدو على الفِرَق والطوائف المختلفة، وأشكال الولاءات التي عرفها المجتمع الإسلامي في عصر. أما أنها بنائية فلأنه قدم أنموذج المدينة الفاضلة لتكون بمثابة البديل عن المدن الجاهلة، وأرادها إن تشكل المعادل الموضوعي للسعادة الحقيقية، التي ربما كانت تنشدها القوى الاجتماعية الصاعدة في تلك الظروف، كما وينشدها المفكرون الذين يعيشون في كنف المدن “الجاهلة” التي يعج بها العصر آنذاك ويأملون في تغيير الواقع.
يتأكد إن الفارابي قدّم في فلسفته السياسية نقدا للقيم الأخلاقية والسياسية السائدة في عصره، وكذلك الآراء والمذاهب المنحطة، على أساس بناء آراء جديدة تستمد قيمتها من العلم والفلسفة، وبخاصة فلسفة واجب الوجود، وفلسفة أفلاطون وأرسطو(79).
الاستنتاجات
- أولًا: يُلاحظ إن الفارابي قد أحكم الرباط وثيقا بين السياسة والأخلاق، حتى كأنه لم يذهب إلى التمييز في البحث في أحد العلمين عن البحث في العلم الآخر، فهو لم يتصور كما يبدو إحراز سياسة مدنية كاملة من دون توفر الكمال الأخلاقي وإحرازه بصورة مثالية عند أبناء المدينة بمعونة القوانين والتربية.
- ومن هنا يتأكد إن ربط الفارابي بين نظريته السياسة وآرائه الخلقية، إنما غايته التأكيد على إن التعليم والتأديب لا يتحققان على التمام إلاّ على يد معلم مؤدب، يتمثل برئيس المدينة الفاضلة.
- ثانيا: بقي الفارابي فيلسوفا نظريا في أفكاره السياسية، وبدا منفصلا عن الواقع العملي لممارسة السياسة، فقد اعتقد بأن من أحرز عقلا مُستفادا يمكنه من الاتصال بالعقل الفعال حصلت له الكفايات اللازمة، لا لقيادة المدينة وحسب، بل وتعليم أهلها وإرشادهم وسوقهم إلى الطريق التي تؤمن لهم السعادة القصوى.
- ثالثا: الاجتماع الإنساني ضروري، ولكنه وسيلة لغاية أسمى تجد مصداقها في بلوغ الكمال وتحصيل السعادة في الدنيا والآخرة، ولذلك كانت، عنده، القيمة العليا التي يسعى لتحقيقها المجتمع الفاضل، بل إن المجتمع السياسي نشأ أصلا باحثا عن السعادة القصوى، التي هي ليست أي شيء آخر سوى الخير على الإطلاق.
- رابعا: تأثر الفارابي في أفكاره السياسية والاجتماعية بكل من أفلاطون وأرسطو، لكنه لم ينقلهما نقلا. ويبدو إن نظريته في السعادة مستمدة في أصولها من آراء أرسطو فيها، كما إن موضوع علم السياسة (العلم المدني)، متأثر بالأفكار التي قالها أرسطو بهذا الخصوص، لا سيما تأكيده بأن علم السياسة يجب عليه إن يدرس المدينة المثلى. وغني عن البيان القول بأن نظرية الاتصال بالعقل الفعال متأثرة بالأفلاطونية المحدثة ونظرية الفيض.
من الممكن الاستنتاج أيضا بأنه قد توفرت لدى الفارابي غاية فلسفية قصوى في تناوله القضايا الميتافيزيقية والإلهية ضمن نطاق العلم المدني، فالآراء الإلهية بالرغم من كونها واقعة أو متحصلة ضمن الفروع النظرية من الفلسفة، إلاّ إن لها علاقة مباشرة بحياة الإنسان المدنية وسعادته. بيد إن وعي الفارابي لهذا الربط لا يدفع بمقصوده نحو جعل العلم المدني وهو علم عملي في جله، أرفع مرتبة من العلم الإلهي، أو الفلسفة النظرية. بل إن كل ما في الأمر إن العلم المدني يُعنى بالمبادئ الأولية والنظريات الإلهية، لما لها علاقة بسعادة الإنسان القصوى وكماله، فهذان لا يتوقفان فقط على أفعاله، وإنما على آرائه أيضا.
الهوامش:
- الفارابي، كتاب الملّة، ص13.
- بنعدبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، ط4، ص18.
- الفاخوري، حنّا، خليل الجر، تاريخ الفكر الفلسفي عند العرب، ص508.
- المرجع السابق نفسه، ص501.
- الفارابي، السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات، ط2، ص11-13
- المرجع السابق نفسه، ص16.
- طرابيشي، معجم الفلاسفة، ط1، ص417.
- الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص153.
- الفارابي، كتاب الملة، مرجع سابق، ص45.
- الجابري، تكوين العقل العربي، ط5، ص241.
- الفارابي، كتاب الملة، مرجع سابق، ص45.
- المرجع نفسه، ص47.
- المرجع نفسه، ص59.
- سعد، مع الفارابي والمدن الفاضلة، ط1، ص66.
- وافي، آراء أهل المدينة الفاضلة، مجلّة تراث الإنسانية، مجلد 2، القاهرة، ص580.
- بدوي، موسوعة الفلسفة، ج2، ط1، ص11.
- المصباحي، من المعرفة إلى العقل، ط1، ص 33.
- المصباحي، المرجع السابق، ص33.
- الفارابي، إحصاء العلوم، ط2، ص106.
- الفارابي، المرجع السابق، ص106.
- الجابري، نحن والتراث، قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، ص80.
- الجابري، المرجع السابق، ص105.
- الفارابي، إحصاء العلوم، مرجع سابق، ص44.
- المرجع السابق نفسه، ص46، 125.
- كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ط3، ص260.
- المصباحي، من المعرفة إلى العقل، مرجع سابق، ص33.
- الفاخوري، تاريخ الفكر الفلسفي عند العرب، مرجع سابق، ص489.
- الجابري، نحن والتراث، مرجع سابق، ص95.
- العراقي، ثورة العقل في الفلسفة العربية، ط5، ص87.
- الفاخوري، تاريخ الفكر الفلسفي عند العرب، مرجع سابق، ص525، أيضا، الفارابي، السياسية المدنية، مصدر سابق، ص57-58.
- الفارابي، رسالة التنبيه على سبيل السعادة، ط1، ص23.
- الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ط6، ص106.
- الفارابي، السياسية المدنية، ص72.
- الفارابي، تحصيل السعادة، بيروت، ص49.
- الفارابي، التنبيه على سبيل السعادة، مرجع سابق، ص25.
- الفارابي، إحصاء العلوم، مرجع سابق، ص124-128، أيضا: الفارابي، كتاب الملّة، ص52-53.
- الفارابي، المرجع السابق، ص124.
- المرجع السابق نفسه، ص127-128.
- المرجع نفسه، ص124، 128.
- الفارابي، تحصيل السعادة، مرجع سابق، ص61، الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، مرجع سابق، ص117.
- الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، مرجع سابق، ص95، الفارابي، السياسة المدنية، مرجع سابق، ص69.
- الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص117- 118.
- الفارابي، المرجع السابق، ص117، الفارابي، السياسة المدنية، مرجع سابق، ص69، انظر: طه السيد، الدين والإيديولوجيات في مشروع الفارابي السياسي، ص130-131.
- الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص117-118.
- طه عزمي السيد، الدين والإيديولوجيا في مشروع الفارابي السياسي، مرجع سابق.
- المصباحي، من المعرفة إلى العقل، ص7.
- الفارابي، فصولُ منتزعة، بيروت، ص46.
- الفارابي، المرجع السابق، ص46.
- بدوي، موسوعة الفلسفة، ج2، مرجع سابق، ص112.
- الجندي، دارسات في الفلسفة اليونانية والعربية، ص92.
- المرجع السابق نفسه، ص109.
- الجابري، نحن والتراث، مرجع سابق، ص95.
- الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، مرجع سابق، ص118.
- الفارابي، إحصاء العلوم، ص125.
- الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص131.
- المصدر السابق نفسه، ص117.
- المصدر نفسه، ص117.
- المصدر نفسه، ص118.
- المصدر نفسه، ص134.
- الجابري، نحن والتراث، مرجع سابق، ص95.
- الجابري، المرجع نفسه، ص131-133.
- الفارابي، كتاب الملة، مرجع سابق، ص84-86.
- بنعبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، مرجع سابق، ص62.
- الفارابي، فصول مُنتزعة، مرجع سابق، ص49.
- الفارابي، كتاب الملة، مرجع سابق، ص43.
- الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، مرجع سابق، ص131.
- الفارابي، السياسة المدنية، ص87-88.
- الفارابي، إحصاء العلوم، ص124.
- المصدر السابق نفسه، ص 124.
- ت. ج. دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ط4، ص230- 231.
- المرجع السابق نفسه، ص230-231.
- الفارابي، السياسة المدنية، مرجع سابق، ص99.
- المصدر السابق نفسه، ص99.
- الفارابي، كتاب الملّة، مصدر سابق، ص55.
- الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، مصدر سابق، ص132- 133.
- الفارابي، السياسة المدينة، مرجع سابق، ص99، الفارابي، إحصاء العلوم، مصدر سابق، ص130.
- الفارابي، كتاب الملة، مصدر سابق، ص56. الفارابي، السياسة المدنية، ص87-95.
- الفارابي، إحصاء العلوم، مرجع سابق، ص107. الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص131-136.
- المرّاوي، ابن رشد واشكالية الفلسفة السياسة في الإسلام، ص179.
- المصادر والمراجع:
- بدوي، عبد الرحمن، 1984، موسوعة الفلسفة، ج2، ط1، بيروت: المؤسسة العربية للدارسات والنشر.
- بنعبد العالي، عبد السلام، 1977، الفلسفة السياسية عند الفارابي، ط4، بيروت: دار الطليعة.
- الجابري، محمد عابد، 1982، نحن والتراث، قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، ط2، بيروت: دار الطليعة.
- الجابري، محمد عابد، 1991ـ تكوين العقل العربي، ط5، بيروت: مركز دارسات الوحدة العربية.
- الجندي، إنعام (د، ت، ن) دارسات في الفلسفة اليونانية والعربية، القاهرة: لجنة التأليف والنشر.
- دي بور، ت. ج، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة وتعليق محمد أبو ريده، 1957، ط4، القاهرة: لجنة التأليف والنشر.
- سعد، فاروق، 1402هـ-1982م، مع الفارابي والمدن الفاضلة، ط1، بيروت: دار الشروق.
- السيد، عزمي طه، 2002، الدين والأيديولوجيا في مشروع الفارابي السياسي، ط1، المفرق: دار المسار للنشر والتوزيع.
- طرابيشي، جورج، 1987، معجم الفلاسفة، ط1، بيروت: دار الطليعة.
- العراقي: عاطف، 1978، ثورة العقل في الفلسفة العربية، ط4، القاهرة: دار المعارف.
- الفاخوري، حنّا، خليل الجّر، 2002، تاريخ الفكر الفلسفي عند العرب، بيروت: مكتبة لبنان.
- الفارابي، أبو النصر محمد بن محمد بن طرخان، كتاب الملة، تحقيق محسن مهدي، 1968، بيروت: دار المشرق.
- الفارابي، أبو النصر محمد بن محمد طرخان، السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات، تحقيق فوزي متري النجار، 1993، ط2، بيروت: دار الشروق.
- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، إحصاء العلوم، تحقيق عثمان أمين، 1968، ط2، بيروت: دار الفكر العربي.
- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، تحصيل السعادة، تحقيق جعفر آل ياسين، 1981، بيروت: دار الأندلس.
- ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، آراء أهل المدينة الفاضلة، قدّم له وشرحه إبراهيم جزيني، بيروت: دار القاموس الحديث.
- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، رسالة التنبيه على سبيل السعادة، دارسة وتحقيق سحبان خليفات، 1987، ط1، عمان: الجامعة الأردنية.
- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، فصول مُنتزعة، تحقيق فوزي متري النجّار، 1971، بيروت: دار المشرق.
- كوربان، هنري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة نصير مرّوّة، حسن قبيسي، 1983، ط3، بيروت: عويدات للنشر والطباعة.
- المراوي، عزيز، 2010، ابن رشد واشكالية الفلسفة السياسية في الإسلام، ط1، بيروت: دار الطليعة.
- المصباحي، محمد، 1990، من المعرفة إلى العقل، ط1، بيروت: دار الطليعة.
- وافي، علي عبد الواحد، ب، ت، ن، آراء أهل المدينة الفاضلة، مجلة تراث الإنسانية، القاهرة: وازرة الثقافة والإرشاد القومي.
- The Political Theory of A-Farabi
- A Study in the Relation between Al-Fayd with Civil Politics
- Derar Ali Bani Yaseen ([**])
- ABSTRACT
- This study mainly discussed the political theory of Al-Farabi, especially the relation between al fayed theory to civil politics.
- The researcher traced the origins of Al farabi’s philosophy as it appears in his main books and letters. The researcher argues that Al farabi gives a great importance to political philosophy in which it constitutes an original part of all his philosophy. Also he concluded that al faraby’s political theory has a reflection on his moral political ideas to Al fayed theory and the hierarchy of the existence (Al mawjudat) from other side.
- Al Farabi did not isolate the civil science and politics from the other parts of his philosophy, mainly because he believes in the union of the human rationality.
- Finally the researcher finds that Al fayed theory has its logical, epistemological and moral indications as well as its indications on constituting the political fundamentals.
- Keywords: A Farabi, Political Philosophy, Al Fayed Theory, Civil Science.
- [*] قسم الفلسفة، الجامعة الأردنية، عمان، الأردن. تاريخ استلام البحث 5/11/2013 وتاريخ قبوله 2/2/2014.
- [**] Department of Philosophy, The University of Jordan, Amman. Received on 5/11/2013 and Accepted for Publication on 2/2/2014.