الماهية والوجود عند الفارابي
أ.حميدي بوجلطية خيرة. أستاذة مساعدة “أ” كلية العلوم الإنسانية
والإجتماعية جامعة حسيبة بن بوعلي-الشلف-hamidi_kheira@yahoo.fr
ملخص
تعتبر الماهية والوجود من أهم المقولات الفلسفية الوجودية, ونجد الفارابي من بين الفلاسفة الأوائل الذين حاولوا من خلال مقولتي الماهية والوجود المشاركة في هذا البناء الفلسفي الوجودي. لقد قمنا في هذا البحث بعرض أهم المواقف الفلسفية من مسألة الماهية والوجود, إذ وضعنا مقارنة بسيطة بين الأنطولوجية الفارابية والأنطولوجية الافلاطونية, الأرسطية والأفلاطينية, لنبين من خلالها الاختلاف الجوهري القائم بين تلك الأنطولوجيات, وما مدي أصالة الفارابي من كل ذلك. ولاحظنا أن الفارابي هو أول من صرح بالمغايرة بين الماهية والوجود, لأن أفلاطون يؤكد علي أصالة الماهية, وأرسطو يقول بالربط بين الماهية والوجود, كما أن أفلوطين يقر بأصالة الماهية. وانتقلنا بعد ذلك لتحديد نوعية العلاقة التي تجمع الماهية بالوجود عن الفارابي, ووجدنا أن لهذه العلاقة أثر علي عدة مجالات فكرية, علي الميتافيزيقا ونظرية المعرفة. ثم خصصنا المحور الأخير للحديث عن أهم النتائج المترتبة عن هذه العلاقة, مبتدئين بأهم الانتقادات التي أثرت علي فلسفة الفارابي, والتي حاولت إبراز اهم التناقضات التي وقع فيه, وهذه ما نسميها بالنتائج السلبية. وفي المقابل تكلمنا عن أهم النتائج الايجابية التي كان لها أثر كبير وعظيم علي الفلسفات الأخرى, حتى علي الفكر الفلسفي المعاصر, وماهي أهم الأفكار التي استطاع من خلالها الفارابي تغيير مجرى الفكر الفلسفي. وهكذا نكون قد بينا أن فكر الفارابي يمثل المظهر الأبرز لقضية الماهية والوجود في تاريخ تطور الفلسفة الإسلامية, إذ أنه قام بصياغة جديدة للمفاهيم أكثر استقلالية عن المفاهيم اللاهوتية السابقة. الكلمات الدالة: الماهية, الوجود, نظرية المعرفة, الميتافيزيق.
مقدمة
من أهم المواضيع الفلسفية الشائكة التي عرفها الفكر البشري بصفة عامة والفكر العربي الإسلامي بصفة خاصة, هو موضوع الماهية والوجود, وهذا الموضوع هو الأكثر قابلية لأن تلتقي فيه النظريات الفلسفية مع المعارف العلمية, وأن تتفاعل فيه هذه وتلك, بحيث يصبح التفاعل هذا مقياسا للمواقف والاتجاهات والمستويات الفكرية إننا نجد في الفلسفة دائما موقفين من مسألة الماهية والوجود, موقفا يقول بأصالة الماهية, وموقفا آخر يقول بأصالة الوجود يتمثل الموقف الأول في أن الماهية هي الأصل في النظام الكوني, وموقف أفلاطون صريح بانحيازه إلي جانب أصالة الماهية, أما الموقف الثاني فيتمثل في كون الوجود قبل الماهية, أي كونه الأصل, ففي الفلسفة القديمة اليونانية قبل أفلاطون, كان الاتجاه العام منذ طاليس نحو أصالة الوجود, فقد كان كل جهد الفلسفة منصرفا إلي البحث عن المادة الأولي للعالم, إلا أن هذه الأصالة أخذت طابعا أسطوريا لاهوتيا بحتا إلا أننا في هذا البحث نريد معرفة موقف الفارابي من مسألة الماهية والوجود إن فكر الفارابي يمثل المظهر الأبرز لقضية الماهية والوجود في تاريخ تطور الفلسفة الإسلامية, إذ أنه قام بصياغة جديدة للمفاهيم أكثر استقلالية عن المفاهيم السابقة. لهذا السبب, فإننا نتساءل إن كان الفارابي يقول بأصالة الماهية فقط, أم أنه قال بأصالة الوجود فقط, أم نظرته لموضوع الماهية والوجود أخذت طابعا جديدا؟ فما هو نوع هذه العلاقة؟
الماهية والوجود عند الفارابي:
يعتبر الفارابي حسب معلوماتنا أول فيلسوف حاول حل هذه المعضلة الفلسفية الشائكة المتمثلة في علاقة الماهية بالوجود, بشكل جدي وواضح, وعليه ماذا يعني الفارابي بالوجود؟ وماذا يعني بالماهية؟
أول ما سنقوم به هو توضيح مفهوم الوجود لننتقل إلي مفهوم الماهية عند الفارابي, وهذه النقلة أسبابها معرفية لا منهجية, وهذا ما سيتبين لدينا من خلال عملية التحليل الفلسفي.
الوجود عند الفارابي:
إن الفلسفة, حدها وماهيتها, العلم بالموجودات بما هي موجودة, والعلم عند الفارابي ينقسم إلي « تصور مطلق, كما يتصور الشمس والقمر والعقل والنفس, وإلي تصور مع تصديق, كما يتحقق كون السموات كالأكر بعضها في بعض. ويعلم أنا العالم محدث, فمن التصور ما لا يتم إلا بتصور يتقدمه كما لا يمكن تصور الجسم ما لا يتصور الطول والعرض والعمق, وليس إذا احتاج تصور إلي تصور يتقدمه يلزم ذلك في كل تصور. بل لابد من الانتهاء إلي تصور يقف ولا يتصل بتصور يتقدمه, كالوجوب والوجود والإمكان, فإن هذه لا حاجة بها إلي تصور شيء قبلها يكون مشتملا بتصورها, بل هذه معان ظاهرة صحيحة مركوزه في الذهن. ومتى رام أحد إظهار هذه المعاني بالكلام عليها, فإنما ذلك تنبيه للذهن, لا إنه يروم إظهارها بأشياء هي أشهر منها » (1). نلاحظ من خلال قول الفارابي أن الوجوب والوجود والإمكان تصورات ذهنية غير مكتسبة بالتجربة, ولا مستخلصة بالتجريد من المحسوسات, إنما هي تصورات تامة وواضحة بذاتها. فـ”الوجود” من أكثر المفاهيم التي ينتزعها الذهن من جميع الموجودات بديهية, فهو ليس بحاجة إلي تعريف « إلا من حيث أنه مدلول للفظ دون آخر, فيعرف تعريفا لفظيا يفيد فهمه من ذلك اللفظ لا تصوره في نفسه, وعلي سبيل المثال: تعريف الوجود, العالم, أو الكون, أو التحقق العيني في الخارج, أو بما به ينقسم الشيء إلى حادث أو قديم, فهذه كلها تعريفات لفظية لا تفيد الشيء المعرف» (2). إن التعريف اللفظي يخفي حقيقة الشيء المعرف, وهذا يعني أنه لا معنى لتعريف الشيء بما هو أخفى منه, وعليه إن تعريف “الوجود” غير ممكن إن حاول أحد ذلك, لأنه من أكثر المفاهيم بداهة.
في قسم المعرفة, عندما تنعكس أحد المعلومات الحضورية (أي التي تتم بلا واسطة, فهي تنكشف للعالم أو الشخص مباشرة) في الذهن, فإنها تظهر بصورة قضية بسيطة محمولها “موجود” أي القضية التي مفادها وجود الموضوع فقط في الخارج مثل:”الإنسان الموجود”. ولو لم يكن لدى الذهن مفهوم واضح عن “الوجود” لما تمكن من القيام بمثل هذا النشاط.
الماهية عند الفارابي: يتحدث الفارابي في معظم كتبه الفلسفية عن لفظة “الماهية” إذ أن كل “ما يجاب به في “ما” يسمونه بلفظة ما أو الماهية” (3) فكل سؤال عن ما هو الشيء تكون الإجابة عنه بماهية الشيء وتنسب لفظة الماهية إلي ما, والأصل المائية, قلبت الهمزة هاء لئلا يشتبه بالمصدر المأخوذ من لفظ ما, ونعني بماهية الشيء, ما به الشيء هو هو, وما دامت ماهية الشيء هي هي, فهي لا موجودة ولا معدومة, ولا كلية ولا جزئية(4).
وعليه فإن ماهية الشيء, ما به يكون الشيء هو هو لا غيره, إذ أننا عندما نلتفت إلي ماهية الشيء مع قطع النظر عن أية حيثية, فسوف نجد مفهوما فحسب, لا يتضمن معنى الوجود ولا معنى العدم, ولا يستلزم معنى كونه كليا ولا معنى كونه جزئيا. ولهذا يوصف هذا المفهوم مرة بالوجود, وأخرى بالعدم, ويتصف تارة بكونه كليا, وأخرى بكونه جزئيا, وهذه الصفات خارجة عن ذات المفهوم, لهذا السبب كانت الماهية من حيث هي هي, لا موجودة ولا معدومة, ولا كلية ولا جزئية, إذ أن الماهية تطلق غالبا علي الأمر المتعقل, مثل قولنا التعقل من الإنسان وهو الحيوان الناطق, وذلك مع قطع النظر عن الوجود الخارجي, والأمر المتعقل من حيث هو معقول في جواب ما هو يسمي ماهية, ومن حيث ثبوته في الواقع الخارجي يسمي حقيقة. (5)
إن ماهية الشيء, ما هي إلا تلك الخصائص الثابتة التي يدركها العقل, والتي تبقي علي حالها دون أن يطرأ عليها أي تغيير فقد يكون ما الشيء أو ماهية الشيء تدل علي « أن المطلوب من الشيء تصور ذات الشيء فقط, لا معرفة وجوده ولا معرفة شيء آخر سوى ذاته, لا مقداره ولا زمانه ولا مكانه. وذلك مثل قولنا ما وما هو. فإن متى قلنا ما الشيء أو ما هو الشيء, فإنما نطلب بهذا الحرف تصور ذات الشيء لا غير… ومسألتنا ما هو الشيء إذا طلب منها معرفة ذات الشيء, فإنما يصلح أن يكون بعد المعرفة بوجود الشيء والدليل علي ذلك أنا لو قولنا فيما لا نراه ولا نعلم وجوده ما ذاك الشيء, وما هو الشيء لكان القول باطلا. وقد يطلب به فهم معني الاسم, وذلك قد لا يمتنع أن يكون قبل المعرفة بوجود الشيء »(6)
إن ذات الشيء تقال علي ماهية الشيء وأجزاء ماهيته, وبشكل عام لكل ما أمكن أن يجاب به في جواب “ما هو ذلك الشيء, ويكون الجواب بذكر الخصائص الذاتية التي تميزه عن غيره من الأشياء, وهي دائما ثابتة فيه إن زمن ومكان وجود الشيء لا يعبر عن حقيقة وذات الشيء, بل هي عناصر عرضية غير جوهرية في الشيء بمعنى أنها لا تعبر عن ماهية الشيء ومن المستحسن أن يكون البحث عن ماهية الشيء بعد معرفة وجود الشيء فالبحث عن ما هو الشيء يكون عن ذلك الشيء الذي نراه, أي ما كانت ماهيته منحازة خارج النفس وتصورت في النفس. وإذا أردنا البحث عن ماهية الشيء الذي لا نراه, مثل الخلاء, فماهية الخلاء تكون أسما شارحا للفظ الخلاء, فالطلب هو فهم معنى الاسم فقط, لأن ماهيته متصورة في النفس فقط وغير متصورة خارج النفس, ونستطيع القول إن الخلاء موجود بالقوة لا بالفعل, أي أنه مجرد ماهية ما غير متحققة في الوجود الخارجي.
هناك أمر يستعمل في إفادة ما يتعرف بمسألة ما هو الشيء, وهو يتمثل في أحد الأمرين « إما أمر عليه بلفظ مفرد, أو أمر يدل عليه بلفظ مركب. مثال ذلك قول القائل ما هذا الشيء- فلننزل أن المسؤول عنه كانت نخلة – فإن المجيب متى قال هذا الشيء هو نخلة فقد استعمل في إفادته أمر يدل عليه باسم مفرد, ومتى قال هذه شجرة تثمر الرطب, فقد استعمل في الجواب أمرا يدل عليه بقول مركب وبأي هذين أجاب المجيب به فقد وفي السائل مطلوبة … فالأمر الذي ينبغي أن يستعمل في جواب ما هو الشيء إذا كان يدل عليه بلفظ مركب, فإنه يسمي ماهية الشيء ويسمي أيضا القول الدال علي ما هو الشيء, أو علي جوهر الشيء أو علي إنية الشيء ويسمي قول جوهر الشيء أيضا» (7)
عندما نريد معرفة ما هو الشيء, فإننا نعبر عنه إما بلفظ مفرد, وإما بلفظ مركب, مثل قولنا ما هو هذا المشار إليه, وكان هذا المشار إليه هو نخلة, فتكون الإجابة عن السؤال المطروح إما أن هذا الشيء هو نخلة, وقد عبر عنه باسم مفرد, وإما أن هذا الشيء هو شجرة مثمرة, وقد عبر عنه باسم مركب, وهذا ما يسمي بالماهية, أوعلي أنه دال علي جوهر الشيء أوعلي أنه دال علي إنية الشيء إن معنى جوهر الشيء هو ذات الشيء وماهيته وجزء ماهيته, فالذي هو ذات في نفسه وليس هو ذات الشيء أصلا, هو جوهر علي الإطلاق, لذلك قال الفارابي إن ما يسمى بالماهية قد يسمى أيضا بجوهر الشيء. وما يسمى بالماهية قد يدل أيضا علي” إنية الشيء لأن هذا اللفظ يدل الثبات والدوام والكمال والوثاقة في الوجود وفي العلم بالشيء وهذا هو بعينه ماهية الشيء وعليه نكون قد أشرنا إلي بعض المصطلحات والمعاني الفلسفية التي تقرب الذهن إلي إدراك مفهوم الماهية عند الفارابي, فهي تلك الخصائص الجوهرية الثابتة التي تعبر عن ذات الشيء لتجعله متميزا عن غيره.
علاقة الماهية بالوجود عند الفارابي:
من أهم المعاني التي يقال عليها “الوجود” هي ما هو منحاز بماهية ما خارج النفس تصورت أولم تتصور. وقد يكون المنحاز بماهية ما على الإطلاق, بمعنى قد يكون الشيء منحاز بماهية متصورة فقط ولا تكون هي بعينها خارج النفس, أي أن هذه الماهية تكون متخيلة, مثل قولنا “الخلاء”, فإن الخلاء له ماهية ما متصورة أو متخيلة وليست خارج النفس وعليه قد يكون الشيء منحاز بماهية ما دون أن تتحقق في الواقع العيني, فالوجود ليس من مستلزمات طبيعة “الخلاء”, وإنما هو شيء عارض له قد يتحقق وقد لا يتحقق إذ يجوز أن تحصل ماهية الشيء في العقل فقط, مثل قولنا أن ماهية المثلث أنه شكل يحيط به ثلاثة أضلاع, ويجوز أن تحصل في نفوسنا هذه الماهية ولا يكون للمثلث وجود ولو كان الوجود مقوم من مقومات الماهية لما تصور فهم المثلث. (8)
وعليه أصبح الوجود يطرأ علي الماهية, وليس مقوم من مقوماتها الذاتية, وهذا ما يثبته لنا الفارابي من خلال كتابه “التعليقات” قائلا: « الوجود من لوازم الماهيات لا من مقوماتها» 9))
ويقصد الفارابي من هذا الكلام أن الوجود ليس من مستلزمات الماهية, ولا هو مقوم من مقوماته, وليست الماهية متضمنة في معني الوجود, ولا هذا متضمنا في معنى الماهية, وهذا الكلام ينطبق علي الموجودات فقط. لكن هناك حالة خاصة تكون فيها الماهية متضمنة في معنى الوجود, والوجود متضمن في معنى الماهية, وهذا ينطبق علي الخالق أي الله عز وجل, « لكن الحكم في الأول الذي لا ماهية له غير الإنية يشبه أن يكون الوجود حقيقة, إذا كان علي صفة وتلك الصفة ماهية الوجود»10)) أي لا تمييز بين الماهية والوجود في الأول عند الفارابي, لأنهما يعبران عن الشيء نفسه.
إن الماهية قد تكون منقسمة, وقد تكون غير منقسمة, أما ما كانت ماهيته منقسمة فإن “الموجود” و”الوجود” يختلفان فيه, فيكون ” الموجود” هو بالجملة وجملته ما دل عليه أسمه
هي ذات الماهية, والوجود هو ماهية ذلك الشيء الملخصة, أي ما دل عليه حده, أو جزء جزء من أجزاء الجملة, إما جنسه أو فصله, « والموصوف بجنس جنس من الأجناس العالية فوجوده هو جنسه, وأيضا هو داخل في معنى الوجود الذي هو الماهية أو جزء ماهية, فإن جنسه هو جزء ماهيته وهو ماهية ما به, وإنما يكون ذلك في ما ماهيته منقسمة » (11)
لقد ميز الفارابي بين “الموجود” و”الوجود” وهذا ما كانت ماهيته منقسمة, ونستطيع القول إن هذا التمييز له مغزي ميتافيزيقي محض, لأن الموجودات التي لها ماهية منقسمة لا يمكننا وصفها بالوجود, لأنها توجد في الواقع العيني بمعنى موجودة, والوجود شيء آخر. وهذا ما سيثبته الفارابي في هذه الفقرة والتي من خلالها تقوم كل فلسفته, « وكل ما كانت ماهيته غير منقسمة فهو إما أن يكون موجودا لا يوجد, وإما أن يكون معني وجوده وأنه موجود شيئا واحدا, ويكون أنه وجود وأنه موجود معنا واحد بعينه. فالموجود المقول علي جنس جنس من الأجناس العالية فإن الوجود والموجود فيها معنى واحد بعينه. وكذلك ما ليس في موضوع ولا موضوع لشيء أصلا فإنه أبدا بسيط الماهية, فإن وجوده وإنه موجود شيء واحد بعينه » (12) ويقصد الفارابي بالموجود الذي ماهيته غير منقسمة وأن يكون معنى وجوده وأنه موجود شيئا واحدا هو الله عز وجل, فهولا ينقسم في ذاته بالقول, أي أنه لا ينقسم إلي أشياء بها تجوهره. وإذا افترضنا أن ماهيته منقسمة, بمعني تتكون من أجزاء هي حده أو فصله, أو جنسه أو مادته, أو صورته, فإن الأجزاء التي بها تجوهره هي أسباب وجوده, علي جهة ما تكون المعاني التي تدل عليها أجزاء الحد أسبابا لوجود الشيء المحدود. وإذا كان لا ينقسم هذا الانقسام فهو واحد من كل الجهات, من جهة ما هو موجود الوجود الذي يخصه. إن الخالق عز وجل وجوده ضروريا وأكيد, لأنه خالق هذا الكون بما فيه من موجودات, أزلي أبدي وبسيط الماهية, أي ما كانت ماهيته غير منقسمة, بمعني غير مركبة من أجزاء وإلا كان وجوده مركبا وهو بسيط وغير منقسم. وهذه هي أهم الأسباب التي تجعل من “الموجود الأول” أي الله, أن يكون معنى وجوده وأنه موجودا شيئا واحد, وفي الوقت نفسه ما كانت ماهيته غير منقسمة, وأن وحدته عين ذاته, فلذلك يكون انحيازه عما سواه توحده في ذاته.
وهكذا نكون قد توصلنا إلي أهم مبدأ أنطولوجي أعتمد عليه الفارابي في بناء فلسفته الوجودية, وهذا المبدأ قائم علي فكرة التمييز بين الماهية والوجود في الأشياء, أي كل ما كانت هويته غير ماهيته وكانت هويته من غيره, وهذا التمييز لا يعني الفصل بينهم, بل هناك علاقة ربط بين الماهية والوجود خصوصا إذا كان “الموجود” منحاز بماهية ما خارج النفس وتصورت في النفس وهذا التمييز أساسه ميتافيزيقي ليجعل من الله أو “الموجود الأول” العلة الأولى التي ليست في موضوع ولا موضوع لشيء أصل, والتى تمنح الوجود للذات. فالماهية والوجود هما شيء واحد في الله لا يختلف مدلول أحدهما فيه عن الآخر, أي هو وحده ماهيته عين وجوده ووجوده عين ماهيته. ومن هنا نلاحظ الاختلاف الجوهري القائم بين فلسفة الفارابي وفلسفة كل من أفلاطون القائمة علي فكرة أصالة الماهية المثل, وأرسطو القائمة علي الربط بين الماهية والوجود, وأفلوطين القائمة علي الربط بين الماهية والوجود فلا انفصال بينهم, لأنه كان ينادي برد الكثرة إلي الوحدة, وغايته وحدة الوجود.
إذا كانت هذه هي العلاقة التي تجمع بين الماهية والوجود عند الفارابي فما نوع هذه العلاقة؟ وما خصوصيتها؟ نستطيع تحديد نوعية هذه العلاقة انطلاقا من نوعية الرابط الذي يجمع بينهما أو الذي يفصل بينهم, وهكذا سنصل إلي النتيجة المرغوبة, وعلي هذا الأساس تكون نوعية العلاقة بين الماهية والوجود كالتالي:
نوعية العلاقة بين الماهية والوجود
علاقة ميتافيزيقية:
أشرنا سابقا إلي أن “الوجود” و”الوجوب” و”الإمكان” من التصورات البديهية القائمة في الذهن عند الفارابي, وسنقول أن معنى« الوجوب” و”الوجود” و”الإمكان” هي أمور لا يمكن البرهنة عليه, لأنها لا توصف بصدق ولا بكذب بل ينبه الغافل عنها إلي معانيه” (13) .
لقد لقب الفارابي بالمعلم الثاني لأنه كان بارعا في صناعة المنطق, يعني أنه يأتي في المرتبة الثانية بعد “المعلم الأول” أرسطو في الثقافة الإسلامية, نلاحظ من خلال ما جاء به الفارابي في كتابه “عيون المسائل” أن المشاكل الميتافيزيقية مثل: مشكلة “الوجود”و”الوجوب” و”الإمكان” وهل العالم محدث أم قديم, لها علاقة وطيدة وصريحة بالمنطق, وهكذا يصرح الفارابي أن « العلم الذي نعلم به هذه الطرق, وتوصلنا تلك الطرق إلي تصور الأشياء, وإلي التصديق, هو علم المنطق.» (14).
إن الموجودات اعتمادا علي هذه التصورات الواضحة بذاتها في الذهن هي نوعان: « أحدهما إذا اعتبر ذاته لم يجب وجوده ويسمى ممكن الوجود, والثاني إذا اعتبر ذاته وجب وجوده ويسمى واجب الوجود.» (15) يقسم الفارابي الموجودات إلي قسمين
ممكن الوجود” و”واجب الوجود” والقسمة الثنائية التي اعتمدها فيلسوفنا هي علي مستوى التصور الذهني فقط للوجوب والإمكان العقليين والغاية الأولى والأخيرة من هذه القسمة, الوصول إلى العلة الأولى, التي بنى عليها الفارابي ميتافيزيقية, وهي علة وجود كافة الموجودات وهذا ما يسميه ب”السبب الأول “.
أولا – ممكن الوجود:
من أهم الخصائص الجوهرية التي يتميز بها ممكن الوجود عن الفارابي «إذا فرضناه غير موجود, لم يلزم عنه محال, فلا غنى بوجوده عن علة. وإذا وجد صار واجب الوجود بغيره. فيلزم من هذا أنه كان مما لم يزل ممكن الوجود بذاته, واجب الوجود بغيره….والأشياء الممكنة لا يجوز أن تمر بلا نهاية في كونها علة ومعلولا… بل لا بد من انتهائها إلي شيء, هو الموجود الأول» (16) علي غرار ثنائية الوجود القائمة علي الوجوب والإمكان فحتى الممكن في ذاته يحمل في طياته ثنائية واضحة, ممكن الوجود بذاته, واجب الوجود بغيره. ومن أهم المعاني التي تحمل على الموجودات الممكنة هو مفهوم “القوة” و”الفعل”, إن الموجود بالقوة هو الإمكان الصرف (ممكن الوجود بذاته), والموجود بالفعل هو انتقال الموجود من حالة الإمكان الصرف إلي حالة الوقوع أو الوجوب (واجب الوجود بغيره).
ممكن الوجود في حيز الإمكان الصرف:
الموجود بالقوة بالنسبة إلي الفارابي ماله ماهية ما, دون أن يشترط الوجود, لأن ممكن الوجود في حيز الإمكان غير متحقق في الواقع, بل هو من عمل العقل والذهن, وهنا نلاحظ الفصل القائم بين الماهية والوجود عند الفارابي, لا الربط الذي ينادي به أرسطو.
ممكن الوجود في حيز الإمكان الصرف عام, لأنه ماهية محضة, قابل للتصور والتشكل
وجود هذا الممكن ذهني فقط, لهذا السبب لا نستطيع إدراكه بالحواس, بل لا يمكننا إدراكه إلا بالتأمل والتفكير. إن الحواس لا تدرك إلا صاحب التحديد والتشكل, وممكن الوجود في حيز الإمكان الصرف لم يتحدد ويتشكل بعد, لهذا السبب أيضا لا نستطيع إدراكه بالحواس وممكن الوجود في حيز الإمكان الصرف يأخذ أسم “الماهية”, وهنا يساوي “المثال” عند أفلاطون. (17) أي أن ممكن الوجود في حيز الإمكان الصرف لا وجود له في الخارج, بل هو ماهية فقط.
ممكن الوجود في حالة الوقوع أ و الوجوب:
انتقال الممكن من حال الإمكان الصرف إلي حال الوقوع بالفعل, أوحال الوجوب بالغير, أو التشخص أو الانتقال إلي الهوية وهنا يتغير المفهوم بفضل حركة الانتقال من القوة إلي الفعل, فيصبح ممكن الوجود خاصا, جزئيا, فردا أو مشخصا, بعدما كان ممكن الوجود بالقوة, إذ كانت فيه الماهية منفصلة عن الوجود. وفي هذه الحالة نستطيع القول إن ممكن الوجود, وهو في حالة الوقوع, يساوي ظل “المثال” عند أفلاطون.
بعدما كان ممكن الوجود وجوده في الذهن فقط, أصبح ووجوده الآن خارج الذهن والتصور العقلي, وبعدما كان بالعقل فقط, أصبح إدراكه الآن بالحس لأنه متعي.
إن ممكن الوجود سواء أكان موجود بالقوة أو بالفعل, فهولا يتمتع بضرورة الوجود, بل هذه الضرورة تصل إليه من قبل موجود آخر, وهو” واجب الوجود ” وهذا الموجود بالنسبة إلي الفارابي هو الخالق, والخلق تبعا لذلك إنما هو إعارة هذا الوجود. أصبح ممكن الوجود وجوبة من غيره, بعد أن كان من ذاته عند أرسطو, وأضيف الوجود إلي الماهية بفعل واجب الوجود. فبعدما كان الإله عند أرسطو لم يوجد الوجود فهو علة غائية فقط, أصبح علة فاعلة عند الفارابي, لأن الله هو خالق الكون.
في حالة الوقوع أو الفعل يرتبط مفهوم الوجود بالماهية, بعدما كانت الماهية في حالة الإمكان الصرف منفصلة عن الوجود. ومن هنا نلاحظ الاختلاف الأنطولوجي القائم بين كل من أفلاطون, وأرسطو, وأفلوطين, وأنطولوجية الفارابي. أفلاطون لا يعترف إلا بالماهيات في ذاتها (المثل), أرسطو يرفض القول بالماهيات فقط, بل يجب أن يكون هناك ربط بين الماهية والوجود, وأفلوطين هو الآخر يربط بين الماهية (العلم العقلي) والوجود عن طريق التأمل والنظر.
يعتبر ممكن الوجود جوهرا في حال الإمكان الصرف, وحال الوقوع والوجوب. لقد كان ممكن الوجود بذاته مجرد مفهوم كلي, أو ماهية ما, وهذا ما يسميه الفارابي بـ”الجواهر الثواني”, أما إذا وقع ممكن الوجود, أصبح واجب بغيره, وصار بعد وقوعه ضمن جوهرتيه خاصا, أو جزئيا, أو هوية, وهذا ما يسميه الفارابي بـ”الجواهر الأولي” « إن الجواهر الأولى التي هي الأشخاص غير محتاجه في وجودها (الخارجي) إلي شيء سواها. وأما الجواهر الثواني, كالأنواع والأجناس, فهي في وجودها (الخارجي) محتاجة إلي الأشخاص. فالأشخاص إذن أقدم في الجوهرية, وأحق بهذا الاسم من الكليات. وجهة أخرى من جهات النظر, إن كليات الجواهر لما كانت ثابتة قائمة باقية, والأشخاص ذاهبة ومضمحلة, فالكليات إذن أحق باسم الجوهرية من الأشخاص.» (18).
إذا كانت ” الجواهر الأولى”, بالنسبة إلي الفارابي غير محتاجة في وجودها إلي شيء آخر, فهي لهذا السبب أقدم في الجوهرية من “الجواهر الثواني”. وإذا كانت “الجواهر الثواني” مفاهيم كلية ثابتة غير متغيرة, مثل: الإنسان, الحيوان, وكانت “الجواهر الأولي” مآلها الزوال, فإن “الجواهر الثواني” أحق باسم الجوهرية من “الجواهر الأولى”. إن الحديث عن ” الجواهر الأولى “و” الجواهر الثواني ” هو الحديث عن “الوجود والماهية” عند الفارابي, وهذا في فلسفته المنطقية مادامت هذه المفاهيم لم تربط بعد بخالق الكون الذي يضفي الصبغة الميتافيزيقية علي الموضوع.
تحول ثنائية الممكن (الموجودة في الذهن فقط) إلي وحدة في الخارج. سئل الفارابي عن الأشياء العامة (الماهية), كيف يكون وجودها في الخارج؟ فكانت إجابته كالتالي: « ما كان وجوده بالفعل بوجود شيء آخر, فوجوده علي القصد الثاني, فوجوده بالعرض. ووجود الأشياء العامة, أعني الكليات, إنما يكون بوجود الأشخاص, فوجودها إذن بالعرض. ولست أعني بقولي هذا أن الكليات هي أعراض, فيلزم أن تكون كليات الجواهر أعراضا, لكي أقول: إن وجودها بالفعل علي الإطلاق إنما هو بالعرض.» (19) إن وجود “ممكن الوجود بذاته” في الخارج يكون بالعرض, لأن تحقق الكليات (الماهيات) في الخارج أوفي الأعيان لا يتم إلا بارتباطها مع الأشخاص, لذلك وجودها بالعرض. والفارابي يقصد بذلك, أن الوجود عارض علي الماهية وليس مقوم من مقوماتها. فأصبح مفهوم التشخص عند الفارابي لازما ذاتيا للوجود, وليس للماهية, وهكذا تتضح لنا أن مسألة الوجود لم تطرح علي الساحة الفكرية من دون مسابقات, بل كان الفارابي أول من مهد لهذه الفكرة لتصبح فيما يعد أساس أنطولوجي تقوم عليه العديد من الفلسفات, وخاصة منها الفلسفة الوجودية, لأنها في الحقيقة تبدأ فلسفتها من مقولة الوجود أولا ومن الماهية ثانيا, فالإنسان موجود أولا وهذا الوجود هو سابق للماهية.
ثانيا – واجب الوجود:
إن الأشياء الممكنة لا تستطيع علي سبيل الدور أن تمر بلا نهاية, بل لا بد أن تستند في وجودها إلي علة أولى وهي ” واجب الوجود “. إن معرفتنا للأول غير مكتسبة بالتجربة فهو الموجود الذي تستمد عنه الموجودات الممكنة الوجود, لكي تتحقق في الخارج, لذلك فهو كامل وهي ناقصة, لكن الفارابي لا يعتمد فحسب علي دليل ” الإمكان ” و” الوجوب ” بل هناك دليل آخر قائم علي فكرتي الماهية (الذات) والوجود (الهوية), وهذا هو الدليل الجوهري الذي نريد من خلاله إظهار العلاقة الميتافيزيقية, التي تجمع بين الماهية والوجود.
إن تحقق الممكنات في الخارج ليس من ذاتها. كما أن التحقق الفعلي « من جملة العوارض اللازمة, وليس من جملة اللواحق التي تكون بعد الماهية, إذ كل لا حق فإما أن يلحق الذات من ذاته ويلزمه, وإما أن يلحقه من غيره ومحال أن يكون الذي لا وجود له يلزمه شيء يتبعه في الوجود. فمحال أن تكون الماهية يلزمها شيء حاصل إلا بعد حصولها, ولا يجوز أن يكون الحصول يلزمه بعد الحصول, والوجود يلزمه بعد الوجود, فيكون أنه كان قبل نفسه, فلا يجوز أن يكون الوجود من اللواحق التي للماهية عن نفسها. إذا اللاحق لا يلحق الشيء عن نفسه, إلا الحاصل الذي إذا حصل عرضت له أشياء سببها هو. » (20) نلاحظ أن التحقق الفعلي للممكنات (الماهيات) في الخارج ليس من طبيعتها, لذا فهو عارض لازم للماهية, فالوجود (الهوية) لازم من لوازم الماهية, أو هو عارض لها, بل إن الوجود (الهوية) ليس داخلا في ماهية الأشياء. وعلي هذا الأساس, لا يعتبر الفارابي الوجود من لواحق الماهية, بمعنى تابعا لها, مادامت الماهية لم تحصل بعد في الوقوع العيني, وعليه لا نستطيع القول إن الذي لا وجود له في الخارج يلزمه شيء يتبعه في الوجود لكن لو قلنا إن الوجود تابعا للماهية, أو هو من جملة لواحقها, فهذا الافتراض يعني أن الوجود معلولا لها, لكن « العلة لا توجب معلولا إلا إذا وجبت, وقبل الوجود لا تكون وجبت, فلا يكون الوجود (الهوية) مما تقتضيه الماهية فيما وجوده غير ماهيته, بوجه من الوجوه فيكون, إذن المبدأ الذي عنه وجوده غير الماهية, وذلك لأن كل مقتضي, فإما من نفس الشيء, وإما من غيره. وإذا لم تكن الهوية للماهية عن نفسها, فهي لها من غيرها. فكل ما هويته غير ماهيته, وغير المقومات لماهيته فهويته من غيره… ينتهي إلي المبدأ الذي لا ماهية له مباينة للهوية.» (21)
إذا كانت الماهية هي الإمكان الصرف, أي أنها غير واجبة الوجود, والوجود مضاف إليها من الخارج, بمعني عارض عليها, فهي لا تستطيع أن تكون علة لمعلول يأتيها من الخارج. لهذا فإن الوجود من لوازم الماهية وليس مقوم من مقوماتها, لأن الوجود ليس من طبيعة الأشياء, وهذا ما كانت هويته غير ماهيته وهويته من غيره. أما ما كان الوجود من طبيعته, فهولا يكون « وجوده غير ماهيته, لأن الماهية غير الآنية, والوجود الذي الآنية عبارة عنه عارض للماهية, وكل عارض معلول, لأنه لو كان موجودا بذاته ما كان عارضا لغيره, إذ ما كان عارضا لغيره فله تعلق بغيره, وعلته إن كان غير الماهية, فلا يكون واجب الوجود الذي تتعلق به كل الموجودات, وإن كان علته الماهية فالماهية قبل الوجود لا تكون علة, لأن السبب ما له وجود تام, فقبل الوجود لا يكون له وجود, فثبت أن واجب الوجود آنيته ماهيته.» (22)
إذن نتبين من كل ما قلناه أن الموجودات الممكنة (العالم) هويتها غير ماهيتها, وواجب الوجود (الله) الذي من طبيعته الوجود, هويته غير مباينة لماهيته. وهذه هي العلاقة الميتافيزيقية التي صرح بها الفارابي, ليميز بين الموجودات وواجدها. هناك ملاحظة مهمة أشار إليها الدكتور محمد البهي وهي: « أنه في الحديث عن الماهيات وتحققها في الخارج, وهل ذلك يحصل لها من نفسها أم بفعل فاعل, اشتبكت البحوث المنطقية والميتافيزيقية بعضها ببعض. فالتعبير بالماهيات وما يتبعه من أنها كليات عامة, وأن تشخصها ضمن أفرادها…إلخ من التعبيرات المنطقية, والكلام عن العلة والفعل, وعن الحدوث والوقوع, وهل بالذات أم بالعرض, يتصل بدائرة الميتافيزيقا. » (23)
من خلال عرضنا للإمكان بنوعية, ممكن الوجود في حيز الإمكان الصرف, وممكن الوجود في حيز الوقوع الفعلي, والوجوب بذاته, نستخلص أن الفارابي قد حقق ثلاثة معان بالمغايرة بين الماهية والوجود وتتمثل هذه المعاني في:
المعنى الأول:
عدم المغايرة بين الماهية والوجود, فلا ينسب الوجود إلي الماهية ولا الماهية إلي الوجود لأن النسبة توجب المغايرة, وهذا هو ما يتحقق في واجب الوجود أو الله.
ا لمعنى الثاني:
المغايرة بين الماهية والوجود, أي أنه لا توجد علاقة بين الماهية والوجود, لأن الماهية تتضمن مفهوم الإمكان ويصدق هذا المعنى علي ممكن الوجود في حيز الإمكان الصرف (بالقوة).
المعنى الثالث:
الوجود عارض للماهية, وليس مقوم من مقوماتها, والعرض هنا بمعني حدوثه وظهوره إلي عالم العيان. (24) ويصدق هذا المهني علي ممكن الوجود في حيز الوقوع الفعلي (بالفعل).
لكي نصرح بأن علاقة الماهية بالوجود علاقة ميتافيزيقية, لا بد أن تكون علاقة الواجب بذاته بالموجودات الممكنة, علاقة خلق, أو كما يسميه الفارابي بـ”الفيض”, أي هناك علاقة الخالق بمخلوقاته. وهكذا تتحول الرؤية الفارابية من النظر المنطقي إلي النظر الميتافيزيقي, بعدما فرض الفارابي ” الإمكان ” و” الوجوب ” و”الوجود “, علي أنها تصورات بديهية وذهنية, أصبحت الآن هذه التصورات متحققة في العالم الميتافيزيقي عن طريق ” الفيض “. ولنظرية الفيض عند الفارابي مبادئ أساسية تتمثل في:
:أنه فعل ضروري ناشئ عن الأول, ليس بالقصد والاختيار, بل بالإيجاب.
:لا يفيض عن الواحد إلا واحد, وهذا الأخير يحمل الكثرة في ذاته.
:لا يحتاج الله في فيض العالم عنه إلي شيء خارج عن ذاته, بل العالم يفيض عنه لذاته, وبذاته.
:ترتيب الموجودات من حيث درجة الأفضلية والكمال, من أعلى إلي أسفل.
لقد صاغ الفارابي نظرية الفيض صياغة جديدة, عقلانية دينية مع المحافظة علي أهم مبادئها, إذ أصبحت العلاقة بين الواحد والكثرة بالنسبة إلي الفارابي نقطة الدعامة الأولى للبناء الفلسفي بأكمله. إن الله (واجب الوجود) نشأ عنه فيض, وهذا الفيض هو العالم (الإمكان), والموجودات التي فاضت عن الله تريد العودة إلي مصدرها الأصلي, فهي في تنازل مستمر من حيث درجة الكمال, فكل موجود أقل مما فوقه, وأفضل مما تحته, وهكذا يستمر الكمال في التناقض حتى يتلاشى في نهاية المطاف عندما يصل الفيض عند المادة.
يعزز الفارابي العلم الإلهي من خلال نظرية الفيض معتمدا في ذلك علي أهم مبادئ هذه النظرية وهو مبدأ التعقل والعلم « فالأول يعقل ذاته, وإن كانت ذاته بوجه ما هي الموجودات كلها. فإنه إذا عقل ذاته, فقد عقل بوجه ما الموجودات كلها, لأن سائر الموجودات, إنما اقتبس كل واحد منها الوجود عن وجوده.» 25))
أول ما أبدعه الأول, هو العقل, فهو واحد بالعدد, وكثير بالعرض, لأنه ممكن الوجود بذاته وواجب الوجود بالأول, وليست الكثرة في العقل صادرة عن الأول, بل هي لازمة له لإمكانه بذاته ووجوب حدوثه بغيره. ويحصل من العقل الأول الذي يعلم ذاته ويتعقلها عقل ثاني, ولا تكون فيه كثرة إلا بالوجه الذي ذكرناه ويحصل من العقل الأول, بما هو جوهر غير متجسم ومفارق وجود السماء الأول. وهكذا تستمر عملية الفيض للعقول المفارقة والأجسام السماوية, حتى العقل العاشر وكرة القمر. ويقصد بالعقل العاشر العقل الفعال, فهو «سبب وجود الأنفس الأرضية من وجه, وسبب وجود الأركان الأربعة بوساطة الأفلاك, ومن وجه آخر.» (26)
نستطيع من خلال عرضنا لنظرية الفيض, ولحديثنا عن الأجرام السماوية, وعن عالم الكون والفساد, التمييز بين هذين العالمين المختلفين من خلال فكرة الإمكان والوجوب وعلاقتها بالماهية والوجود.
أولا:
الأجرام السماوية واجبة الوجود للأول, أما الموجودات الأخرى فممكنه الوجود بذاتها وقد تصبح بالفعل.
الأجرام السماوية « لم تكن بالقوة أصلا, ولا في وقت من الأوقات, بل هي دائما بالفعل. » (27) لكن الموجودات الأخرى التي هي أجسام أوهي في أجسام, أي الموجودات التي دون الأجرام السماوية موجودة بالقوة دائما, وهي مستعدة للتمام والكمال, وهذا عند اتحادها بالصورة فقط.
ثانيا:
الأجرام السماوية خلقت من العدم, إذ أن الأول « يعطيها الوجود الأبدي, ويدفع عنها العدم مطلقا, لا بمعنى أنه يعطيها وجودا مجردا, بعد كونها معدومة.» (28) لم تكن قبل وجود الأجرام السماوية, موجودات أخرى قبلها, لهذا فهي مخلوقة من العدم الصرف, فالأول لم يضيف إليها الوجود بعد كونها معدومة, لأنها لم تكن موجودة بالقوة لتمر إلي حالة الفعل بالإطلاق, وهكذا فضل الأول أن يعطيها الوجود الأبدي عندما يتحدث الفارابي عن الخلق من العدم, أي الأجرام السماوية, يفضل استعمال كلمة “إبداع”. أما الموجودات الأخرى, التي تحت فلك القمر, ناقصة, لأنها خليط من وجود ولا وجود فهي ممكنة الوجود بذاتها وتنتظر الوجوب من غيرها لتقع في الوجود الخارجي.
ثالثا:
من ناحية الماهية والوجود, نلاحظ في الأجرام السماوية, أن الماهية ترتبط بالوجود دائما, أما في الموجودات الممكنة فقد يكون اتصال وقد يكون انفصال بين الماهية والوجود.