القيادة الإدارية في فكر الفارابي

د .أشرف صالح محمد سيد / كلية الآداب والعلوم الإنسانية / جامعة ابن رشد – هولندا
مقدمـة : 

ترتبط نشأة القيادة بنشأة المجتمع البشري، إذ تمتد جذورها إلى الوقت الذي بدأ فيه التفاعل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات وانصهارهم في تنظيمات اجتماعية متعددة، وقد برز هذا الاهتمام في كتابات المفكرين والفلاسفة القدامى، وفي دراسات الباحثين المحدثين، وانعكس هذا في الصور التي مورست فيها القيادة على مر العصور، لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون هناك اهتمام عالمي متزايد بالقائد الإداري الذي أصبحت ندرته من أهم المشكلات التي يواجهها الكثير من الدول وخاصة النامية، فلم يكد الإنسان يتخلى عن تمدده، ويتخلص من هاجس التبعية التي طالما تخبطت فيها المجتمعات لاسيما النامية منها، حتى برزت أهمية القيادة وتأثيرها علينا في كافة مناحي الحياة[1].

كان الإسلام هو أول من أوضح الحد الأدنى الذي تستوجبه القيادة الرشيدة حتى لا يستبد كل فرد برأيه أو أن يتصرف تبعاً لهواه[2]. فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: “لا يحِلُّ لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أَمروا عليهم أحدهم”[3]. وقال أيضاً: “إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم”[4]. 

وقد علق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذين الحديثين بقوله:” فإذا كان قد أوجب الإسلام في أقل الجماعات (ثلاثة أفراد) وأقصر الجماعات وفي سفر أن يتولى أحدهم، كان هذا تشبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك”[5]. 

وعلى صعيد الفكر، حظيت القيادة باهتمام بالغ في الفكر الإداري الإسلامي الذي يعكس تراثه مدى تفوق هذا الفكر على أحدث الدراسات المتقدمة، فيؤكد ابن خلدون (808-732 هـ) في مقدمته أن تنصيب الإمام (القائد) واجب، وقد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة ،لأن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بادروا إلى مبايعة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذلك في كل عصر بعد ذلك، ولم يترك الناس فوضى في عصر من العصور، واستمر ذلك دالاً على وجوب تنصيب الإمام القائد[6]. كما أكد الإمام الماوردي أن عقدها – أي القيادة – لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع، وإن شذ عنهم الأصم[7]. وقد عبر الإمام الشاطبي عن هذا المعنى بقوله: “إن الناس لابد لهم من قائد يقودهم في الدين …وإلا وقع الهرج…”[8].

1.حياة الفارابي 

الفارابي، أبو نصر محمد (870-950 م). وقد ِّ كني بأبي نصر مع أنه لم يتزوج ولم ينجب أولاداً. وهو فيلسوف عربي إسلامي لقب بـ “المعلم الثاني” نظراً لمكانته الكبيرة في الفلسفة ووفرة إنتاجه فيها ومتابعته لدراسات أرسطو وشرحه لنظرياته، فاعتبر أنه أكبر الفلاسفة من بعده، وأعظم شارح وموضح لأفكاره. ولما كان لقب أرسطو المعلم الأول، لذلك أُطلق على خليفته في عالم الفلسفة لقب “المعلم الثاني”[9]. اشتهر بـ “الفارابي “نسبة إلى موطنه الأول، فقد وِلِد في مدينة “وسيج” في مقاطعة “فاراب “وهي منطقة كبيرة وراء نهري سيحون وجيحون ، تقع على جانب الفرع الأكبر لنهر “سيحون “في طرف بلاد تركستان[10].  

يصعب تحديد السنة التي ولد فيها الفارابي، والراجح أنه ولد نحو سنة 259هـ الموافقة لسنتي (870-871م)، يستنتج من ذلك استنتاجاً مما ذكره المؤرخون في وفاته، فقد ذكر ابن خلكان أنه توفي سنة 339هـ( 950-951م) بعد أن عاش ثمانين عاماً [11]. ويرى معظم المؤرخين أن الفارابي تركي الأصل، مسقط رأسه كان في مناطق بلاد التركستان، وهي بلاد ينتمي معظم سكانها إلى الشعب التركي. لقد لف الغموض طفولته الأولى، أما المراحل التالية من عمره فتظهر من سيرته أنه بعد بلوغه دور التعلم عكف في مسقط رأسه على دراسة طائفة من مواد العلوم والرياضيات والآداب والفلسفة واللغات، وعلى الأخص اللغة التركية ،وهي لغته الأصلية ثم اللغة الفارسية واليونانية والعربية[12].  

خرج في سنة 310 هـ من بلده قاصداً العراق، وقد بلغ الخمسين من عمره، فأتم دراسته التي بدأها مضيفاً إليها مواد أخرى كثيرة، فدرس في “حران “الفلسفة والمنطق والطب على يد الطبيب المنطقي” يوحنا بن حيلان”، ثم درس الفلسفة والمنطق على يد “أبي بشر متى بن يونس في بغداد “وكان من أشهر الباحثين في المنطق، ومن أشهر المترجمين للكتب اليونانية، كذلك درس في بغداد العلوم اللسانية العربية على يد “ابن السراج “وأتيح له فيها أيضاً دراسة الموسيقى، ولم يعقه تقدمه في السن عن متابعة دراساته، فقد ذهب مذهب العلماء في عصره الذين كانوا يطلبون العلم باستمرار[13].  

أكثر الفارابي من سفره طلباً للعلم ونشره، وسعياً للإحاطة بشؤون الجماعات، فتنقل من العراق إلى الشام في سنة 330هـ، واتصل بالأمير سيف الدولة الحمداني الذي أكرم وفادته، وقدر له علمه، فعاش في كنفه منقطعاً إلى التعليم والتأليف، وكان خلال إقامته في الشام ينتقل بين مدنها، ثم سافر إلى مصر في سنة 338هـ، ورجع منها إلى دمشق حتى توفي سنة 339 هـ في شهر كانون الأول من سنة 950م[14]. 

كان الفارابي في حياته متقشفاً زاهداً، فلم يتزوج ولم يقتِنِ مالاً، بل اكتفى بأربعة دراهم يومياً يقبضها من سيف الدولة الحمداني، وينفقها فيما يحتاج إليه من ضروري العيش، وقد بلغ من تقشفه أنه كان يسهر الليل للمطالعة والتصنيف مستضيئاً بقنديل الحارس، لأنه لم يكن يملك قنديلاً خاصاً به، وأنه بقي على هذه الحال أمداً طويلاً .وقد آثر الفارابي العزلة والوحدة ليخلو إلى التأمل والتفكير، وكان طول مدة إقامته في دمشق يقضي معظم أوقاته في البساتين وعلى شواطئ الأنهار، فلا يكون إلا في مجتمع ماء أو مكان ما ظليل كثير الأشجار، حيث يؤلف بحوثه ويلتقي طلابه وزملاءه ومساعديه[15]. 

2.الإنتاج الفكري للفارابي 

ترك الفارابي مؤلفات كثيرة يصعب حصرها وإحصاؤها، ولم يصل منها إلا القليل، لا يزيد عددها عن الأربعين رسالة، منها اثنتان وثلاثون رسالة بالعربية، وست رسائل مترجمة إلى العبرية، وترجمت رسالتان إلى اللاتينية. ومن رسائله الفلسفية الباقية:” الواحد والواحدة”، و”الجوهر”، و”الزمان”، و”المكان”، و”الخلاء”، و”معاني العقل”، و”عيون المسائل”، و”فصوص الحكم .”ومن أهم ما وصل من مصنفاته تلك التي تمثل شروحاً وتعليقات على مؤلفات أرسطو وشروحه وتعليقاته على مباحث كتاب “الأورغانون”، كذلك وصل من مؤلفاته في شؤون السياسة والاجتماع: “آراء أهل المدينة الفاضلة”، و”السياسة المدنية”، ومن مؤلفاته في الموسيقى كتاب” صناعة علم الموسيقى”، وله في إحصاء العلوم كتاب قيم كان موضع إعجاب من قدامى الباحثين ومحدثيهم، فقد عرض كل علم عرض الخبير بحقائقه[16].  

ويعد الفارابي من أبرز شراح كتب أرسطو ومن أوائل من وضعوا الأسس للتصوير الفلسفي للسياسة[17]، فهو رائد للاتجاه السياسي الفلسفي، حيث يمثل حلقة الوصل بين الفكر الإسلامي والفلسفة اليونانية، فقد قدم فكراً سياسياً يعلي من مكانة “العقل”. ويعد الفارابي ومن بعده ابن سينا وابن رشد بمثابة الجسور الحضارية والفكرية التي تعرف من خلالها مفكرو أوربا في تلك الحقبة بالفكر اليوناني.

الجدير بالذكر؛ أن للفارابي العديد من الكتب التي شغلت معاصريه ومن بعدهم، : 

كتب الفارابي

ويهمنا في هذه الدراسة كتب “آراء أهل المدينة الفاضلة”، و”السياسة المدنية”، و”رسالة في السياسة”، والتي تعد بحق من الكتب الأساسية التي تعالج الأفكار الإدارية المختلفة والمتعلقة بفلسفة الإدارة العامة ومضامينها المرتبطة بالسياسة العامة، والحكومة، ونظرية القيادة ،والإدارة الاستراتيجية، وغيرها. 

3.مفهوم القيادة الإدارية 

يعد مفهوم القيادة من المفاهيم المراوغة الصعبة المراس بحيث يصعب تعريفه على نحو يرضى الجميع ،مع أن جميع الأفراد يعتقدون أنهم يدركون أبعاده[19]. وفي الواقع إن موضوع القيادة من الموضوعات المتداخلة التي يتقاسمها تخصصات عدة من أبرزها مجالات الدراسات الإدارية والسلوكية، ويمكن اقتفاء أثر مثل هذا التداخل ليس فقط في الإنتاج الفكري الغربي ولكن أيضاً في الإنتاج الفكري الشرقي لاسيما الإنتاج الفكري الصيني الرصين الذي تم تأليفه على مدار ألف عام مضت[20]. 

وتتعدد التعريفات التي تفسر القيادة وتوضحها بوصفها أحد أهم العناصر الإدارية، فهناك من يرى أنها: “عملية التأثير في الآخرين لتوجيه جهودهم لتحقيق أهداف الجماعة”، وهناك من يرى أنها “استعمال القوة لإحداث نوع من التأثير في الغير”[21]، ويرى البعض أن القيادة هي: “القدرة على التأثير في سلوك أفراد الجماعة والتنسيق بين جهودهم لبلوغ الغايات المنشودة”، وينظر الكثيرون إلى القيادة على أنها مرادفة للتأثير، ومن ثم فإن التأثير بالنسبة للقائد هو أكثر السمات أهمية على الإطلاق. ويذكر أن القيادة هي عملية الوصول إلى ما في داخل