نظرية الفيض عند الفارابي دراسة فلسفية

زيـنـه علي جاسم / جامعة الكوفة– كلية الفقه
حياة الفارابي:
هو محمد بن طرفان *1 ولد الفارابي سنة 250 هـ  في فارب *2وكنيته ابو نصر ولقب بالمعلم الثاني *3 واشتهر بالفارابي نسبة الى مسقط رأسه وموطن صباه فاراب التي اختلف في تحديد موضعها فرأى ابن النديم ان الفارابي من (فاريات من أرض خراسان )*4 وذهب ياقوت الحموي الى ان  فاراب “ولاية وراء نهر سجون ” في تخوم بلاد الترك واليها ينسب أبو نصر محمد بن محمد الفاربابي *5 وافقه من جاء بعده الصواب هو ما حققه ياقوت لتقصيه تحديد أوصاف البلدان *6

 

ومنهم من يقول هو ابو نصر محمد بن محمد بن نصر كصاعد الاندلسي *7 ومن هذا يتضح ان المؤرخين القدماء أجمعوا على اسمه “محمد ” الا انهم اختلفوا بعد ذلك في اسماء آبائه وأجداده وترتيبهم وان هذا الاختلاف هنا يظهر في تسميته بن خلكان مسقـِّطا من الاسم أحد المحمدين مقدما طرفان على اوزلغ بينما يسقط القفطي و البيهقي أحد الاجداد وهواوزلغ *8 أما المحدثون مثل د.مرحبا *9والاستاذ محمد لطفي ويوحنا قمير*10 فقد اختلفوا في نسبه وتربيته وكان هذا طبيعيا فجميع المراجع التي يمكن أن يستقوا منها دراستهم لم تكن متفقة أصلا أمرؤ واضح يمكن ان يصلوا منه الى نتيجة لا خلاف عليها لذلك جاءت بياناتهم غير متفقة في هذا الامر *11 وان تعليل ابن النديم الفارابي الى فاريات الخراسانية يكون في امرين :
الاول : لان الفارابي يعد رئيسا لاتجاه فلسفي اختص بالالهيات وما وراء الطبيعة ومواطن هذا الاتجاه هو بلاد فارس
والثاني : هو تشابه اسمي البلدتين (فاريات )الفارسية و(فاراب ) التركية وتمتاز في الوقع الجغرافي *12.

 

وحاز الفارابي على لقب المعلم الثاني انما جاء لشهرته بصفة خاصة لشروحه على مؤلفات أرسطو المنطقية أو غير المنطقية فإذا كان أرسطو المعلم الاول فن الفارابي لقب بالمعلم الثاني *13 وان الفارابي  بدأ سيرته الفلسفية باطلاعه على اغلب كتب أرسطو تم

 

ذلك من خلال المفسرين والمترجمين ووجوده في بغداد أتاح له فرصة الدراسة البحث في مدرسة منطقية آرسطية تشرح وتلخص أفكار ارسطو في المنطق

 

زعيمها متحر بن يونس وعندما رسخ قدمه في الفلسفة واخذ يفهم أرسطو بصورة اكثر عمقا بدأ يفضل ارسطو عن شرّاحه ومفسريه فكان يشير في شروحه الى أخطائهم في فهم آراء ارسطو وتحريفهم في فلسفته *14

 

وعاش الفارابي في الزمن العباسي وكان المؤسس الحقيقي للافلاطونية الجديدة  العربية *15 وقد خلّف لنا الفارابي تراثا ً ضخما من المؤلفات في مجالات علمية انسانية عديدة *16وحيث انه برع في الموسيقى حتى اصبح لايضاهيه احد فيها *17

 

تمتاز المرحلة الاولى ( 310-340) من حياته بالتركيز على الدراسة المنطقية والشروح على كتب أرسطو في المنطق ووضع تلخيصات وعروض لها فالفارابي في هذه المرحلة كان تلميذا لمتحر بن يوسف ومعلما ومن ثم لتلاميذه مثل يحيى بن عربي وبن سراج الذي كان يتعلم عل يديه النحو ويعلمه المنطق وأثناء هذه المرحلة ايضا رحل الفارابي الى حرّان حيث درس على يد يوحنا بن حبلان المنطق حتى انا لو طبقا الثانية التي كانت قراءتها ممنوعة *18  اذ لإن مؤلفات الفارابي المنطقية كانت متأثرة بالشروح اليونانية المتأخرة لارسطو كما في الحال الاسكندر الافروديسي وفرفوريوس وغيرها وكانت على شكل جوامع ومختصرات فهنالك المختصر الاصغر ثم المختصر الاوسط ثم المختصر الكبير وقد سار الفارابي على التقسيم المعروف عند المسلمين لاجزاء المنطق الارسطي فكانت مؤلفاته الاساسية كتاب المدخل ,المقولات ,العبارة,القياس ,البرهان,الجدل,الخطابة ,الشعر  ففي كل واحد من هذه الكتب كان للفارابي شرح وتلخيص فضلا ً عن المؤلف كدراسة فارابية *19

 

أما في المرحلة الثانية ( 320 هـ -330هـ ) حيث ان عام 320 بداية لها وان كان قريبا بان في هذا العام شهد المناظرة بين ابو سعيد السيرافي وابي بشر متي بن يونس في مجلس الفضل بن جعفر وزير الخليفة المقتدر *20 وهي مناظرة بين المنطق والنحو اي بصورة عامة بين الفلسفة والعلوم اي ان هذا الحدث جعل الفارابي يخرج عن النطاق المنطقي الضيق الى مجال أوسع للفلسفة فعالج مسألة العلاقة بين المنطق والنحو

 

أما المرحلة الثالثة (330 – وحتى وفاته ) والتي تبدأ بخروجه من بغداد وابتداءه بتاليف المدينة الفاضلة واراء أهل المدينة الفاضلة و السياسة المدنية والتنبيه على سبيل السعادة وفصول منزعة والملة وقد اعتمد الفارابي في تأليف هذه الكتب على عدة مناهج دراسية مكنته من جمع الحقائق والمعلومات والمناهج التى اعتمدها الفارابي هي المنهج التاريخي والمنهج المقارن والمنهج الاستقرائي والمنهج الاستنباطي حيث ان اهمية المنهج والبحث عنده انها تكمن في :

 

1ـ استعمال المنهج الذي يمكنه من جمع الحقائق والمعلومات عن ظاهرة معينة وتقسيم المجتمعات البشرية على وفق درجة كمالها واستقامتها .

 

2ـ تبني المنهج العلمي الذي يساعده في اجراء البحوث والدراسات التى تتسم بالامانة العلمية والمصداقية والثبات والقدرة على وصف الظاهرة *21حيث برهنت المناهج العلمية التى اعتمده الفارابي في جمع الحقائق والبياتات التي كان مهتما بعد ان فضلها عن الاهواء *22 .

 

وان اعتماد الفارابي على مناهج البحث الرصينة قد مكنه من القيام بالاعمال العلمية المتميزة التى خرجت الى حيز الوجود على شكل كتب واضافة الى اهمية المناهج البحثية التى استعملها الفارابي في اضفاء الصفة العلمية للدراسات والآبحاث التى انتجه الفارابي خلال عصره *23 وعلى هذا الاساس يمكن القول ان تميز مفهوم اسلوب الفارابي بخواص خارجية أي شكل التعبير عن الافكار وخواص داخلية لنظام النظرية على حد سواء وفي هذا المعنى اذ اعتبرنا ان الاسلوب هو الانسان فان محاولة فهم اسلوب الفارابي يكفينا ان ندرك انه يعبر عن تاريخ للتفكير بكليته دونما شك او اشتباه بمعناه الموجود في الوقت الحاضر أي ان روح وجوهر اسلوب التفكير للفارابي يشكلان الايمان بالعقل الانساني المقتدر على حل جميع القضايا الانسانية في فهمه طبيعة تفكير الانسان وان العقل الذي يسمو بفعل القوة يعنى قوة مشتركة لجميع الناس حيث يتطور عقل الانسان الفرد او العقل المستفيد حسب مقدار دوره في العقل الفعال وكذلك الحال بالنسبة الى الصفات الاخلاقية حيث لا يولد الانسان فاسدا او فاضلا لكنه يتحول الى احدهما اثناء حياته كما لا تتجزأ الفضائل الاخلاقية عن كمال القعل وهكذا ينبعث نور العقل من مؤلفات الفارابي ويح ديتربصي حفا حين ينسب الفارابي الى ابطال العالم الشجعان الذين كانوا ينضلون ضد سيطرة الانحرافات وضد درجات التسلط الذي يقترن تاريخه بالدم والذي كان ينزع نحو اخماد حرية الروح والقضاء على القوانين الانسانية الفاضلة *24 والفارابي هو شديد التدين ميالا الى الزهد والتقشف وانه كان يتزين بزي اهل التصوف وكان من طبعه اعتزال الناس والخلوة الى نفسه *25 وانه اقام دعائم مذهب فلسفي متصل الحلقات ومن اهم اجزاء هذا المذهب وعلى قمة البناء نرى نظرية صوفية امتازت بها الفلسفة الاسلامية عن كثير من الفلسفات الاخرى فالتصوف هو قطعة من مذهب الفارابي الفلسفي *26

 

اذ كان اسلوبه بالعربية دقيقا رشيقا مع انه كان فارسي الاصل ويومئذ عليه حبه للمترادفات مما يؤدي في بعض الاحيان الى التوسع في المعاني الفلسفية التى تحتاج الى التديد والتعيين وتقيد كل معنى بلفظه وكل لفظ بمعناه ويقول الفارابي ان امر الفلسفة اشتهر في ايام ملوك اليونانيين وبعد وفاة ارسطو طاليس بالاسكندرية الى اخر ايام المراة وانه لما توفى بقى التعليم بحالة فيها الى ان ملك ثلاثة عشر ملكا توالى في مدة ملكهم من معلمي الفلسفة اثنا عشر معلما احدهم المعروف باندرونيقوس كان اخر هؤلاء الملوك المراة فغلبها اوغسطوس الملك من اهل رومية وقتلها واستخوذ على الملك فلما استقر له نظر في خزائن الكتب وصفها فوجد نسخا اكتب ارسطو طاليس قد نسخت في ايامه وايام تاوفرسطس *27  تو في الفارابي سنة 339هـــــ / 950م وله من العمر ثمانون عاما ودفن بضواحي دمشق *28

 

هذة نبذة مختصرة عن حياة الفارابي

 

نظرية الفيـض

الفيض هو مذهب يقوم على القول بان الموجودات صدرت او فاضت عن الاول أي الله كما يفيض النور عن الشمس وقد فاضت هذه الموجودات عن الله على مراتب متدرجة وليس دفعة واحدة اذ ان الواحد لايصدر عنه الا واحد ثم يصدر عن هذا الواحد واحد اخر وهكذا الى اخر مراتب العقول والانفس والاجسام ويمكن القول بان من القائل بهذا المذهب قديماً الفيلسوف افلوطين وفي مجال الفلسفة الاسلامية الفارابي وابن سينا ويمكن القول ايضا بوجود تقابل بين القول بالفيض والقول بالخلق وقد ذهب افلوطين الى القول بفيض الموجودات الواحد ويبين لنا مراتب الموجودات التى توجد على التتابع ويترتب بعضها فوق بعض ونجد الفارابي ايضا القول بالفيض او الصدور وقد استفاد الفارابي استفادة كبيرة من افلوطين كما تاثربحديث ارسطو عن عقول الكواكب بالالضافة الى بعض افكار بطليموس الفلكي وذلك في صياغة لمذهبه في الصدور وفي مجال دفاع الفارابي عن القول بالفيض نجده ييبن لنا مراتب الموجودات سوء كانت موجودات روحية او كانت موجودات مادية فمن بين الموجودات الروحية واعلاها الله تعالى وعنه صدر العقل الاول للمحرك للسماء الاولى ثم صدر عن العقل الاول العقل الثاني وهكذا الى اخر العقول التى تعد مراتب روحية صرف أي لست اجساما ولاهي في اجسام انها ملائكة السماء ثم يأتي بعد هذه العقول العقل الفعال وهو حلقة الصلة بين العالم العلوي والعالم السفلى ويسميه الفارابي الروح الامين او الروح القدس*29

 

ويمكن القول ان هذه النظرية عندما ظهرت في الاسكندرية واعتبرت ان مشكلة الوجود هي اعم واشمل هذه المشكلات وحيث ان المدارس هنا مدرستان وهم

 

اولا : المدرسة المادية وهي ترى قدم الوجود وأولوية المادة وماديته وانه لايحتاج الى شئ فاعل او اله يتمثل ذلك في المدارس المادية الميكانيكية مثل ديمقريطس واخرون وكانت عاجزة عن تفسير مقبول للوعي والحياة وتكثر الاشياء كما انها لا تستجيب للضعف او الامل البشري ولجوانب سيكولوجية ومعرفية متعددة ووان احد جوانب قصورها هو مستوى العلوم الطبيعية نفسها وفساد بعض منطلقات هذه العلوم مثل تصورهم للمادة والحركة تصوراً ميكانيكيا فالمادة واحدة والحركة خارجية او هي ميكانيكية فقط

 

ثانيا : المدرسة المثالية الروحية وهي تفترض وجود الله اساسا وهذه قدمت الحلول التالية لمشكلة الوجود

(أ): مع القول بالثنائية

 

1 ـ نظرية الصنع :الله والمادة قديمان وصنع الله منها الاشياء مع القول بثنائية الجسم (المادي )والروح او النفس (اللامادية ) وأبرز من قال بها افلاطون

 

2ـ نظرية المحرك الغائي : قدم الله والعالم والله محرك غائي فقط ( لا خلق ولاصنع لاثنائية في الاحياء الارضية ولاغاية ولاخلود فردي )وأبزر ممثليها أرسطو

 

3 ـ نظرية الخلق من عدم محض بفعل اله متقدم على  الموجودات يمثلها متكلمو الاديان الثلاثة المعروفة .

 

(ب): مع الاحادية

 

1 : الله هو الاشياء او هو في الاشياء الرواقية

 

واذا نظرنا الى التسلسل التاريخي لوجدنا ان النظرية المادية سبقت بشكلها الفلسفي بقية المدارس ثم تلتها نظرية الصنع المتصلة بنظرية المثل بسبب عجز النظرية المادية في وقتها ولكن نظرية الصنع الافلاطونية واجهت نقدا على يد ارسطو ومدرستهبحيث لم تعد مقبولة عند ارسطو ووجد الاخير ان الثنانية الحادة هي الحل الوحيد لمشكلة الله والعالم اذ كيف يفعل او يؤثر اللامادي الكامل في المادي المتكثر الناقص ثم افترض ارسطو قدم العالم بمادته وصورة زمانه وحركته وان النفس صورة للجسم ولاوجود لهما على انفراد فلا خلود فردي

 

وبالتالي فالله والعالم أزليان ابديان مكتف كل بنفسه الا ان ارسطو اضطر الى افتراض ان محرك العالم الحركة الدائمة قوة غير جسمية وليست في جسم لان كل جسم محدود الجرم عنده وكل قوة في جسم بالتالي تحرك حركة متناهية واذن فمحرك العالم غير جسم محدود الجرم عنده وكل قوة في جسم بالتالى تحرك حركة متناهية واذن فمحرك العالم غير جسم ولكن لما كان الجسمي لا يحركه ما ليس جسم حركة مباشرة عند ارسطو افترض الحركة الغائية بمعنى ان العالم يعشق الله وفيه نفس وعقل وحياة فيتحرك في مكانه دوريا كما افترض العقول المقارنة الفلكية لتفسير المعاني والافكار الكلية وقد وجدت الرواقية ان أرسطو يجعل وجود الله شكليا ولأسباب اخرى ادخلت الله في العالم وقالت بالاحادية ووحدة الوجود

 نظرية الفيض في الاسكندرية ومع المسيحية

2: نظرية الفيض في الاسكندرية ومع المسيحية وقولها بالكلمة وحلها الخاص لمشكلة علاقة الله بالعالم وكحصيلة لماخذ على الحلول السابقة كلها وصلت مدرسة الاسكندرية الى نظرية الفيض وافترض اصحابها انها تحل مشكلة الثنائي  ة والكثرة والوحدة والخلود الفردي ومشكلة ظهور الانواع الجديدة في المادة ومسائل نظرية المعرفة خصوصا تفسير الكليات والمعارف العامة والضرورية ومشكلة الشر وتبرير الوضع العبودي الطبقي

 

3 : وسرعان ما واجهت النظرية اعتراضات جسيمة ومنهم اصحاب نظرية الفيض المعاصرين لها انها لم تحل المشاكل الفلسفية السابقة

 

اولآ: لم تحل مشكلة الثنائية بين الله والعالم لانها تضع ان الله غير العالم وان الاخير مادي والاول غير مادي فكيف ومن اين جاء العالم وكيف يفعل اللامادي في المادي ؟

 

ثانيا : الله واحد فكيف تكثرت الاشياء وتكثرها يؤدي الى افتراض الكثرة في الله

 

ثالثا : مشكلة الشر ، ما مصدره والله كله خير ؟

 

رابعا : مشكلة الزمن هل بين الله وبدء العالم زمان ام لا ؟

 

اذ كان لا فكلاهما حادث بالزمان او قديم بالزمان وهو قول يرفضونه وان كان بيهما زمان فان كان لا متناهياًفكيف بدا الله خلق العالم واللامنتاهي عند المتكلمين لا ينقضي ولو اجازوا ذلك لسقط كل دليل لهم لاثبات وجود الله يستند على استحالة التسلسل وان كان متناهياً كان لله بداية ايضا ولو زاد عن العالم بزمن محدود

 

خامسا : مسألة الفاعل التام واستحالة الترجيح بلا مرجح اذ كان الفاعل كاملاً لم يتاخر فعله عنه ولو تاخر فلما امكن اختيار زمن دون اخر بدأ معه العالم لان الزمان اناته متساوية والترجيح بلا مرجح عند المتكلمين وخصومهم

 

سادسا : مشكلة الصلة بين الامادي والمادي حيث لارابطة حقيقية بين معلولات طبيعية وعلة غير طبيعية كما ان الموجود المادي لايكون الا من موجود مادي وقد صيغ هذان الاعتراضان حديثا على يد (لومونوسوف)باسم مبدأ حفظ الطاقة واللاعلاقة بين المادة واللامادة وكان اساسا هو موقف ارسطو ولب فلسفته كما ان الاخير احد اعتراضات (كانت ) القاصمة لبعض ادلة وجود الله المعروفة .

 

سابعاً : مشكلة تغير العالم : الله قديم عند المتكلمين ولا يتصف بالحوداث الا الحادث وهذا يخالف قولهم ان لم يفعل في الازل ثم فعل كما يخالف هذا ان ما ينطبق على الجزء قد لا ينطبق على الكل أي اذا كانت اجزاء العالم حادثة فلا يتبع من ذلك ان العالم حادث وبالتالي يبقى اساس فلسفتهم من ان العالم حادث وله موجد بدون دليل .

 

ثامناً : وقد واجه المتكلمون نقداً كان له اثر كبير في ظهور المدرسة الفيضية من جهة والمدرسة القائلة بالخلق المتجدد في المدرسة الذرية من جهة ثانية فقد انتقد الفارابي وابن سينا نظرية المتكلمين بانه اذا كانت الحاجة لوجود الله عندكم هي احداث العالم فمن يمنع افتراض ان يبقى العالم مع زوال موجده كما يحصل  للباني والبناء الذي يبنيه واتجاه هذا ولأسباب عديدة اخرى بعضها سبق افتراض بعض ذربي المتكلمين ان الله يوجد العالم ثم يفنيه كل لحظة

 

4 : كما قدم الفيضون والفارابي كحل تقسيما للموجودات جديدا ليس الى قديم وحادث كما عند المتكلمين بل واجب وممكن وافترض ان العالم ممكن ككل لان كل جزء فيه هو كذلك فوقع في نفس خطا المتكلمين اعنى اعتبار ان ما ينطبق على الجزء ينطبق على الكل*30.

 

لقد شكلت نظرية الفيض منعطفا اساسيا في بنية الفكر العربي الاسلامي وهذا المنعطف بطبيعة المعرفية المطروحة فحسب بل يتحدد ايضا بطبيعة الاجوبة التي تمحض عنها ذلك الفكر , ان هذه النظرية وان تكن ذات أصول يونانية وفارسية قد اصبحت ملك الفكر العربي الاسلامي بما طورها ووظفها وشذبها بما ينسجم والحاضن الاجتماعي التأريخي والاهداف الايديولوجية فضلا عن الوعي الديني الذي كان حاضرا على مختلف العصور .

 

حيث ان دراسة التراث الفلسفي مهمته ضرورية وشاقة في الوقت نفسه وباختصار نرى ان يعمد الى مثل هذه الدراسة في حدود عالمية الفكر وتواصله من مهمته وخصوصيته وفقا لظروفه الخاصة من جهة ثانية ومحصلته أخذ هذه العوامل بنظر الاعتبار هو التحذير من الطرح التلقائي لاي فكر أو اي موضوع بحجة قدمه أو تجاوز العصر أو ما شابه كما نفرض تجنب التقوقع والتقديس واعتبار ما يقدمه ذلك التراث الفلسفي خاصا ونهائيا ً وكاملا بحيث لا يقبل لخصوصية مقارنته بغيره بمقاييس عالمية أو حديثة , وبالنسبة لفكر الفاراربي ونظرية الفيض الاسلامي يعني هذا أن نجد العوامل المختلفة لافراز مثل هذا الفكر في البيئة ومستوى الحضارة ومستوى العلوم الطبيعية والظروف السياسية للمجتمع الاسلامي هذا من جهة خصوصية هذا الفكر ومن جهة ثانية وبقدر ما يتصل الامر وبعالمية الفكر يقتضي الامر ملاحظة مدارس ومشاكل الفلسفة السابقة التي عملت على ظهور مثل هذا الفكر في القرن الثالث الميلادي أو تبنيه مجددا ً في بيئة اخرى وظروف اخرى مع الفاراربي وآخرين *31 ويستحيل ان نفهم سيرورة نظرية الفيض في الفكر العربي الاسلامي من دون ربطها بالوعي الميافيزيقي (العرفاني والبرهاني ) من جهة الواقع الاجتماعي التاريخي من جهة اخرى ……

 

لقد دخلت نظرية الفيض الى الثقافة العربية الاسلامية في القرن الثالث الهجري بواسطة الترجمة الناشطة من طريقين اثنين الطريق الغربي –اليوناني (مدرسة الاسكندرية والطريق الشرقي الفارسي مدرسة حران) *32 فهما اذ ينتميان الى الافلاطونية الجديدة يختلفان في طرقهما لنظرية الفيض مما يعني ان ثمة شكلين مختلفين لتلك النظرية في الافلاطونية الجديدة الجديدة شكلا غربيا أفلوطونيا ثلاثي الاقانيم وشكلا شرقيا حرانيا عشاري الاقانيم (قائما على العقول العشرة ) ولقد أثر كل من هذين الشكلين في صياغة الاشكال التي أخذتها نظرية الفيض العربية الاسلامية ,حيث ان فكرة الفيض من حيث هي تصور اسطوري لنشأة الكون تقود الى الغنوصية التي سادت في القرنين الثاني والثالث الميلاديين بخاصة غير ان الغنوصويين لم يطرحوا فكرة الفيض طرحا فلسفيا بل كانوا يعبرون عنها تعبيرا مجازيا ً اسطوريا ً وثمة من يرى ان فكرة الفيض قديمة في الفكر الشرقي أو انها فكرة شرقية متأصلة وذلك من خلال فكرة الوسائط بين الخالق والعالم *33

 

الشكل الاول

حيث ان الشكل الغربي لنظرية الفيض قد ظهر في تساعيات افلوطين التي نقلت مقتطفات منها الى العربية بعنوان كتاب الربوبية أو أثولوجيا ارسطاطاليس وظهر ايضا كتاب الخير المحض لبرقليس والكتابان منسوبان خطأ ً الى ارسطو ويمكن ان نعرض موجز بسيط لنظرية الفيض الى عالمين …..

 

عالم المعقول وهو الحقيقي وعالم المحسوس وهو الزائف أو غير الحقيقي وبما ان العالم الاول هو الحقيقي وحسي فان أفلوطين يوجه اهتمامه الفلسفي الى العالم الاول في الدرجة الاولى فيرى انه ينقسم هو الاخر الى ثلاثة معقولات أو اقانيم وهذه المعقولات هي الواحد والعقل والنفس ويشرح أفلوطين العلاقة القائمة فيما بينها من جهة وفيما بينها وبين العالم المحسوس من جهة ثانية بطرحه مثال الدوائر *34 حيث نلحظ إن الواحد هو المركز الذي تشع منه دائرة مضيئة تحيط به وحول هذه الدائرة دائرة ثانية منيرة تنبع من النور الاول وحول هاتين الدائرتين ثمة دائرة ثالثة مظلمة غير انها تستمد النور من مصدر خارج عنها وهو الدائرة الثانية ان هذا المثال يؤكد ان الواحد هو القطب الذي تتمحور حوله الدوائر والموجودات الاخرى أو هو مركز الفيض الذي تستمد منه الموجودات المعقولة والمحسوسة وجودها فالواحد اذاً يفيض فيتكون العقل الذي يفيض فتتكون النفس التي تفيض الاخرى فتتكون المادة وعند المادة يستفد الفيض امكانيته أما عند الصفات الايجابية التي يتصف بها الاله عن افلوطين فهي ” اللامتناهي في مقابل المتناهي والاول في مقابل ما بعده والواحد في مقابل الكثرة والمعقول في مقابل العقل *35 وبما ان الاله هو اللامتناهي والاول والواحد والمعقول فانه يتصف بالكمال المطلق مما يجعله غنيا عما سواه وما الفيض عند افلوطين الا النتيجة الطبيعية للدرجة القصوى التي بلغها الكمال الالهي *36وعلى الرغم من ان افلوطين يتناول في حديثه عن عالم المعقول فانه شديد الاحتراز في حديثه عن الواحد الذي يرى أفلوطين ان تحديده بالنفي هو الاكثر تحديدا له فهو لا يشتاق ولا يحتاج ولا يبحث ولا يرغب ولا يتحرك ولا يتغير   … الخ  اذ لو اتصف بواحدة من تلك الصفات لكان ناقصا أو كان وجوده مشروطا بغيره أو كان غير ذا أثر فيه وهذا ما يناقض الكمال الالهي ان العقل الذي هو الموجود الثاني يتصف ببعض الصفات التي للواحد بسبب قربه منه فهو واحد لا متناه و مضاف للمادة ايضا ويفترق العقل عن الواحد من حيث انه ذو موضوع يتفكر فيه انه عقل يعي معقولا اي يمارس فعل التعقل مما يؤدي الى انه بحاجة الى سواه اي انه ناقص بالنسبة الى الواحد ومما يؤدي ايضا ً الى ان الاحدية في العقل احدية غير مطلقة  ان احدية العقل تنطوي على ثنائية العقل والمعقول اي انلكثرة قائمة في الوحدة وهذه الكثرة تظهر ايضا في المبادئ البذرية التي تقترب من الصور أو المثل الافلاطونية فهي موجود في العقل بالقوة أو بالامكان تلك المبادئ التي سوف تنعكس كثرة كثيرة في الموجود الثالث أو النفس أو كما يقول أفلوطين ” فالعقل يملك الموجودات والنفس الكلية تتلقاها منه أولا ً في هذا الكون تكون حياتها *37 وبهذا يمكن القول ان للعقل (من ناحية الفكر ثلاث مقولات الفعل والحركة والتفسير وله من ناحية الوجود الثبات وعدم الحدوث في الزمان *38 وتأتي النفس في المرتبة الثالثة من حيث الوجود فتتصل بالعقل اتصالا مباشرا وتتشوق الى الاتصال بالواحد بواسطة الثاني ويعبر عن ذلك افلوطين بالقول ” فلنضع الخير في المركز والعقل في دائرة ثابتة والنفس في دائرة متحركة يحركها الشوق اذ ان العقل يمتلك الخير مباشرة ويفهمه اما النفس فتشتاق الى الخير الذي هو وراء الوجود *39ويقول افلوطين هنالك طبيعتان , طبيعة معقولة وطبيعة محسوسة ومن الخير للنفس ان تكون الطبيعة المعقولة ولكن من الضروري ان تشارك في الوجود المحسوس *40 وفحوى تلك المشاركة هو الفيض فيض المحسوس من المعقول وفيض النفوس الجزئية من المعقول او النفس الكلية اي انها تقوم بعدة وظائف في آن معا فهي تفيض المادة من حيث هي هيولي وتفيض أشكال المادة أو الكائنات و تفيض نفوسا جزئية لتلك الاشكال اضافة الى عنايتها بهذا الوجود المحسوس أو بهذا العالم وبذلك فان النفس الكلية تتصف من ناحية الفكر بالفعل والحركة والحياة وتتصف من ناحية الوجود بالثبات وعدم الحدوث في الزمان*41 وبوصول الفيض الالهي الى النفس يكون قد استنفذ امكانية من حيث انتاج المعقولات ليتحول الى انتاج المحسوسات التي يعد وجودها وجودا زائفا وغير حقيقي انها عدم لانها لا ارتباط لها بالمعقول وهذا ما يسوغ موقف افلوطين الاخلاقي من المادة التي اعتبرها شر محضا من منظور ان العدم هو الشر بالضرورة اي ان لافلوطين موقفين من المادة موقفا انطولوجيا يتمدد بانعدام المعقول في المحسوس وموقفا اخلاقيا يرى في المادة ابتذالا ً وزيفا وخيانة لعالم المعقول التي فاضت منه ويقول أفلوطين ان الارادة الالهية ليست عملة هذه الشرور وكل ما يأتي من الاعلى انما هو نتيجة ضرورة تجعل الاشياء في صلة بعضها ببعض تبعا لنتائج الحياة الكونية ثم ان الموجودات تضيف كثيرا ً من ذاتها الى ما يأتيها من اعلى فقد تتلقى الذات اثرا وتنفعل على نحو مختلف عما تلقته فلا تستطيع التحكم في الهبة التي نالتها *42  وبهذا يكون افوطين قد سوغ موقفه الاخلاقي من المادة اذ انها مصدر الشر والمسؤولة عنه لا الواحد ولا العقل ولا النفس انها هي التي تحول الخير الفائض اليها الى شر غير ان المحسوسات ليست محكومة بالشر على نحو مطلق فيمكن لها ان تتصل بالخير لتتصف به وذالك من خلال النفوس الجزئية  بالنفس الكلية ولا يكون ذالك الا بتخلص النفوس الجزئية من الابدان فتعود كما كانت من قبل اجة في النفس الكلية ان اجمل في المحسوسات هو ابانتها عن خير ما في المعقولات وعن قدرتها وخيريتها 43 وسبب من نظرية الفيض وان افلوطين يذهب الى القول بوحدة الوجود فكل ما في الكون مرتبط ببعضه ببعض ولا وجود لجزء معزول عن الاخر او معزول عن الكل هذا الكون كائن حي واحد يشتمل في ذاته على كل حياة وله نفس واحدة تسري في كل اجزائه اذن فهذا الكون كل متعاطف مع ذاته *44  ويقول افلوطين ايضاً ((ليس في وسع كل موجود ان يعيش وكأنه منعزل فما دام كل موجود جزءا فليس غايته في ذاته وانما في الكل والذي هو جزء منه وما دامت اجزاء الكون مختلفة فهي لا تملك دائما شروط حياتها الخاصة *45حيث يمكن القول ان الفيض بشكله الغربي فيض ثلاثي الاقانيم يبدأ بالواحد ويتنهي بالنفس الكلية التي يترتب على فيضها ابداع المادة أو العلم اللمحسوس وهو فيض سرمدي لم يبدأ في زمن ولا يتنهي في زمن ايضا أو كما يقول افلوطين ان العقل (( يملأ كل شيء جمالا ونظام بتوسط النفس فهو موجود خالد له وسيط خالد يظل موجودا ابدا ً في فعل لا ينتهي ))*46

 

الشكل الثاني للنظرية هو الشكل الشرقي للنظرية فقد ظهر عند الصابئة الذين عرض معتقدهم صاحب الملل والنحل عرضا وافيا *47

 

ومن المعروف ان الرازي الطبيب كان واحدا من المتأثرين بهم والقائلين بمقالتهم *48

 

وينقسم الوجود عند الصائبة الى وجودين اثنين:وجود روحاني واخر جسماني ويتصف الوجود الروحاني بأنه نوراني علوي لطيف ويتصف الوجود الجسماني بكونه ظلمانيا سفلياً كثيفا*49 ويكمن منطلق هذا التقسيم الروحي في المادة التي يعدها الصابئة عدماً او اصلاً للشر فكل ما دخلته المادة او بنية عليها بها هو فاسد بالضرورة او هو واقع تحت الكون والفساد وبذلك فأن شرف الروحانيات يتآتى من انعدام المادة في صورتها او كما تقول الصابئة(الروحانيات غير مركبة من المادة والصورة بل هي صور مجردة والصورة لها طبيعة وجوديه ) وإذا بحثنا عن الخير والصلاح والحكمة والعلم لم نجد لها سبباً سوى الصورة وهي منبع الخير *50 اما الجسمانيات فانها كما تقول الصابئة ،مركبة من مادة وصورة المادة لها طبيعة عدمية وإذا بحثنا عن اسباب الشر والفساد والسفه والجهل لم نجد لها سبب سوى المادة والعدم وهما منبع الشر *51 فيبدأ الفيض بالبادي او الواحد الذي يفيض فيتكون العقل اي (ان الواحد حقاً لايصدر عنه إلا الواحد *52 وهذا الواحد اوالعقل جوهر مجرد بالضرورة من المادة وهو غير متحيز والا حال في المتحيز ولا يكون وجوده منه على سبيل الاختيار بل على سبيل الايجاب بالذات كما ان فيضان النور عن قرص الشمس والضوء عن السراج والاحراق عن النار ليس بالقصر والاختيار بل الايجاب فكذلك فيضان هذا الجوهر من الله تعالى *53 ….

 

وعليه يمكن القول ان الشكل الشرقي لنظرية الفيض يذهب الى ان ثمة وجودين وجودا روحانيا وآخر جسمانية وينقسم الوجود الروحاني الى وجودين ايضا الاول منهما يتصف بأنه مجرد من المادة وغير متحيز ولامال في المتحيز وهو يضم الباري والعقل والنفس أما الثاني منهما فيصف بأنه متحيز وحال في المتحيز غير انه مجرد من المادة انه وجود صوري فحسب .

 

نظرية الفيض عند الفارابي

يصور لنا الفارابي فلسفيا وعقلانيا كيفية صدور الموجودات عن الموجود الاول في عالم الابداع بعد ان يجعل الموجود الاول السبب الاول لوجود

 

سائر الموجودات لانه بريء من جميع أنحاء النقص باعتبار وجوده افضل الوجود واقدم الوجود لذلك لا يمكن ان يشوب وجوده وجوهره عدم اصلا ولهذا كانت كافة الموجودات التي اوجدها أقل منه كمالا ولما كانت هذه الموجودات مكونة من عناصر متنوعة وجب ان تكون متفاوتة بالدرجة والكمال *54 يصف الفارابي الموجود الاول بانه دور السبب الاول لوجود سائر الموجودات كلها ومنه فاض الوجود وبه يستمر من دون ان تكون به حاجة الى ذلك الفيض أو ان يكون معلولا لغيره بل هو علة كل موجود وهو ازلي دائم الوجود بجوهره وذاته من غير ان يكون به حاجة في ان يكون ازليا الى شيء اخر يمد بقاءه بل هو بجوهره كان في بقائه ودوام وجوده *55 كما انه ليس بمادة ولا قوامه في مادة ولا في موضوع أصلا بل وجوده خلو من كل مادة ومن كل موضوع ولا ايضا له صورة *56

 

اذ ان خلوه من المادة يعني بالضرورة خلوه من الصورة فالصورة لا توحد عند الفاراربي الا في مادة هذا من جانب ومن جانب آخر فلو كان له صورة ومادة لكانت مؤتلفة منهما مما يؤدي الى ان يكون مركبا وان يكون له سبب في وجوده وهو التركيب ,تركيب الصورة و المادة وهذا محال في واجب الوجود الذي لا سبب في وجود وليس له غرض أوغاية من وجوده وبهذا فهو بريء من جميع أنحاء النقص *57 وبهذا فان واجب الوجود يتصف بانه الاول والواحد والتام والكامل والازلي من كل الوجود ولكن كيف تفيض منه سائر الموجودات ؟ …. يرى الفارابي انه متى وجد للاول الوجود الذي لزم ضرورة ان يوجد عنه سائر الموجودات *58 أي ان فيضان الموجودات من وجودجه نتيجة طبيعية وضرورية من نتائج الكمال الالهي من التوكيد ان وجود واجب الوجود ليس مشروطا بذلك الفيض أو بتلك الموجودات *59

 

ويرى الفارابي ان الموجودات تصدر عن الاول من جهة الفيض وجوده لان الوجود يفيض فيضا ضروريا الا أنه لغاية لان الخالق لم يوجد لاجل غيره بل ان هذا الايجاد وجود منه فالوجود يصدر عنه كما يصدر النور عن الشمس والحرارة عن النور بموجب ترتيب معين وترابط وثيق محكم ومتى وجد للاول الوجود الذي له لزم ضرورة ان يوجد عنه سائر الموجودات ومن ثم يأتي دور مراتب الموجودات التي فاضت عن الموجود الاول فيرتبها الفارابي كما يلي :

 

يفيض عن الاول وجود الثاني فهذا الثاني ايضا جوهر غير متجسم أصلا ولا هو في مادة فهو يعقل ذاته ويعقل الاول فيما يعقل من الاول عنه وجود ثالث وبما هو متجوهر بذاته التي تخصه يلزم عنه وجود السماء الاولى ثم يستمر الفيض عند الفارابي على هذه الصورة فيوحد عن العقل الثالث كرة الكواكب الثابتة وعن العقل الرابع كرة زحل وعن العقل الخامس كرة المشتري وعن العقل السادس كرة المريخ وعن العقل السابع كرة الشمس وعن العقل الثامن كرة الزُهرة وعن العقل التاسع كرة عطارد وعن العقل العاشر كرة القمر وعند القمر ينتهي فيض الاجسام السماوية أو الموجودات المطلقة التي لاتقع تحت تأثير عالم الكون والفساد لان السماء الاولى هي اعلى الافلاك وكرة القمر أدناها وجميع الافلاك محيطة بالارض والارض ثابتة في المركز واما بقية الموجودات التي تكون ملك القمر فلا تكون كاملة بل تترقى صعدا وتبلغ كمالا قاصرا على طبيعة كل نوع من أنواعها وأدنى الموجودات التي دون فلك القمر عن الفاراربي الهيولى التي لا صورة لها وفوقها العناصر الاربعة ثم الجماد ويليه النبات فالعيون البهيم ثم الحيوان الناطق الذي هو الانسان ومن امتزاج النفس البشرية بالشكل والمادة المعنوية خرج الكون الحسي والانسان والحيوان والنبات والجماد وهي كلها تتألف من العناصر الاولية الاربعة التي دارت عليها علوم جميع الفلاسفة القدماء وهي التراب والهواء والماء والنار*60

 

حيث يمكن القول ان العقل الفعال هو الموكل المباشر بعالم الكون والفساد حيث يفيض فتشكل الهيولى أو المادة الاولى المشتركة لتبدأ من ثم عملية فيض جديدة فحولها الاختلاط اختلاط العناصر وليس التعقل كما لاحظنا في عملية الفيض الاولى اي ان ثمة فيضا هابطا يبدا بالاول وينتهي بالعقل الفعال وفحواه التعقل وثمة فيض صاعد يبدأ بالمادة المشتركة وينتهي بالانسان وفحواه الاختلاط وسيرورة  الفيض الصاعد ثم بان يفيض العقل الفعال فتكون المادة الاولى المسشتركة التي هي ألاخس بين الموجودات والافضل منها الاسطقسات ثم المعدنية ثم النبات ثم الحيوان غير الناطق *61 بمعنى ان اول ما يوجد بعد المادة الاولى المشتركة هي العناصر الاربعه (الماء – ا لهواء – التراب –النار ) التي تدخل في اختلاطات كثيرة فينجم عنها سائر الموجودات الارضية وبحسب طبيعة التعقيد والتركيب في اختلاط العناصر الاربعة والمادة الاولى المشتركة *62

 

اي ان الانسان هو الغاية الفضلى التي يصل اليها الفيض الصاعد او اختلاط العناصر تماما كما ان العقل هو غاية الفيض الهابط وبما ان الانسان هو الاوحد من الموجودات الارضية الذي يمكنه الاتصال بالعقل الفعال فمن البديهي ان يكون صلة الوصل بين حركتي اللفيض الصاعدة والهابطة وان الانسان هو الوحيد القادر على اكمال دورة الفيض   حيث يتمكن بقوته الناطقة من الاتصال بالعقل الفعال

اساسيات نظرية الفيض عند الفارابي

حيث ان اساسيات النظرية كما قال بها الفارابي هي :

تقسيم الموجودات الى التقسيمات الثلاثة المعروفة الواجب الوجود بذاته والممكن الوجود بذاته والواجب بغير , بدلا من تقسيم المتكلمين الاشياء الى قديم وحادث .

الواحد لا يصدر عنه مباشرة الاواحد .

ان تعقل الاله هو علة للوجود على ما يعقله اي أن تعقله لشيء يعني ابداعه وايجازه

الجسم لا يصدر عم رسم وعلى العكس ييصدر الجسم والمادة عن الصورة .

ثبوت ازلية الهيولى والحركة والزمان والعقل الدائم للعلة التامة .

ليس شرط الفاعل المختار ان يتاخر فعله عنه اذا اقتضت المصاحبة بينهما ضرورات اخرى

كل قوة جسمية متناهية لان كل جسم متناهي الجرم فتحريكهما متناه والحركة لامتناهية فالمحرك لا متناهي *63

ان الفارابي في هذا الفهم لنظرية الفيض يفترق افتراقا ملموسا عن أفلوطين الذي اتخذ موقفا اخلاقيا سبب موقفه من الانطولوجي من المادة أو العالم المحسوس على حين ان الفارابي لم يتخذ ذلك الموقف الاخلاقي من المادة *64

 

كما انه لم يذهب كما ذهب افلوطين الى ان ثمة مباديء جذرية او مثلا عليا او صورا موجودة بالقوة في الاعلى وان الاشكال المادية مجرد تحقيق بالفعل لما هو موجود سابقا بالقوه بل ان الفارابي يذهب الى الى ان الصورة لا توجد بمعزل عن المادة او قبلها بل توجد بالمادة وفيها ولهذا فان الفارابي يؤكد ان الصور  المادية انما هي نتيجة طبيعة معينة في اختلاط العناصر اي ان مبادىء الموجودات الحية لاتكمن في الاعلى بل في المادة نفسها ان تميز فهم الفاراربي يكمن في طرحه لفكرة التطور العقلي والجرمي والمادي الارضي فالكون لم ينشأ دفعة واحدة بل حدثت عدةى نقلات نوعية حتى تم نشوء على ما هو عليه ان اول نقلة نوعية تمت في الانتقال الفيضي من الاول والمفارق بالضرورة الى ىالثامني المفارق ايضا غير انه يحتوى بالقوة على المادة الجرمية وتتمثل النقلة النوعية الثانية في الانتقال الفيضي مما هو عقلي مفارق الى ما هو جرمي وتتمثل النقلة الثالثة في الانتقال من المادة الاولى الى العناصر الاربعة وتستمر الاختلاطات الى ان يتكون الانسان وحتى على صعيد الانسان فثمة نقلة نوعية ايضا تتمثل في الانتقال مما هو مادي الى ما هو عقلي وذلك بالاتصال الفعال وحين يتم للانسان ذلك يكون العقل والمعقول والعقل فيه شيئا واحد بعينه وهذه الرتبة اذا بلغها الانسان كملت سعادته *65وما ذلك الا لانه يعير الصبا بعد اذ كان هيولانيا *66 ولا يشير هذا الا لنوعين من البشر الانبياء والفلاسفة حيث يتصل الانبياء بالعقل الفعال من خلال القوة المتخيلة على حين يتصل به الفلاسفة من خلال عقل المنفعل *67

 

الخاتمة

ان منظومة الفارابي الفلسفية هي المنظومة المتكاملة الاولى التي انبنت اساساً على نظرية الفيض والتي طرحت شكلاً جديداً لتلك النظرية ولهذا فإننا لانتمكن من فهم مقولات الفارابي الفلسفية والاجتماعية والايدولوجية من دون اضاءتها بنظرية الفيض ان فهمه للوجود وللكون وللمجتمع والانسان ينهض اساساً من تلك النظرية التي لم يكن الفارابي ناسخاً او مترجماً لها بل كان مبدعاً في طرحه المعرفي والايديولوجي

 

حيث ان نظرية الفيض تعتمد على المبدء الفلسفي الواحد لايصدر عنه الا الواحد وأن الله تعالى هو الوجد الاول صدر عنه الوجود الثاني وهو العقل الفعال لان الواحد لا يفيض عنه الا واحد وهو واجب الوجود بغيره ( العقل الاول ) وعن العقل الاول صدر العقل الثاني ( السماء الاولى ) وهو ممكن بذاته ويستمر الامر هكذا حتى نصل الى العقل الفعال وهو العقل العاشر فيصدر عنه مادة جميع الموجودات السفلية والنفوس والطبائع والخصائص المميزة لآشخاص واجناس وانواع الانسان والحيوان والنبات والجماد ونظرية الفيض عند الفارابي تبدء من الافضل الى الادنى في العالم العلوي فالله سبحانه وتعالى افض الوجود تصدرعنه العقول العشرة اما في العالم الارضي فيبدء من الادنى الى الفضل أي من المادة الى الانسان أفضل مراتب الوجود الارضية .

 

هوامش البحث

ابن النديم :الفهرست ،رضا نجدة ،طهران ن1971 ص321

الجعفري ،د.ماهر اسماعيل واخرون :فلسفة التربية دار الكتب للطباعة والنشر ،بغداد 1993 ص93

خليفة ،حاجي :كشف الظنون ج3 ،لينيزع ،1830 ص98-99

ابن النديم :الفهرست ص368

ينظر الحموي ،ياقوت :معجم البلدان ج4 ،دار الطباعة والنشر بيروت 1957ص225 ينظر ايضاً مجلة المورد ،العدد الثالث حذيفة 1975 ،وقال النظريات الفلسفية والاجتماعية والسياسية للفارابي هامش المترجم ص44

ابن خلكان (شمس الدين احمد بن محمد ) وفيات الاعيان ج5 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد 1972 ص152 وينظر القاموس المحيط ،الفيروز ابادي مادة فاراب ج1 ،القاهرة 1993 ص112

الاندلسي ،القاضي ابو القاسم صاعد :طبقات الامم تحقيق الاب لويس شيخو ،بيروت مطبعة الكاثوليكية 1912 ص53

حمادة عبد المنعم :من رواة الفلسفة الاسلامية مكتبة الانجلو المصرية ط1 1973 ص118

مرحبا ،د.عبد الرحمن من الفلسفة اليونانية الى الفلسفة الاسلامية منشورات عويدات بيروت ،لبنان 1970 ص372

10ـ  قيمر ،د.يوحنا الفارابي الجزء التاسع من سلسلة فلاسفة العرب طبعة بيروت ص7

 

11 – عبد الرزاق ،دزمصطفى :خمسة من اعلام الفكر الاسلامي ،دار الكتاب العربي بلا تاريخ

 

ص55

 

12- الدخيلي د.ضياء الدين :مقالة الفارابي في الشرق والغرب ،مجلة الرسالة ،العدد 915 ،سنة

 

1951

 

13ـ البارون ،كارده فو :دائرة المعارف الاسلامية نقلها الى اللغة العربية محمد ثابت الافندي

 

واخرون المجلد الاول ،العدد الاول ،ج1 1993 ص 407

 

14- الفارابي :شروح كتاب ارسطو طاليس في العبادة تحقيق كوتتش رستائلي مارو ،دار

 

المشرق ،بيروت 1960 ص150-152

 

15- الثورة :جريدة يومية سياسية تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ضمن

 

مقالة “المعلم الثاني – اسير المدينة الفاضلة ” بغداد ,العراق 7/11/2006 م .

 

16- الدفاعي ,رجاء كاظم : البحث الصوتي والدلالي عند الفاراربي رسالة قدمتها الى كلية

 

الاداب ,جامعة بغداد /قسم اللغة العربية ,اشراف محمد ضاري حمادي ص1_2 .

 

17- شبلي ,ابو زيد:تأريخ الحضارة الاسلامية والفكر الاسلامي ,مكتبة وهبة ,ط3,عابدين

 

مصر 1964 ص 341 .

 

18- أماكس مايروف : من الاسكندرية الى بغداد ضمن كتاب التراث اليوناني في الحضارة

 

الاسلامية , ترجمة عبد الرحمن بدوي ,الطبعة الثالثة دار النهضة ,القاهرة 1965 ص75

 

19- الاعسم ,عبد الامير :نظرية الفارابي المنطقية ,جامعة بغداد ,1978 ص 7

 

20- التوحيدي ,ابو حيان ,الامتاع والمؤانسة , الجزء الاول صححة وطبعه وشرحه احمد امين

 

واحمد الزين ,الطبعة الثانية ,مطبعة لجنة التأليف والنشر ,القاهرة 1953 ص 108-128

 

21ـ النشار ،د.علي سامي : مناهج البحث عند مفكري الاسلام ، الاسكندرية ، دار المعارف ،

 

1966، ص 384.

 

22ـ الخشاب ، د. احمد : التفكير الاجتماعي ، دار المعارف ، مصر ، القاهرة ، 1970 ،

 

ص 204 .

 

23ـ الحسن ، د.احسان محمد : رواد التفكير الاجتماعي ، دار الحكمة للطباعة ، بغداد 1990

 

ص 81.

 

24 ـ جانوف ، قاسم : حول اسلوب التفكير عند الفارابي ، ضمن كتاب الفارابي والحضارة

 

الاسلامية ، مطابع دار الحرية ، وزارة الاعلام بغداد 1975، ص 258 ـ259.

 

25 ـ كوربان ، هنري : تاريخ الفلسفة الاسلامية ، ترجمة : نصير مروة ، حسين فبييي          منشورات عوديات ، بيروت ـ باريس 1977، ص 243 .

 

26 ـ مذكور ، د. ابراهيم : في الفلسفة الاسلامية منهج وتطبيقه ط 2 ، دار المعارف ، مصر

 

ب .ت ص 35 .

 

27ـ غالب ، مصطفى : تاريخ فلاسفة الاسلام ، الطبعة الرابعة ، القاهرة ، 1985 ص 31.

 

28 ـ القفطي ، جمال الدين : اخبار العلماء باخبار الحكماء ص 182.

 

29 ـ الموسوعة العربية الفلسفية ، المجلد الاول (الاصطلاحات والمفاهيم )رئيس التحرير د.   معن زيادة ص 663ـ 664.

 

30 ـ الالوسي ,د0حسام الدين ,دراسات في الفكر الفلسفي الاسلامي ,بغداد 1992 ص 124ـ 126.

 

31- الآلوسي ,د0حسام الدين ,دراسات في الفكر الفلسفي الاسلامي ص 114 .

 

32- الجابري ,محمد عابد ,نحن والتراث ,دار التنوير ,بيروت طص,1985 ص 127-138 .

 

33- بدوي ,عبد الرحمن ,خريف الفكر اليوناني ,مكتبة النهضة المصرية ,القاهرة 1970 ص115

 

34- افلوطين :التساعية الرابعة (في النفس ) دراسة وترجمة :فؤاد زكريا ,القاهرة 1970 ص199

 

35- بدوي المرجع السابق ص 124 .

 

36- غسان ,خالد :افلوطين  ,منشورات .عويدات ,بيروت ط1 ,1983 ص79 .

 

37- افلوطين ,المصدر السابق ص233 .

 

38- بدوي :المرجع السابق ,136 .

 

39- افلوطين :المصدر السابق ,ص 236-237 .

 

40ـ نفسه ص 332 .

 

41- بدوي :المصدر السابق ص139 .

 

42- افلوطين : المصدر السابق ,ص270

 

43- نفسه ص 332

 

44- نفسه ص 259-260

 

45- نفسه ص 261

 

46- نفسه ص 321

 

47- الشهرستاني ,محمد بن عبد الكريم ,الملل والنحل ,تحقيق محمد سيد كيلاني مطبعة البابي

 

الحلبي ,مصر 1961 ص 6-57 .

 

48ـ بينيس ,مذهب الذرة عند المسلمين ,ترجمة محمد عبد الهادي ابو ريده , القاهرة ,1946  .

 

ص 60.

 

49- الشهرستاني ,ص17

 

50- نفسه ص 15 .

 

51- بينيس مرجع سابق ص61 .

 

52- نفسه ص 60 .

 

53- الشهرستاني المصدر السابق ص27 .

 

54- غالب ,د.مصطفى ,الفارابي في سبيل موسوعة فلسفية ,منشورات دار مكتبة الهلال ,لبنان

 

1995 ص 61-62 .

 

55- الفارابي ,ابو نصر :آراء اهل المدينة الفاضلة مطبعة التقدم ,مصر ,ط2 ,1907 ص11 .

 

56- نفسه ص 12 .

 

57- نفسه ص 11 .

 

58- نفسه ص 21-22 .

 

59- نفسه ص 22 .

 

60- غالب ,د.مصطفى ,الفارابي 62-63 .

 

61- الفارابي ,ابو نصر :اراء اهل المدينة الفاصلة ص28 .

 

62- نفسه ص 35 .

 

63- الالوسي ,د.حسام ,دراسات في الفكر الفلسفي الاسلامي ص 122-123 .

 

64- تيزيني ,طيب : مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط دار دمشق ط5 ,1981

 

ص 29

 

65- الفارابي  ,ابو نصر ’السياسة المدنية ,تحقيق فوزي مترى نجار ,المطبعة الكاثوليكية بيروت

 

ط1 ,1964 ص 35

 

66- المصدر نفسه ص36 .

 

67- الفارابي ,آراء أهل المدينة الفاضلة ص 65 .