النشأة التاريخية للدين عند الفارابي و ابن رشد
أشرف منصور / جامعة الآداب-الإسكندرية -مصر .. مقدمة: كانت المأثرة الكبرى لفلاسفة الإسلام محاولة استيعاب الدين بالعقل. ومن هنا ظهرت محاولات التأويل العقلي للنص الديني والتي تجاوزت التأويل المجازي للمعتزلة، وكانت أكثر راديكالية منها. ومن بين أهم نظريات فلاسفة الإسلام في استيعاب الظاهرة الدينية بالعقل ووضع الدين في إطار عقلاني، أفكار الفارابي وابن رشد المفسرة لأصل الدين ولنشأته التاريخية. فقد اتفق الفارابي وابن رشد على أسبقية العقل على الوحي، أنطولوجيا وأبيستيمولوجيا وتاريخيا. وكانت هذه الأسبقية عندهما عامة للبشرية كلها، فيما عدا أمة العرب التي كان الوحي فيها سابقا على نشأة الفلسفة.
إن ما نستفيده من أفكارهما حول ترتيب العلاقة المعرفية والتاريخية بين الدين والفلسفة هو أنهما كانا يدافعان عن أسبقية الفلسفة والتفكير الفلسفي على الدين والتفكير الديني، كل وفق مذهبه الفلسفي الخاص ؛ وهو ما يمثل اتجاها معاكسا تماما للاتجاهات الأنثروبولوجية والثقافية والسوسيولوجية الحديثة التي وضعت الدين والتفكير الديني في مرحلة سابقة على نشأة الفلسفة ؛ وموقفا أكثر راديكالية من كل النظريات التي تبنت الترتيب المعاكس.
تركز هذه الدراسة على رصد كيفية وضع الفارابي وابن رشد للتراتب الأنطولوجي والمعرفي والتاريخي للفلسفة والدين. فعلى مستوى التراتب الأنطولوجي بين الفلسفة والدين، أو العقل والوحي، تنص الرؤية الفيضية للكون عند الفارابي على أن العقل هو أول كيان يصدر عن الواحد، أو الإله، وبالتالي فإن له الأولوية المطلقة على ظاهرة الوحي التي هي عنده فيض من العقل الفعال على مخيلة النبي. وعلى المستوى الإبيستيمولوجي فإن العقل عند الفارابي يحتل المكانة العليا، تليه المخيلة وأخيرا الحس.
فكان من الطبيعي لديه أن ينظر إلى المعرفة العقلية على أنها أعلى من التفكير الديني المستخدم للمخيلة. وأما على المستوى التاريخي فإن الدين متأخر على الفلسفة زمانيا، لأن الدين لديه يعلم الجمهور بالطرق الخطابية ما توصلت إليه الفلسفة بالطرق البرهانية.
أما ابن رشد فقد اتفق مع الفارابي في تبني الأولوية الأنطولوجية والإبيستيمولوجية والتاريخية للفلسفة على الدين، لكنه خالفه في الإطار الذي وضع فيه هذه الأولوية والذي كان الرؤية الفيضية للكون عند الفارابي والمتأثرة بالأفلاطونية المحدثة. وفي المقابل تمسك ابن رشد بإطار أرسطي يضع فيه أولوية العقل على الوحي. فعلى المستوى الأنطولوجي فإن الإله عند ابن رشد عقل محض، فاعل للنظام والترتيب الذي في الطبيعة. وبالتالي، فإن الوحي عنده مجرد وسيلة لإيجاد نظام وترتيب في الاجتماع البشري.
ولذلك فإن الوحي عنده ليس ظاهرة عجائبية فوق طبيعية، وكل الفرق بينه وبين العقل هو الطرق الخطابية والشعرية التي يستخدمها النص الديني مع الجمهور مراعاة لأفهامهم. وعلى مستوى الأولوية التاريخية للعقل على الوحي، ذكر ابن رشد في (تفسير ما بعد الطبيعة ) وفي (تلخيص السماء والعالم )، وفي رسالته (في إمكان الاتصال بالعقل الفعال ) أن العلم ظهر أولا في الحضارات القديمة ثم اختفى، ولم يبق منه إلا بعض الرموز والأمثال التي كانت مستخدمة لتعليم الجمهور آنذاك، وظلت هذه الحكايات الرمزية منتشرة بين الجمهور في كل أمة وظهرت في نصوصها الدينية. أما الجديد الذي أتى به ابن رشد فهو أولوية سياسية للفلسفة على الدين. ففي شرحه لجمهورية أفلاطون، ذهب ابن رشد إلى أن واضع كل شريعة في حاجة إلى الأسلوب الديني في التفكير كوسيلة لمخاطبة الجمهور وأداة لتنظيمه وصلاحه. وبالتالي فان الطريقة الأصلح في تنظيم وحكم مجتمع من العامة هي الطريقة الدينية حسب ما توصل إليه العقل نفسه.
ومن هنا نرى أن التراتب التاريخي بين الفلسفة والدين عند الفارابي وابن رشد قائم على نظرية في المعرفة تعطي الأولوية للعقل على الوحي، ذات أصول أفلاطونية محدثة عند الفارابي، وذات أصول أرسطية عند ابن رشد.
وعلى الرغم من اختلاف الأصول إلا أن النتيجة لديهما واحدة، وهي فلسفة في الاجتماع السياسي تجعل الديني مستوعبا بالكامل في المدني.
وبذلك تنقسم هذه الدراسة إلى أربعة أجزاء. في الجزء الأول أعرض للرؤية التطورية الخطية لتاريخ الأديان والتي بدأت بسوسيولوجيا كومت التي وضعت الدين في مرحلة سابقة على الفلسفة، وذلك تمهيدا لتوضيح مخالفة الفارابي وابن رشد لهذه الرؤية. وفي الجزء الثاني أهدف توضيح الأولويتين الأنطولوجية والإبيستيمولوجية للفلسفة على الملة لدى الفارابي، واللتان نتجتا في أولوية تاريخية، أو بتعبير الفارابي، سبق الفلسفة على الملة بالزمان. وفي الجزء الثالث أثبت أن إشارات ابن رشد إلى اكتمال العلم لدى الأمم القديمة الغابرة ثم تحول هذا العلم إلى مثالات ومحاكيات وتخييلات لدى أصحاب الأديان التالية، يجد الأساس النظري له في فلسفة الفارابي في الدين. وكذلك يجد ابن رشد أساس إثبات عدم تعارض الفلسفة والدين في كتابه (فصل المقال)، مع التمييز بين خطاب الدين وخطاب الفلسفة، من الفاربي أيضا. وفي الجزء الرابع أوضح أن هذا الترتيب الذي يعطي الأسبقية التاريخية للفلسفة على الملة، وعلى الرغم من أنه يقدم لنا ترتيبا مخالفا للترتيب المعتاد بينهما في الدراسات الحديثة والذي يرجع بأصله إلى عصر التنوير الأوروبي، إلا أن ما يؤكد لدينا صحة هذا الترتيب هو دراسة توينبي للتاريخ، والتي اكتشفت السبب في الأسبقية التاريخية للفلسفة على الأديان الكبرى.
الموقع التاريخي للدين في الدراسات الحديثة
ترسم الدراسات الحديثة للأديان صورة خطية تضع فيها الأديان على متصل تطوري مستقيم، تبدأ فيه البشرية بالأسطورة والسحر والخرافات، ثم تتحول إلى الرؤى الدينية للعالم والتي تبدأ تعددية وتنتهي توحيدية، وبعد المرحلة الدينية تأتي المرحلة الميتافيزيقية التي تمثلها الفلسفة، وأخيرا تأتي مرحلة العلم في العصر الحديث.
تدين هذه الرؤية الخطية التطورية لموقع الأديان في التاريخ البشري بأصولها الأولى لعصر التنوير (فولتير، ديدرو، كوندرسيه، كوندياك، على سبيل المثال)؛ ثم استمرت المدرسة التاريخية الألمانية في نفس هذا التوجه وعلى رأسها هيردر وهيغل. ووجدت هذه الرؤية صياغة أكثر انضباطا في نظرية أوجست كومت في المراحل الثلاث (2)، المرحلة اللاهوتية أو الدينية، والمرحلة الميتافيزيقية أو الفلسفية، وأخيرا المرحلة الوضعية أو العلمية؛ وكذلك نظرية جيمز فريزر في كتابه (الغصن الذهبي)(3)، وماكس فيبر في نظريته في السلطة والكارزما.
لكن الحقيقة أن هذه النظرية مصابة بعيوب كثيرة.
منها أنها لا تستطيع تفسير التقدم العلمي الهائل الذي وصلت إليه الحضارات القديمة والذي سمح لها ببناء الأبنية العملاقة مثل الأهرامات والمعابد المصرية وفن التحنيط المصري والتقدم في المجالات الطبية والهندسية آنذاك، إذ تكشف الإنجازات المعمارية للحضارات القديمة عن درجة عالية من التطور العلمي والتقني لا يتناسب أبدا مع ما تصورته الدراسات الحديثة للأديان من مستوى بدائي للذهنية وللديانة. كما أن الاتجاه التطوري الخطي لهذه النظريات لا يستطيع تفسير ظاهرة التدهور التاريخي للأديان والعقليات والذي تتحول فيه العقائد إلى شعوذة ويتحول من خلاله العلم إلى سحر. وهي أيضا عاجزة أمام تفسير حقيقة سبق ظهور الفلسفات العقلانية اليونانية للأديان الكبرى؛ إذ أن هذه الحقيقة تنهار أمامها نظرية كومت في المراحل الثلاث، وكل النظريات التي وضعت الفلسفة في مرحلة تالية على الدين؛ فالذي حدث بالفعل أن فلاسفة اليونان قد سبقوا المسيحية والإسلام، مما يقدح في صحة الاتجاه التطوري الخطي الذي يضع الأديان قبل الفلسفة.
والحقيقة أن النظرية الوحيدة في تراثنا الفلسفي والتي انتبهت إلى هذه الحقيقة، وهي أسبقية الفلسفة على الأديان تاريخيا، هي نظرية الفارابي التي اتضحت في كتبه (كتاب الحروف)، و(كتاب الملة)، و(السياسة المدنية)، و(آراء أهل المدينة الفاضلة)؛ وهي نفس النظرية التي تبناها ابن رشد وظهرت لديه في الكثير من أعماله.
أولوية الفلسفة على الملة عند الفارابي
تتضح الأولوية النظرية للفلسفة على الملة عند الفارابي، بجانب الأولوية العملية، في رؤيته الأنطولوجية للوجود. فالموجود الأول عقل(4)، وأول موجود يصدر عنه هو عقل أيضا. وآخر العقول الفائضة عن العقل الأول هو العقل الفعال، المدبر لعالم ما دون فلك القمر(5)؛ ومن هذا العقل الفعال يأتي الوحي للأنبياء. ومعنى هذا أن للعقول المفارقة الأولوية الأنطولوجية المطلقة على الوحي، لأن الوحي يتم من عقل إلى عقل، من العقل الأول إلى العقل الفعال إلى عقل النبي، وأخيرا من عقل النبي إلى مخيلته. ذلك لأن المخيلة تحتل المرتبة الأدنى في الملكات المعرفية للإنسان.
و”السعادة عند الفارابي يتم تعقلها أولا بالعقل النظري “(6)، ثم تدرك القوة العملية متطلبات هذه السعادة ذات الجوهر العقلي كي تتحقق عمليا. أما القوة النزوعية فهي التي تشتاق إلى هذه السعادة وتشكل الدافع الإرادي لسعي الإنسان نحوها. وأما القوة المتخيلة فهي قوة مساعدة، وبتعبير الفارابي هي قوة تابعة ومنقادة للقوى السابقة عليها(7). هذا الترتيب الأنطولوجي لكيفية حصول السعادة للإنسان يوازيه ترتيب اجتماعي سياسي وتاريخي. الترتيب الاجتماعي السياسي تكون فيه الأولوية لصاحب العقل الكامل وهو الفيلسوف، وهو الذي يدرك السعادة الحقة بعقله، ثم النبي الذي يدركها
بعقله ومخيلته معا، ثم الجمهور الذي لا يستطيع إدراك السعادة إلا بالمخيلة؛ أي بإدراكه لأمثال ومحاكيات السعادة بالصور الحسية (8). وأما الترتيب التاريخي لإدراك السعادة فهو الآخر يتبع الترتيب الأنطولوجي للموجودات، حيث تظهر الفلسفة أولا وبإطلاق في تاريخ البشرية، وتتلوها الملة (9). ويجد الفارابي مبررا لتأخر الملة عن الفلسفة في عدم استعداد كل الناس لإدراك السعادة العقلية الحقة التي يدركها الفيلسوف وحده، ولذلك وجب على الفيلسوف أن يمثل للناس هذه السعادة بما يحاكيها وبما يمكن أن يتخيلوه، وذلك نظرا لعدم اكتمال القوة العقلية عند العامة. وفي ذلك يقول:”وليس كل إنسان يفطر معدا لقبول المعقولات الأول، لأن أشخاص الإنسان تحدث بالطبع على قوى متفاضلة وعلى توطئات متفاوتة “(10)؛ والأجل ما قيل في اختلاف الفطر في أشخاص الإنسان، فليس في فطرة كل إنسان أن يعلم من تلقاء نفسه السعادة ولا الأشياء التي ينبغي أن يعملها، بل يحتاج في ذلك إلى معلم ومرشد […]، وعلى هذا أكثر الناس …”(11).
ولأن الاجتماعات المدنية في حاجة إلى سلطة، بها ينقاد الناس، فان الفارابي يقيم تراتبا سلطويا في الرئاسة على أساس التراتب الوجودي الأنطولوجي للموجودات، والتراتب المعرفي للملكات العقلية. فالرئيس الأعلى هو الفيلسوف بفضل ما يحوز عليه من كمال عقلي، يؤهله لأن يكون معلما ومرشدا، ومن ثم قائدا وحاكما، لمن دونه في الاستعدادات والملكات العقلية: “فان الذي له قدرة على الاستنباط في جنس ما، رئيس من ليس له قدرة على استنباط ما في ذلك الجنس.
ومن له القدرة على استنباط أشياء أكثر، رئيس على من إنما له القدرة على استنباط أشياء أقل” (12). مما يعني أن من له القدرة على الاستنباط في كل الأشياء وكل الأجناس هو الرئيس الأعلى المطلق وهو الفيلسوف. وفي ذلك يتفق الفارابي مع أفلاطون في محاورة الجمهورية. فالحاكم الحق هو الفيلسوف لا أحد غيره.
ثم نفاجأ بأن الفارابي يوحد بين الفيلسوف والنبي ويضعهما في مرتبة واحدة، أو بالأحرى يقيم الهوية التامة بينهما. ذلك لأن ما يقوله في الرئيس الأول على الإطلاق ينطبق على الفيلسوف والنبي معا، إذ أن ما يجعل الفيلسوف فيلسوفا والنبي نبيا هو القدرة على الاتصال بالعقل الفعال. وهذه القدرة تتحقق عندهما بعد استكمال العقل المستفاد، القادر على الاتصال بالعقل الفعال. والدليل على صحة تحليلنا هذا، أن الفارابي يعتمد على تشخيص شراح أرسطو اليونان مثل الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس لكيفية اتصال الفيلسوف بالعقل الفعال، وينظر إلى هذا التشخيص على أنه هو نفسه طريق اتصال النبي بالوحي (13).
فالفيلسوف حسب تأويلات هؤلاء الشراح، وتأويلات الفارابي نفسه لأرسطو، هو المتصل مباشرة بالعقل الفعال دون واسطة. ويعبر الفارابي عن ذلك بقوله: “وإنما يبلغ [ الفيلسوف] ذلك بأن يحصل له أولا العقل المنفعل، ثم أن يحصل له بعد ذلك العقل الذي يسمى مستفادا. فبحصول المستفاد يكون الاتصال بالعقل الفعال على ما ذكر [أرسطو] في كتاب النفس لما (14). الحقيقة أن أرسطو قد أشار بالفعل في كتاب النفس إلى هذه الكيفية في الاتصال بالعقل الفعال عن طريق استكمال العقل المستفاد (15) لكنه لم يذكر أبدا أي شيء في هذا السياق عن هوية القائم بهذا الاتصال ولا ما إذا كان فيلسوفا أم نبيا أم الاثنين معا(16)؛ إذ أن كل ذلك من توظيف الفارابي للنص الأرسطي كي يناسب أهدافه.
ويتضح وجه توظيف الفارابي للنظرية الأرسطية في الاتصال بالعقل الفعال ناحية نظريته في التوحيد بين الفيلسوف والنبي في قوله: “هذا الإنسان هو الملك في الحقيقة عند القدماء، وهو الذي ينبغي أن يقال فيه إنه يوحى إليه. فان الإنسان إنما يوحى إليه إذا بلغ هذه الرتبة، وذلك إذا لم يبق بينه وبين العقل الفعال واسطة “(17).
إذ أن انتفاء الواسطة بين العقل المستفاد والعقل الفعال يجعل الاتصال بينهما فيضا من الفعال إلى المستفاد. والملاحظ أن طريق وصول الإنسان إلى رتبة الفيلسوف والى رتبة النبي هو طريق واحد وهو استكمال العقل المستفاد، وأن وسيلة الاتصال واحدة وهي هذا العقل المستفاد أيضا، وأن طريقة الاتصال واحدة، وهي فيض العقل الفعال على العقل المستفاد، والذي يقول عنه الفارابي: “فهذه الإفاضة الكائنة من العقل الفعال إلى العقل المنفعل بأن يتوسط بينهما العقل المستفاد هي، الوحي […]، ورئاسة هذا الإنسان هي الرئاسة الأولى، وسائر الرئاسات الإنسانية متأخرة عن هذه وكائنة عنها لما(16). والواضح من هذا النص أن طريق الاتصال بالعقل الفعال واحد لدى الفيلسوف ولدى النبي، مما يعني أن الفيلسوف يوحى إليه أيضا؛ لكن مع فارق هام، وهو أن الفيلسوف يفيض عليه العقل الفعال بالمعقولات الأزلية فقط، أما النبي فان الذي يفيض على عقله هو هذه المعقولات، ويزيد على الفيلسوف أن الفيض يكون على مخيلته أيضا بالأمور الجزئية التي هي الأحداث المستقبلة والتدبيرات العملية الخاصة، بالأمثال والصور الحسية والرموز والمحاكيات المناسبة لتمثيل مبادئ الموجودات للجمهور(19).
لكن لما كانت كل المدن الإنسانية أغلبها من العامة الذين لا يقدرون على تعقل السعادة الحقة والرئاسة الحقة والفضيلة الحقة، كان من الضروري لصلاح هذه المدن أن تمثل لهم هذه الأمور بأشياء تحاكيها حتى يسهل على أذهانهم تخيلها:
وأكثر الناس لا قدرة لهم إما بالفطرة واما بالعادة على تفهم تلك وتصورها. فأولئك ينبغي أن تخيل إليهم مبادئ الموجودات ومراتبها والعقل الفعال والرئاسة الأولى كيف تكون بأشياء تحاكيها […] ولذلك أمكن أن تحاكى هذه الأشياء لكل طائفة ولكل أمة بغير الأمور التي تحاكى به للطائفة الأخرى أو للأمة الأخرى” (20(. وهذا هو سبب اختلاف الأديان؛ إذ هو تابع لاختلاف الأمم في طرق تخيل السعادة. ذلك لأن تعقل السعادة واحد، أما تخيلها فيختلف حسب أذهان وعقليات كل أمة. مما يعني أن الأديان وان كانت تختلف في الشكل وفي الأمور التي مثلت بها السعادة والشقاء ومبادئ وترتيب الموجودات، فأنها واحدة في الجوهر. وإذا كانت الفلسفة الحقة واحدة لكونها تعتمد على تعقل واحد لمعقولات واحدة، فان الملل تختلف لاختلاف تمثيلات هذه المعقولات من أمة إلى أخرى (21).
هذا التراتب الذي يعطي الأولوية المطلقة للفلسفة على الملة يناظره تراتب تاريخي بينهما، يبرزه الفارابي في كتاب (الحروف). إذ نستخلص من نظريته في هذا الكتاب أن الفلسفة الحقة إذا كانت لا زمانية ومتجاوزة للتاريخ، فان الأديان هي التي تتصف بالتاريخية، نظرا لأن الأمم المختلفة أمم تاريخية في الأساس. وفي تصور الفارابي فإن الفلسفة البرهانية اليقينية ولدت كاملة ودفعة واحدة على يد أرسطو المعلم الأول، وذلك لأنها لا تاريخية في الأساس، ولذلك لم تعرف التطور التاريخي (22).
أما الأديان فوجدت تالية لبعضها البعض. وهذا هو السبب في نسخ الشرائع لبعضها البعض، حسب ترتيب الأفضل والأنسب منها، ووفق درجات تطور الأمم ( (23. إذ أن هناك أمة سبقت الفلسفة فيها ظهور الملة، وهي أمة اليونان حسب الفارابي، وأمة الكلدانيين حسب ابن رشد الذي اعتقد خطأ أنهم سكنوا مصر(24). وهناك أمة أخرى سبقت فيها الملة ظهور الفلسفة وهي أمة العرب، وذلك حسب درجة تطورهم العقلي والتاريخي. ولذلك فان أسبقية الملة على الفلسفة عند العرب ليست أسبقية مطلقة بل أسبقية تابعة لمستواهم الحضاري ودرجة تطورهم العقلي.
ونشهد هنا الفارابي وهو يدخل النسبية التي تراعي اختلاف الأمم في ترتيبه للعلاقة بين الفلسفة والملة، في مقابل النزعة الشمولية في الرؤية التاريخية للأديان والتي تحاول وضع إطار واحد فقط لظهور كل الأديان يستوعب الإنسانية كلها. لكن هذه النسبية التاريخية لم تمنع الفارابي من أن يعطي الأولوية المطلقة للفلسفة على الملة إذا كانت الفلسفة إنسانية عامة والملة أيضا إنسانية عامة. إذ نجد الأولوية المطلقة للفلسفة على الملة في كتاب الفارابي (الحروف)، وخاصة في الباب المعنون (حدوث الألفاظ والفلسفة والملة). يذهب الفارابي إلى أن الفلسفة متقدمة بإطلاق على الملة حتى لو كانت هذه الفلسفة مظنونة أو مموهة. يقول الفارابي: “ولما كان سبيل البراهين أن يشعر بها بعد هذه “، أي بعد الخطابة والجدل والسفسطة، “لزم أن تكون القوى الجدلية والسوفسطائية والفلسفة المظنونة أو الفلسفة المموهة تقدمت بالزمان الفلسفة اليقينية، وهي البرهانية”(25).
أما الملة فإذا كانت إنسانية عامة، أي لكل البشر لا خاصة بأمة معينة، فهي متأخرة بالزمان عن الفلسفة اليقينية. يقصد الفارابي بذلك أن الأديان السماوية الكبرى تالية في الظهور على الفلسفات الكبرى (26)؛ وأن الملة يمكن أن تسبق الفلسفة إذا لم تكن إنسانية عامة، أي إذا كانت خاصة بأمة من الأمم دون غيرها وقاصرة عليها. وهذا هو حال الأديان البدائية. أما الأديان الكبرى، فلأنها متوجهة لكل البشر فهي تعتمد على درجة التطور المعرفي للبشرية ككل، وبالتالي تكون تابعة لفلسفة برهانية يقينية. ويعبر الفارابي عن هذه النظرية بقوله:”[…]، فالفلسفة بالجملة تتقدم الملة على مثال ما يتقدم بالزمان المستعمل الآلات الآلات “(27). الملة إذن هي آلة للفلسفة، لكونها تستخدم في تعليم الجمهور الأمور النظرية المبرهن عليها في الفلسفة التمثيلات والتخييلات. فالملة آلة للفلسفة بهذا المعنى.
ولما كانت الأسبقية الزمانية للفلسفة البرهانية اليقينية على الملة الإنسانية العامة، ولما كانت الأولوية الإبيستيمولوجية لها أيضا حسب التطور المعرفي، فإن الفيلسوف هو من الخاصة بأطلاق: “فالخواص على الإطلاق إذن هم الفلاسفة […]، وسائر من يعد من الخواص إنما يعد منهم لأن فيهم شبها بالفلاسفة “(26).
لكن الملاحظ أن الفارابي يعترف بأسبقية العوام والجمهور على الخواص، في كل أمة وبإطلاق لدى كل الإنسانية.
فكيف إذن يعطي الأولوية للفلسفة على الملة وقد اعترف بأسبقية العوام على الخواص؟ الحقيقة أن أسبقية العوام والجمهور على الخواص في الزمان لا يجعل الملة التي هي للجمهور أسبق من الفلسفة بالزمان إذا كانت هذه الفلسفة هي البرهانية اليقينية وإذا كانت الملة إنسانية عامة.
ذلك لأن الملة التي تنشأ في العوام والجمهور أولا ليست هي الملة الإنسانية العامة، بل الملة الخاصة بجمهور خاص وبأمة خاصة. ولذلك تكون هذه الملة منطبعة بطباع هذه الأمة الخاصة من محدودية وجزئية. ولذلك نرى الفارابي يقول عن العوام الذين في الأمة الخاصة: “فإنهم يكونون في مسكن وبلد محدود، ويفطرون على صور وخلق في أبدانهم محدودة، وتكون أبدانهم على كيفية وأمزجة محدودة، وتكون أنفسهم معدة ومسددة نحو معارف وتصورات وتخيلات بمقادير محدودة في الكمية والكيفية …” (29). هذا هو الجمهور الخاص بأمة خاصة محدودة، جزئية ومغلقة داخل محيطها الجغرافي الطبيعي، وهو ليس الجمهور بأطلاق.
ومحدودية هؤلاء هي السبب في محدودية وجزئية ملأتهم الخاصة. وربما انطبق هذا التحليل على الأمة اليهودية، وربما كان الفارابي يقصد بعد ذلك هذه الأمة عندما ذهب إلى أن الملة يمكن أن تنتقل إلى أمة بدون ملة سابقة من أمة صاحبة هذه الملة بعد أن يتم تصحيحها والزيادة عليها أو النقصان منها وغيرت تغييرا آخر(30). فهذه هي أمة العرب التي صحح لها الإسلام محدودية الديانة اليهودية.
ونلاحظ في نص الفارابي أنه يتحدث عن الفلسفة والملة بإبهام وتعميم ولا يذكر أبدا أديانا بأسمائها. وربما كان الداعي إلى ذلك هو التخفي، مما يجعل هذا الجانب من نص كتاب الحروف مستورا(31)، مخصصا للخاصة وحدهم الذين يستطيعون فك شفرته وتجاوز إبهامه. وبذلك تكون اليهودية ملة خاصة محدودة بحدود الأمة اليهودية؛ واليهود يعترفون بحصرية ديانتهم واقتصارها عليهم، وينكرون كونها عامة كلية للبشرية. وتكون الأديان البدائية كلها فاسدة حسب كلام الفارابي السابق لكونها محدودة بحدود مجتمعاتها وغير قائمة على فلسفة برهانية. لكن هل معنى هذا أن الإسلام باعتباره ملة صالحة قائم على فلسفة أرسطو التي هي الفلسفة البرهانية اليقينية؟ ربما كان هذا هو قصد الفارابي. لكن كيف يكون الإسلام قائما على فلسفة أرسطو؟ إن هذا لا يعقل أبدا. لكننا يمكن أن نقرب المعنى الذي قصده الفارابي بقولنا إن مقصودة كان القول إن الإسلام متفق وغير مخالف للفلسفة البرهانية اليقينية. فلما كانت ملة الإسلام هي ملة التوحيد، ولما كان القرآن قد استدل على أن للعالم خالقا مدبرا لما في هذا العالم من نظام وترتيب مسددان نحو غاية واحدة وهي حفظ الوجود الإنساني، فان الإسلام يتفق مع الفلسفة البرهانية اليقينية التي سبق وأن دللت على نفس هذه المبادئ.
وبذلك تكون الفلسفة البرهانية فلسفة أرسطو، أسبق بالزمان على الإسلام. والحقيقة أن ابن رشد هو الذي توسع في هذه الفكرة، وخاصة في كتابه (فصل المقال) عندما أوضح أن العلاقة بين الشريعة والحكمة هي علاقة اتصال (32).
ويجب علينا أن نفهم هذا الاتصال على طريقة ومنهج الفارابي، بمعنى أن الشريعة والحكمة يقعان على متصل تاريخي واحد وان كانت الحكمة أسبق بالزمان على الشريعة، لكن ما بينهما من مبادئ نظرية واحدة يجعلهما متصلين كما ولو كانا على خط واحد، يحتل كل منهما فيه موقعه الخاص به.
وبذلك يكون ابن رشد هو المحقق لفكرة الفارابي في تأسس الملة الفاضلة على فلسفة يقينية.
والسبب الذي يجعل الملة تابعة للفلسفة وتالية عليها لدى الفارابي هو نظريته في التراتب المعرفي التطوري الذي يذكرنا بـ هيغل وبياجيه، ومن قبلهما كوندرسيه وكوندياك.
لكن في حين أن نظريات التطور المعرفي لدى هؤلاء جعلتهم ينظرون إلى الفلسفة والتفكير العقلاني على أنها تمثل مرحلة تالية على الأديان، مما يخالف الترتيب التاريخي الحقيقي بينهما -ذلك لأن الفلسفة اليونانية قد ظهرت قبل المسيحية والإسلام -فان الفارابي يصر على الترتيب المعاكس وينظر إلى الأديان التوحيدية على أنها تفترض مرحلة متطورة من الفكر العقلاني. فحسب الفارابي فان الحاجة إلى الملة تظهر بعد اكتمال الصنائع العملية ثم النظرية، أي بعد اكتشاف الإنسانية للحقيقة بالعقل أولا، ثم نقل الأديان لهذه الحقيقة إلى الجمهور بالأساليب المناسبة للجمهور.
يقول الفارابي: “ومن بعد هذه كلها “، أي بعد استكمال الصنائع العملية والنظرية، “يحتاج إلى وضع النواميس” ، أي الأديان والشرائع الدينية، و”تعليم الجمهور ما قد استنبط وفرغ منه وصحح بالبراهين من الأمور النظرية، وما استنبط بقوة التعقل من الأمور العملية”. والأديان تعلم الجمهور بالأساليب الخطابية ما قد توصل إليه العقل بالأساليب البرهانية. و (صناعة وضع النواميس فهي بالاقتدار على جودة تخييل ما عسر على الجمهور تصوره من المعقولات النظرية )؛ وهذا هو أساس التأويل الذي يرجع بالتمثيلات الرمزية والمجازية إلى أساسها وأصلها العقلي، وبذلك يكتسب التأويل معناه الأصلي وهو الرجوع بالشيء إلى أوله، أي أصله، وأصل المجاز والرمز والمثال هو تخييل ما هو عقلي بأمور حسية ؛ و”على جودة استنباط شيء شيء من الأفعال المدنية النافعة في بلوغ السعادة، وعلى جودة الإقناع في الأمور النظرية والعملية التي سبيلها أن يعلمها الجمهور بجميع طرق الإقناع “(33)، وهذا هو أصل قول ابن رشد في (فصل المقال ) إن الشرع استخدم كل طرق الإقناع لحض العامة على الإيمان بالله. إن ظهور أرسطو قبل المسيح ومحمد يكسب نظرية الفارابي قوة ووجاهة على الرغم من مخالفتها للدراسات الحديثة للأديان والتي تضعها في مرحلة مبكرة من التطور المعرفي للإنسان.
أما عن أمة العرب فان الفارابي يرصد علاقة الفلسفة والملة بها في قوله: “وأما إن نقلت الملة من أمة كانت لها تلك الملة” ، أي بني إسرائيل،”إلى أمة لم تكن لها ملة”، أي أمة العرب،»(أو أخذت ملة كانت لأمة فأصلحت فزيد عليها أو نقص منها، أو غيرت تغييرا آخر فجعلت لأمة أخرى فأدبوا بها وعلموها ودبروا بها، أمكن أن تحدث الملة فيهم قبل الفلسفة وقبل أن يحصل الجدل والسوفسطائية”(34).
فعلى الرغم من أن الفارابي قد أعطى الأولوية المطلقة للفلسفة على الملة وأكد على أسبقيتها بالزمان، إلا أنه كان على وعي بحال أمة العرب التي لم تعرف هذه الأسبقية بل كان الترتيب التاريخي عندها معاكسا، إذ ظهرت فيها الملة قبل أن تظهر الفلسفة. ذلك لأن الفلسفة في أمة العرب منقولة من أمة سابقة هي اليونان. وكذلك الملة منقولة إليها من أمة سابقة هي بني إسرائيل بعد أن صححت ونقص منها وزيد عليها وغيرت. ولأن الملة في أمة العرب كانت سابقة على الفلسفة، فإن هذا هو ما أدى إلى نشوب الخلاف بينهما، نظرا لتمكن الملة فيهم قبل أن تتمكن الفلسفة، ونظرا لأن الفلسفة فيهم كانت منقولة إليهم من أمة أخرى ولم تكن نابعة منهم، فنظروا بذلك إليها على أنها غريبة عنهم وعاندوها. ومعنى هذا في التحليل الأخير أن الفلسفة أسبق بالزمان على الملة على مستوى التطور التاريخي والمعرفي للبشرية، لكن الملة أسبق على الفلسفة بالزمان في حالة أمة العرب وحدها. لكن هذا الاستثناء الذي تمثله أمة العرب ليس هدما لقاعدة أسبقية الفلسفة على الملة بالزمان، بل يعبر وحسب عن خصوصية التطور التاريخي لأمة العرب وحسب وعن استثنائية هذا التطور.
تلك الخصوصية وهذه الاستثنائية هي التي أدت في نظر الفارابي إلى الصراع بين الملة والفلسفة في ديار الإسلام.
فلو كان التطور التاريخي عند العرب قياسيا، أي لو كانت الفلسفة قد ظهرت فيهم تلقائيا وقبل الملة ودون أن تنقل من أمة أخرى، لما حدث العناد الذي تحدث عنه بينهما، ولما كان الصراع بينهما كما حدث بالفعل. فاستثنائية التطور التاريخي والعقلي العربي هي السبب في المصير المؤسف للفلسفة في التاريخ الإسلامي (35).
أسبقية الفلسفة على الملة عند ابن رشد
واذا تحولنا إلى ابن رشد، نراه قد حمل فكرة تكاد تكون متطابقة مع فكرة الفارابي عن العلاقة التراتبية التاريخية بين الفلسفة والملة، إذ هو يعطي الأولوية للفلسفة تماما كما فعل الفارابي. لكن في حين أن الفارابي كان يتعمد الإبهام وعدم التصريح، فان ابن رشد كان أكثر جرأة منه في التصريح بأن الفلسفة البرهانية قد اكتملت قبل ظهور الأديان، وذلك في أربعة مؤلفات: 1. (تفسير ما بعد الطبيعة )؛ 2. (تلخيص السماء والعالم)؛ 3. (رسالة في إمكان الاتصال بالعقل الفعال)؛ 4. (تهافت التهافت).
في شرحه على مقالة اللام من (تفسير ما بعد الطبيعة)، يؤكد ابن رشد على الأسبقية الزمانية للفلسفة على الدين، لكن لا على طريقة الفارابي بنظرية متكاملة في فلسفة التاريخ الديني، بل بطريقته هو وهي شرح أرسطو حسب ما يقتضيه مذهبه. أثبت أرسطو في هذه المقالة المحرك الأول الذي لا يتحرك، والمتحرك الأول دائم الحركة السماء الأولى أو الفلك المحيط أو الفلك الأقصى]، والمحركات الثواني لبقية الأفلاك والتي هي مسببات عن حركة المتحرك الأول؛ وأوضح طبيعة محركات هذه الأفلاك وأنها من جنس النفس بالنسبة للجرم السماوي؛ إذ هي تحرك الجرم السماوي تحريك النفس للجسم. وبعد أن أثبت أرسطو أن هذه المحركات نفوس بالنسبة للأجرام السماوية وعقول في علاقتها بالمحرك الأول والمتحرك الأول، وأنها ذوات نفوس وعقول وأنها متنفسة وحية، يشرح ابن رشد هذه النظرية بذهابه إلى أن أول من اكتشف هذه المبادئ المفارقة للأفلاك هم الكلدانيون، الذين يقال عنهم “إن الحكمة كانت قد كملت عندهم) … لكن ما بقي من تلك الحكمة هو مجرد ألغاز، أي تخييلات وصور مجازية. إذ تحولت هذه المبادئ المفارقة التي تحرك الأفلاك والتي تؤثر في عالم ما دون فلك القمر وتحفظه إلى آلهة عندما تدهور العلم الكلداني وهبط إلى المستوى الشعبي العامي وصار نحلة واقترب من السحر. يقول ابن رشد: “إلا أن ما بقي من تلك الأقاويل يجري مجرى الألغاز […] وقد نقلت عن الأقدمين جدا أقاويل تجري اليوم مجرى الألغاز، وهو أن هذه الأجرام السماوية آلهة، وأنها التي تحيط بجميع الأشياء التي توجد بالطبع “(37). ومعنى هذا أن العبادات البدائية التي كانت تؤمن بتعدد الآلهة وتعبد النجوم والكواكب على أنها آلهة كانت التدهور التاريخي للعلم الكلداني الذي كان أول من اكتشف تأثير الأفلاك على الحياة على الأرض.
وأستطيع أن أضيف إلى تحليل ابن رشد هنا، أنه لما كان العلم الكلداني ليس علما برهانيا يقينيا مثل العلم الأرسطي، فان الملل التي صدرت عنه لم تكن مللا توحيدية، بل مللا تؤمن بتعدد الآلهة، تعدد النجوم والكواكب. ويستمر ابن رشد في توضيح أن الدافع الذي جعل هذه الملل تمثل الأجرام السماوية بالآلهة، ويقول عنه إنه صلاح الناس الذي لا يأتي إلا بإقناعهم بالمبادئ النظرية للموجودات، بالطرق المناسبة لإقناعهم، ولذلك مثلت لهم هذه الأجرام وتأثيراتها بالآلهة. لكن تمثيل الأجرام السماوية بالآلهة ليس صادقا، إذ أن الأجرام ليست آلهة على الحقيقة؛ وكان القصد بهذا التمثيل “إقناع الناس لموضع إصلاح أخلاقهم وللذي هو خير لهم وهو الذي يقصد باستعمال النواميس ” (38). أما الفلسفة اليقينية الحقة فهي التي لا تنظر إلى الأفلاك على أنها مستقلة وقائمة بذاتها، بل على أن فعلها وحركاتها آتية من المحرك الأول ذاته؛ وهذا ما يجعل الفلسفة البرهانية اليقينية (فلسفة أرسطو) أساس الملة الصادقة الفاضلة التي هي ملة التوحيد. هذه الملة لم تعد ترمز للمبادئ المفارقة بالآلهة بل رمزت إليهم بالملائكة الذين هم جند الله والمؤتمرون بأمره والمطيعون لمشيئته (39). وقد عبر الفارابي وابن سينا عن هذه الفكرة نفسها في أكثر من عمل، واتبعهما موسى بن ميمون في كتابه (دلالة الحائرين)(40).
ويؤكد ابن رشد على أن القدماء، أو الأوائل أو الحكماء الأوائل (وكلها بنفس المعنى) كانوا يقصدون بالآلهة هذه الأجرام السماوية وما تتصف به من نفس وعقل وأنها مؤثرة في عالم ما دون فلك القمر تأثيرا طبيعيا. وبالتالي فإذا كانت الآلهة التي كانوا يقصدونها مجرد تخيلات وأمثال على المبادئ الأولى للوجود فإن هذا يعد تأويلا صحيحا لها وصادقا ويقينيا. أما الملل التالية التي قصدت من مبادئ الوجود المفارقة أن تكون آلهة على الحقيقة فهي ملل فاسدة عند ابن رشد، متبعا في ذلك الفارابي. وفي ذلك يقول: “فإن تأول الإنسان أنهم إنما رمزوا بالآلهة وهم كانوا يريدون الجواهر الأول التي هي مبادئ الأجرام السماوية والأجسام السماوية، فيكون تأويلا صحيحا ورمزا يوافق الحق ؛ لأنه إن غبر بالآلهة عن شيء من الأشياء فهذه الجواهر هي أحق بهذه العبارة […]، ولذلك وجب أن تعتقد أن هذه الرموز هي بقايا بقيت من آرائهم التي فسدت وبادت “(41).
ويذهب ابن رشد في اتفاق مع أرسطو إلى أن الفلسفة وجدت وبادت مرات عديدة في قديم الزمان، وفي كل مرة تبيد فيها الفلسفة تتحول إلى ملة شعبية تؤمن بتعدد الآلهة وبأن الأفلاك وأجرامها آلهة. حتى جاءت فلسفة أرسطو البرهانية اليقينية التي أرجعت كل المبادئ المفارقة إلى مبدأ واحد ومحرك أول واحد وبذلك كانت أساس ملة التوحيد.
وهذه الفكرة الرشدية هي التحقيق العملي لنظرية الفارابي في أن الملة الإنسانية الصادقة مؤسسة على فلسفة برهانية صادقة، كما أنها تعبر بدقة عن فكرة التدهور التاريخي للعلم إلى الخرافة والسحر، وللأديان إلى نحل شعبية، وهو ما يتفق مع ما سيقوله توينبي كما سنرى .
ولما كانت الفلسفة سابقة على الملة بإطلاق كما ذهب الفارابي، فإن الفلاسفة عند ابن رشد كانوا سابقين دائما على الأديان بالزمان، وكانوا موجودين وقت ظهور الأديان، وكانت الأديان تظهر وفي العالم فلاسفة. ولأن الأديان هي شرائع تصلح معاش الناس وأحوالهم، ولأن الفلاسفة كانوا دائما ما يهدفون صلاح المجتمع بأي طرق كانت، فقد كان الفلاسفة يقبلون دائما كل ملة جديدة لما رأوا فيها من نفع للمجتمع واصلاح له؛ إذ أن سعادة العامة عند ابن رشد هي هدف الفلاسفة أيضا لا سعادة الخاصة وحسب، ولأن سعادة الخاصة عنده لا تتم إلا بسعادة العامة. ولذلك نرى ابن رشد يقول في (تهافت التهافت) إن الفلاسفة كانوا دائما ما يقبلون كل دين جديد، وأن علماء الإسكندرية قد قبلوا الإسلام وقت ظهوره لأنهم وجدوا فيه صلاح الناس، وكذلك الحال مع الفلاسفة في بلاد الروم والذين تنصروا بعد ظهور المسيحية (42). إذ عندما وجد الفلاسفة أن الملل كلها تجمع على حشر الأجساد وعلى أن المبدأ الأول والمبادئ الثواني المفارقة هي الله والملائكة، وعلى أن هناك سعادة أخروية وشقاء أخروي، قبلوها لعلمهم أن سعادة الناس لا تتم إلا بالمبادئ النظرية المرموز لها في الملل؛ إذ أن هذه المبادئ هي أساس الفضائل الأخلاقية التي هي قوام الاجتماع البشري. وهذا هو نفسه السبب الذي يجعل الفلاسفة يقبلون المجازات والتخييلات والمثالات التي في الدين، لعلمهم أنها بهدف إقناع العامة وفق الطرق المناسبة لهم بالمبادئ النظرية الضرورية لصلاح مجتمعهم.
لكن إذا كانت الأولوية الأنطولوجية والإبيستيمولوجية والتاريخية هي للفلسفة على الدين، فما هي طبيعة العلاقة بين النبي والفيلسوف عند ابن رشد؟ نستطيع تلمس ملامح هذه العلاقة في الصفحات الأخيرة من (تهافت التهافت)، إذ يقول: “ولذلك أصدق كل قضية هي أن كل نبي حكيم وليس كل حكيم نبي، ولكنهم العلماء الذين قيل فيهم إنهم ورثة الأنبياء (43). فكل نبي حكيم لمعرفته بالمبادئ النظرية الكلية التي بها صلاح الناس وهي الله والملائكة والسعادة والشقاء الأخرويان ؛ وهو نبي لأنه يضع هذه المبادئ للناس في صورة عقائد إيمانية ويرمز لها بمجازات وأمثال ورموز وتخييلات مناسبة للجمهور؛ ولأنه يضع مبادئ الفضائل الخلقية تقليدا لا برهانا، لأن البرهان الوحيد عليها تابع لها وهو ما ينتج عنها من صلاح اجتماعي ومنافع وفضائل أخلاقية. وليس كل حكيم نبي إذ ليس كل الفلاسفة قادرين على استعمال المخيلة في الرمز والإشارة إلى مبادئ الموجودات بما يناسب فهم الجمهور، ولا على استعمال الخطابة في نقل ما تبرهن في العلم اليقيني إلى الجمهور. فهذه هي قدرة النبي وحده. لكن هذا ما يجعلنا نتوصل إلى أن بعض الحكماء أنبياء؛ أي أن
كل الأنبياء حكماء وبعض الحكماء أنبياء. فبما أنه ليس كل الحكماء أنبياء فإن معنى هذا أن بعض الحكماء أنبياء. ومن ثم فإن بعض الحكماء يمكنهم أن يصلوا إلى درجة النبوة، لكن لا إلى النبوة ذاتها. وهؤلاء هم الذين قال عنهم ابن رشد إنهم ورثة الأنبياء. إنهم ورثة الأنبياء في شأن واحد فقط وهو أنه يمكنهم أن يتولوا بعد الأنبياء قيادة مجتمعاتهم نحو الفضيلة الأخلاقية والصلاح الاجتماعي لما لديهم من علم برهاني يقيني، لكن لا باعتبارهم مجرد حكماء، بل باعتبارهم حكماء وورثة للأنبياء في الوقت نفسه. يريد ابن رشد أن تكون الفلسفة هي قوام الشريعة والقيمة عليها والمستمرة في تعليم الجمهور بعد الشريعة وعلى منوالها.
ولذلك فالترتيب الجديد الذي يمكن أن نستخلصه من ابن رشد هو: حكمة قديمة (الكلدانيون ) – ملل صادرة عنها أو متدهورة منها تؤمن بتعدد الألهة – حكمة تامة يقينية برهانية (أرسطو) – ملل التوحيد والشرائع السماوية- عودة الحكمة مرة أخرى لتقود الجمهور بالأساليب المناسبة للجمهور. هذا التصور للترتيب الزمني للفلسفة والدين يتفق مع ما قاله ابن رشد في “تفسير ما بعد الطبيعة ” حول ظهور الفلسفة واختفائها مرات عديدة. لكن المرة الأخيرة هي بعد شريعة الإسلام مع ابن رشد نفسه الذي يمثل آخر التطور التاريخي.
نظرية توينبي في نشأة الأديان العالمية
كمثال على صحة نظريتي الفارابي وابن رشد الحقيقة أن أولوية الفلسفة على الملة والتي رأيناها عند الفارابي وابن رشد، وان كانت تسير عكس الترتيب المعتاد في الدراسات الحديثة للأديان، وعكس ترتيب مراحل التطور التاريخي الذي وجد تعبيرا دقيقا عنه في نظرية كومت في المراحل الثلاث، فإنها تتفق إلى حد كبير مع نظرية توينبي في النشأة التاريخية للأديان وفي العلاقة بين الأديان والفلسفات .
وضع توينبي نظرية كبرى في التطور التاريخي للحضارات يفسر بها نشأة وصعود وسقوط وتدهور الحضارات الإنسانية الكبرى. إذ رصد أربع مراحل تمر بها كل حضارة: الميلاد والصعود أو النمو، ثم الانكسار أو السقوط، وأخيرا الاضمحلال. في مرحلتي الميلاد والصعود يشهد مجتمع الحضارة الناشئة أقلية مبدعة Creative Minority، تنجح في الاستجابة للتحديات التي يجد المجتمع الناشئ نفسه فيها. تتكون هذه الأقلية المبدعة من شرائح كثيرة، منها الحكام وقادة الجيوش والمبدعون في كل مجال بما فيهم المفكرون، أي الفلاسفة.
وفي مرحلة الصعود والازدهار تنجح هذه الأقلية المبدعة في قيادة مجتمعها وفي السيطرة على الطبيعة وفي التصدي للعدوان الخارجي ؛ والفلاسفة ينتمون إلى هذه الأقلية المبدعة، والذين يقيمون رؤى فكرية عقلانية شاملة للعالم وللإنسان في صورة مذاهب فلسفية كبرى تستجيب لاحتياجات هذا المجتمع العقلية والروحية والعلمية (44).
وكانت هذه هي الفلسفات القديمة لحضارات الشرق القديم (45)، ومنها الحضارة الكلدانية، وقد رأينا أن ابن رشد يقول عن الكلدانيين إن العلم قد اكتمل في عصرهم؛ والفلسفة اليونانية ذاتها. تنجح هذه الفلسفات في أن تكون انساقا عقلانية للخاصة وأشباه أديان للعامة. والدليل على ذلك أن الفيثاغورية كانت فلسفة للخاصة، أما جانبها الروحي والأخلاقي فقد كان شبه دين للعامة. وكذلك الحال بالنسبة للأبيقورية والرواقية والأفلاطونية المحدثة، التي كانت فلسفات للخاصة ومحاولات لتأسيس أديان فلسفية في الوقت نفسه، وذلك قبل ظهور وسيادة المسيحية في العالم الهليني. ولم تكن فلسفة أفلاطون تخلو هي الأخرى من طابع روحي ومن عناصر شبه دينية.
أما مرحلة انكسار الحضارة فهي تأتي عندما تفشل الأقلية المبدعة في أن تستجيب للتحديات الجديدة، داخلية وخارجية. ويتمثل التحدي الروحي الجديد في زيادة الحاجة إلى ديانة روحية عالية مناسبة للجمهور. وعندما تفشل الفلسفات القائمة في توفير أساس لهذه الديانة، وتعجز عن أن توفر الغذاء الروحي والأمان الوجودي لجمهور يعاني الأزمات والكوارث، تنتهي هذه الفلسفات وتخلي الساحة للأديان الكبرى (46). وفي مرحلة اضمحلال الحضارة تتحول الأقلية المبدعة إلى أقلية مسيطرة Dominant Minority، تحاول السيطرة على مجتمعها بالقوة وتفرض فلسفاتها التي لم تعد تستجيب للمطالب الروحية المتزايدة للناس، وهذا ما يؤدي إلى مزيد من العداء لهذه الفلسفات (47). ومع زيادة الانفصال والانشقاق بين الأقلية المسيطرة والجمهور الذي تحول إلى بروليتاريا، تظهر أقلية مبدعة أخرى وهم الأنبياء والرسل ومؤسسو الأديان الكبرى، لتوفر للبروليتاريا دينا شاملا عالميا، نظرا لتحول البروليتاريا في المرحلة المتأخرة من الحضارة إلى بروليتاريا عالمية. هذا الدين ينجح بأن يستجيب للمطالب الروحية المتزايدة للناس وبأن يوفر لهم الصبر والسلوان في مرحلة اضمحلال الحضارة وعصر الكوارث والأزمات (48).
ولأن الفلسفات القديمة تحولت إلى رؤى للعالم مفروضة بالقوة على المجتمع في مرحلة الاضمحلال، يحدث بينها وبين الدين الجديد صراع طويل، ينتهي دوما بانتصار الدين عن طريق تبني الدولة العالمية له حفاظا على السلم والأمن والتماسك الاجتماعي. وهذا هو ما حدث في الإمبراطورية الرومانية البيزنطية عندما تم غلق مدارس الفلسفة في القرن السادس، وحدث كذلك في عصر الدولة الإسلامية عندما تمت محاربة الفلسفة والفلاسفة.
ثم تمر الحضارة التي سادت فيها ديانة عالمية بمرحلة بيات شتوي طويل، أو مرحلة تشرنق حول الدين. وهو ما حدث في العصور الوسطى المسيحية والإسلامية معا.
حتى يتم نشوء حضارة جديدة تعيد إحياء الفلسفات القديمة مرة أخرى في عصر نهضة. وهو ما تم في فجر الحضارة الأوربية الحديثة عندما حدث إحياء للأرسطية والأفلاطونية في مواجهة الكنيسة في عصر النهضة.
وعندئذ تظهر حضارة جديدة بفلسفة جديدة مقامة على إحياء الفلسفات القديمة (49). ونلاحظ من هذا الترتيب التاريخي أنه يتفق إلى حد كبير مع رؤية الفارابي وابن رشد للنشأة التاريخية للأديان وللعلاقة بين الفلسفة والدين.
خاتمة
اعتمد الفارابي وابن رشد في إعطائهما الأولوية التاريخية للفلسفة على الملة على نظرية فلسفية، ذات أصول أرسطية وأفلاطونية محدثة في حالة الفارابي، وذات أصول أرسطية خالصة عند ابن رشد. وكان ما يوجههما في ذلك، هو اعتقادهما في أن الحقيقة يتم الوصول إليها بالعقل أولا قبل أن تتحول إلى حقيقة دينية وتنقل إلى الجمهور في خطاب ديني، وأن العقل البشري يجب عليه أولا أن يصل إلى مرحلة من التطور الذهني تتيح له إدراك المبدأ الأول للوجود الدى الفلاسفة بالطبع ) قبل أن تعبر عنه الأديان بالوحي. والحقيقة أن مخالفة هذه النظرية للدراسات الحديثة في الأديان ذات الرؤية التطورية الخطية والتي تعتقد في وقوع الأديان في مرحلة مبكرة من تاريخ البشرية وسابقة على الفلسفة والعلم، تشكك من صحة هذه الدراسات، خاصة وأنها مدعمة ببعض الاكتشافات الحديثة للتقدم العلمي للحضارات القديمة.
قد أثبتنا كيف أنه لا يوجد إجماع على مستوى الدراسات التاريخية على الرؤية التطورية الخطية لتاريخ الأديان ،واستشهدنا على ذلك بتوينبي الذي حمل رؤية مخالفة للعلاقة بين الفلسفة والدين تضع الفلسفة في مرحلة تاريخية سابقة على الأديان، وتنظر إلى بعض الأديان على أنها تمثل التدهور التاريخي لفلسفات قديمة سابقة عليها، وإلى بعضها الآخر على أنه التطور التاريخي لرؤى فلسفية للعالم نقلت من المستوى العالم إلى المستوى العامي الشعبي، وهو ما يمثل لدينا إثباتاً لصحة نظرية الفارابي وابن رشد.
الهوامش
I-August Comte, The Positive Philosophy of August Comte. Translated by Harriet Martineau. Vol.
II. (London: George Bell & Sons, 1896), pp. 309 ff; Vol. III, Passim.
2-James G. Frazer, The Golden Bough. A Study in Magic and Religion. Abridged edition in 1 volume. New York: The Macmillan co., 1925)
3- الفارابي: كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة. قدم له وعلق عليه د. ألبير نصري نادر. دار المشرق، بيروت، الطبعة الثامنة، 2002. ص 46 .
4- الفارابي: كتاب السياسة المدنية، الملقب بمبادئ الموجودات. حققه وقدم له وعلق عليه د. فوزي متري نجار.
دار المشرق ،بيروت. الطبعة الثانية 1993، ص 31 – 2 3 .
5- الفارابي: التنبيه على سبيل السعادة. منشور في ” الرسائل الفلسفية الصغرى “. تحقيق وتقديم أ. د. عبد الأمير الأعسم. دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق 2012، ص306-307.
6- الفارابي: كتاب السياسة المدنية، ص 73.
7- الفارابي: كتاب الحروف. حققه وقدم له وعلق عليه محسن مهدي. دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية 1990 ص 132 .
8-المرجع السابق: ص 131 .
9- الفارابي: كتاب السياسة المدنية، ص74.
10-المرجع السابق: ص 78.
11- المرجع السابق: ص77.
12- حول نظرية الإسكندر الأفروديسي في الاتصال بالعقل الفعال وأثرها في فلاسفة الإسلام، انظر:
Kessler, Eckhard: “Alexander of Aphrodisias and his Doctrine of the Soul”. Early Science and Medicine16(2011).1-93.
-انظر أيضا: محمد المصباحي: ” أبو نصر الفارابي – البحث عن السعادة في تخوم ما بعد الطبيعة “، بحث منشور في كتاب: من المعرفة إلى العقل: بحوث في نظرية العقل عند العرب.
دار الطليعة، بيروت ،1990، ص 31 وما بعدها؛ محمد المصباحي: إشكالية العقل عند ابن رشد. المركز الثقافي العربي، بيروت 1988، ص 26، 33-35، 47، 51، 56 -57 .
13- الفارابي: كتاب السياسة المدنية، ص 79.
14- أرسطوطاليس: في النفس. ترجمة إسحق بن حنين. مع نصوص أخرى تحقيق وتقديم وشرح د. عبد الرحمن بدوي. وكالة المطبوعات، الكويت، ودار القلم، بيروت. الطبعة الثانية 1980. ص72 -75.
-15 أما ما ذكره أرسطو في كتاب ” الحاس والمحسوس ” عن النبي فهو يخص الرؤى والأحلام، وينتمي لملكة المخيلة لا العقل المستفاد. ابن رشد: تلخيص كتاب الحاس والمحسوس لأرسطو، للقاضي أبي الوليد ابن رشد. منشور في:
أرسطوطاليس: في النفس، ص221- 231.
16-الفارابي: كتاب السياسة المدنية، ص 79.
17- المرجع السابق: ص 79 -80.
18- الفارابي: كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، ص112-116.
19-الفارابي: كتاب السياسة المدنية، ص 85 .
20- يقول الفارابي في هذا المعنى :” فلذلك قد يمكن أن تكون أمم فاضلة ومدن فاضلة تختلف مللهم وإن كانوا كلهم يؤمون سعادة واحدة بعينها. فان الملة هي رسوم هذه (السعادة، أو رسوم خيالاتها في النفوس. .. فتحاكى هذه الأشياء لكل طائفة وأمة بالأشياء التي هي أعرف عندهم. وقد يمكن أن يكون الأعرف عند كل واحد منهم غير الأعرف عند الآخر. وأكثر الناس الذين يؤمون السعادة إنما يؤمونها متخيلة لا متصورة …
والذين يؤمون السعادة متصورة ويقبلون المبادئ وهي متصورة هم الحكماء. والذين توجد هذه الأشياء في نفوسهم متخيلة
ويتقبلونها ويؤمونها على أنها كذلك (متخيلة، هم المؤمنون “. (السياسة المدنية ص 85 – 86).
21-الحقيقة أن هذا الرأي للفارابي وان كان يظهر على أنه مبالغة في إعلاء شأن أرسطو، إلا أن نفس هذه الوجهة في النظر إلى أرسطو باعتباره الفيلسوف الذي وضع أسس العلم اليقيني دفعة واحدة، استمرت حية حتى العصر الحديث. ففي أوج عصر التنوير المؤمن بالتقدم والتطور الفكري التراكمي، أعلن كانط في كتابه “نقد العقل الخالص ” أن المنطق ولد كاملا على يد أرسطو، ولم تكن جهود الفلاسفة من بعده سوى التوسيع والتدقيق والتفريع.
– Kant, Critique of Pure Reason. Translated by
Norman Kemp Smith.(London: Macmillan, 1961), B viii.
(22) هذا التحليل هو ما يمكن استنتاجه مما يقوله الفارابي في: السياسة المدنية، ص 80-81.
23- Kalman Bland, Averroes’ The Epistle On The Possibility Of Conjunction By Ibn Rushd, With The Commentary of Moses Narboni (A Critical Edition
and Annotated Translation). PhD Dissertation, Brandeis University, 1972. P. 117.
– 24الفارابي: كتاب الحروف، ص 131.
25 -كان فيلسوف التاريخ توينبي على وعي بهذه الأسبقية، كما سوف يتضح من الجزء الأخير من هذه الدراسة.
26- المرجع السابق: ص 132 .
27-المرجع السابق: ص 133 .
28- المرجع السابق: ص 134 -135 .
29- المرجع السابق: ص154.
30- أسهب ليو شتراوس في دراسة الجانب المستور في أسلوب الفارابي في كتابه الشهير:
Strauss, Leo Persecution and the Art of Writing. (Chicago & London: The University
of Chicago Press, 1952), pp. 9-21.
31-ابن رشد: فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. مع مدخل ومقدمة تحليلية للمشرف على المشروع د. محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى 1997، ص 96، 98، 120، 123-124 .
32- الفارابي: كتاب الحروف، ص 152.
33- الفارابي: كتاب الحروف، ص 154 .
34- والذي عبر عنه ابن خلدون بدقة، عندما تحدث عنها واصفا حالها في ديار الإسلام في فصل من المقدمة بعنوان :
في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها”. ابن خلدون: المقدمة.
نشر خليل شحادة وسهيل زكار. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ،2001، ص707 -713.
35- ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة. تحقيق ونشر موريس بويج. دار المشرق، المطبعة الكاثوليكية، بيروت1967. المجلد الثالث، ص 1688..
36- المرجع السابق: الصفحة نفسها.
37-المرجع السابق: الصفحة نفسها.
38- ابن رشد: الضروري في السياسة. مختصر كتاب السياسة لأفلاطون. نقله عن العبرية إلى العربية د. أحمد شحلان. مقدمة وتحليل وشروح د. محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998، ص87- 88.
39- موسى بن ميمون: دلالة الحائرين. عارضه بأصوله العربية والعبرية د. حسين أتاي. مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، الطبعة الثانية 2008، ص112 .
40- ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة: ص1989-1690.
41- يقول ابن رشد: ” ويجب عليه أن يختار أفضلها في زمانه وإن كانت كلها عنده حقا، وأن يعتقد أن الأفضل ينسخ بما هو أفضل منه “؛ أي أن الأديان كلها عند الفيلسوف حقة ومتساوية القيمة والهدف، ” ولذلك أسلم الحكماء الذين كانوا يعلمون الناس بالإسكندرية لما وصلتهم شريعة الإسلام، وتنصر الحكماء الذين كانوا ببلاد الروم لما وصلتهم شريعة عيسى عليه السلام ….”. ابن رشد: تهافت التهافت. تحقيق موريس بويج.
دار المشرق، بيروت، الطبعة الرابعة 2003، ص 583 .
42- ابن رشد: تهافت التهافت، ص 583-584.
-43 Arnold J. Toynbee, A Study of History. Volume
I. (London: Oxford University Press, 1934).
44- والتي يقال عنها إنها كانت أساس الفلسفة اليونانية. انظر في ذلك: مارتن برنال: أثينا السوداء. الجذور الأفروآسيوية للحضارة الإغريقية. الجزء الأول: تلفيق بلاد الإغريق 1785-1985 .تحرير ومراجعة د. أحمد عتمان. ترجمة د. لطفي عبد الوهاب وآخرون. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة ،1997.
45-Toynbee, A Study of History. Volume V, The Disintegrations of Civilizations. (London: Oxford University Press, 1939), pp. 646ff.
Ibid: pp. 680-683.
Ibid: pp. 545-553.
Ibid: vol. VII, Universal States, Universal
Churches, pp.70, 515-516, 541.