قراءة في كتاب الفارابي ” الألفاظ المستعملة في المنطق “

عبد السلام الشاذلي[(*)] … [“والبراهين ليست تكون عن النطق الخارج لكن عن النطق الداخل وكذلك المقاييس”] الفارابي “الألفاظ المستعملة في المنطق” بتحقيق محسن مهدي، ط2، بيروت 1982، ص108. [النحو منطق عربي والمنطق نحو عقلي، وجل نظر المنطقي في المعاني، وإن كان لا يجوز الإخلال بالألفاظ وجل نظر النحوي في الألفاظ وإن كان لا تسوغ له الإخلال بالمعاني]أبو سليمان السجستاني عن المقابسات للتوحيدي

توطئة:

أ- مثلت قضية الصراع بين الألفاظ والمعاني بالحضارة العربية – الإسلامية في العصر العباسي علامة مهمة من علامات الحوار الثقافي بين الأمم والقوميات المختلفة من عرب وفرس وهنود ويونان، الأمر الذي دفع الجاحظ دفعاً إلى كتابة كتابه المؤسس للبيان العربي “البيان والتبين” ليستقصى معنى البلاغة والبيان عند أفراد من هذه الأمم والقوميات، كما ذهب يؤسس في العديد من مؤلفاته لنظرية المعنى عامة والمعنى الأدبي خاصة، وصارت مقولته الشهيرة: “المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والأعجمي والقروي والبدوي… أما المقول عنده في مجال البيان عموماً والبيان السوى خصوصاً هو “إقامة الفروق وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجوزة السبك”. (الجاحظ الحيوان: ص3، 131).

ولكن ما طبيعة المعاني كما تخيلها الجاحظ المتكلم المعتزلي في القرن الثالث للهجرة؟ وأيهما أسبق؟ المعنى أم اللفظ؟

قضية جوهرية تشغل الفكر العربي – الإسلامي منذ فجر نهضته الأولى، في ذلك العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، حيث أنشغل العلماء وخاصة الفقهاء بقضية خلق القرآن، أقديم هو أم جديد، في معانيه أم في ألفاظه:

لأيهما في هذه التوطئة سوى الإشارة إلى جهد الإنسان في التعبير عن أغراضه من خلال اللغة التي هي كما حددها – فيما بعد – أحد أبرز علمائها المتأثرين بالمنحى العقلاني عند الفارابي في القرن الرابع للهجرة، وهو أبو عثمان ابن جني في كتابه الفلسفي عن خصائص اللغة والتي هي عنده: رموز صوتية يعبر بها كل قوم عن أغراضهم المختلفة أو عن معانيهم المختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة، كأداة محدودة في أشكالها: الصرفية وقوالبها النحوية التي تتوالد عبر صيغ مختلفة في التعبير عن أغراض محدودة ولا نهائية (راجع بن جني الخصائص: تحقيق النجار ط دار الكتب 1952).

والمعاني النفسية أو الذهنية، لا تخرج أو تلفظ من صدور الناس إلى العالم الخارجي إلا عبر حوارات عدة مع الذات أو الآخر أو معهما معاً. يقول الجاحظ في “البيان والتبين”:

[والمعاني القائمة في صدور الناس، المتصورة في أذهانهم، والمتخلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة…وإنما يحي تلك المعاني ذكرهم لها” (الجاحظ: البيان والتبين ط. ط1948، ص75).

لكن “المعنى” – عند الجاحظ – لا يقوم إلا باللفظ وهو الصوت الدال على المعنى حيث أن: [الصوت هو آلة اللفظ، والجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف، ولن تكون حركات اللسان لفظاً ولا كلاماً موزوناً ولا منثوراً إلا بظهور الصوت، ولا نكون الحروف كلاماً إلا بالتقطيع والتأليف (نفسه ص79).

وقد ذهب كثير من المتكلمين (معتزلة أو أشاعرة” على حد سواء فيما بعد الجاحظ والفارابي في الاتجاه ذاته متأثرين بهما (الجاحظ العربي – والفارابي الأعجمي التركي المتعرب).

ويؤكد أبو بكر البلاقلاني على جدلية المعنى القائم في النفس والبناء اللغوي أو الكتابي له بقوله: [يجب أن يعلم أن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس، لكن جعل عليه إمارات (بمعنى علامات) تدل عليه، فتارة تكون قولاً بلسان على حكم أهل ذلك اللسان، وما اصطلحوا عليه، وجرى عرفهم به، وجعل لغة لهم… وقد يدل على الكلام بالنفس بالخطوط المصطلح عليها بين كل أهل خط، فيقوم الخط في الدلالة مقام النطق باللسان”. (الباقلاني: الإنصاف. ص106-107 نقلاً عن طارق النعمان: اللفظ والمعنى بين الأيدولوجيا والتأسيس المعرفي للعلم، القاهرة، دار سينا 1994، ص84).

ولقد ذهب أبو حيان التوحيدي (في القرن الرابع للهجرة) إلى الموقف ذاته تحت تأثير الفكر العقلاني لكل من الجاحظ والفارابي معاً في توثيق الصلة الحميمة بين المنطق والنحو، بين المعاني والألفاظ ويطرق الإشكالية ذاتها في المفارقة القائمة في اللغة بين ألفاظها المحدودة ذات الطابع الحسي الملموس بالسماع ومعاني الإنسان غير المحدودة، وهو ما اعترف به أبو سعيد السيرفي في مناظرته الشهيرة في مجلس الوزير أبي الفتح جعفر بن الفرات مع أبي بشر متى بن يونس، والتي كانت حافزاً قوياً للفارابي لأن يكتب أهم كتبه حول صلة المنطق باللغة عموماً والنحو خصوصاً، لكتابه الذي نمهد لقراءاته الآن في ضوء رؤية عصرنا الفلسفية والمنطقية واللغوية معاً، وينقل السيرفي نصاً عن نحو الخطاب كما فهمه سيبويه والخليل في عصريهما، وحيث يدور النص حول الفرض بين كل من: اللغة والكلام، أو العذرة والأداة، أو الجملة والمقولة في أساليب الخطاب، فيخاطب النحوي البصري المعتزلي السيرافي، المنطقي: متى بن يونس بقوله: [ودع هذا أيضاً، قال قائل (اقرأ سيبويه): “من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم محال، ومنه ما هو مستقيم قبيح، ومنه ما هو محال كذب، ومنه ما خطأ”. فسر هذه الجملة…فقد يأتي الآن أن مركب اللفظ لا يجوز مبسوط العقل، والمعاني مفعولة، ولها اتصال شديد وبساطة تامة، وليس في قوة اللفظ من أي لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به، وينصب عليه سوراً، ولا يدع شيئاً من داخله أن يخرج، ولا شيئاً من خارجه أن يدخل، خوفاً من الاختلاط الجالب للفساد، أن ذلك يخلط الحق بالباطل، ويشبه الباطل بالحق، وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بعد المنطق.. وأنت لو علمت تصرف العلماء والفقهاء في مسائلهم، ووقفت على غورهم في نظرهم ونموصهم في استنباطهم، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشغيفهم للوجوه المحتملة والكتابات المفسدة والجهات الغربية والبعيدة، لحقرت نفسك، وازدريت أصحابك..) (التوحيدي: الإمتاع والمتوانسة) ط الهيئة العامة لقصور الثقافة 2002، ص126-127).

وعلى النهج نفسه بمعنى البلاغي يمضي النحوي عبد القاهر الجرجاني في كتابيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)، فالخطاب – شعرياً كان أم نثرياً، لا يقوم إلا على أساس ترتيب المعاني: [“على طريقة معلومة، وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة، وهذا الحكم – أعني الاختصاص في الترتيب – يقع في الألفاظ مرتباً على المعاني المرتبة في النفس المنتظمة بها على قضية العقل، ولن يتصور في الألفاظ وجوب تقديم وتأخير، وتخصص في ترتيب وتنزيل، وعلى ذلك وضعت المراتب والمنازل في الجمل المركبة، وأقسام الكلام المدونة..].

(عبد القاهرة الجرياني: أسرار البلاغة تحقيق (هـ.ريتر) ط1954. استانبول، ص24).

ويصوع عبد القاهر الجرجاني في “دلائل الإعجاز” صياغة بارعة بعض الذي قرره الفارابي في كتابه “الألفاظ المستعملة في المنطق” حول وحدة وجهي العملة بين الدال والمدلول على أساس العقل وذلك عندما نرى الجرجاني يقرر [من أنه لا يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيباً ونظماً، وأن تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك، فإذا تم لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها، وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق”] (عبد القاهرة الجرجاني: دلائل الإعجاز: قرأه وعلق عليه” محمود محمد شاكر، (2000) الهيئة العامة للكتاب 2000، ص53، 54.

ب- في نص لأبي نصر الفارابي من كتابه “الألفاظ المستعملة في المنطق” حيث نراه يعرض في الفصل الثالث منه والذي يدور حول موضوع: “الألفاظ المركبة وأضعاف المعاني” والذي يتناول فيه قضايا أسياسية في بنية تراكيب اللغات اقتراناً يقوم على نوع من الثنائية التي تعكس بعضاً ثنائيات الفكر البشري المتعددة حيث أن كل مفهوم لابد أن يشمل على تناقض معاً وتتحد معه في الآن نفسه، كما يتجلى لنا هنا التقابل بين البنية المنطقية للغة في مقابل البنية النحوية، ف شكل ما يمثل مقابلة ما بين الجملة/ المقولة.

يقول الفارابي في نص مترابط، وطويل نحاول إيجازه مما أممكنا ذلك فبعد أن ينتهي من حديثه عن أصناف الألفاظ الدالة المفردة، (الحروف وأصنافها المختلفة (الخوالف، الواصلات/ الحواشي/ الروابط)، وإلى تعد في علم التداولية (La pra gamtique) من الكلمات التي لها “مفهوم ذوي محتوى إجرائي” والتي تقوم بدور مهم في عمليات فهم الخطاب وفي توجيه العمليات التأويلية (انظر ص172-173من: التداولية اليوم: أن روبول – جال موشلار ترجمة: سيف الدين دغفوسر، محمد الشيباني، المنظمة للترجمة، بيروت ط1 2003) وهي أقرب إلى مفهوم المقولة منها من مفهوم الجملة ومن هذا الموقف النظري يفتتح الفارابي كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق “قائلاً: [ومن الألفاظ الدالة الألفاظ التي يسميها النحويون الحروف التي وضعت دالة على معان، وهذه الحروف هي أيضاً أصناف كثيرة، غير أن العادة لم يجر من أصحاب علم النحو العربي إلى زماننا هذا بأن يفرد لكل صنف منها اسم يخصه، فينبغي أن نستعمل في تعديد أصنافها الأسامي التي تأدت إلينا عن أهل العلم بالنحو من أهل اللسان اليوناني، فأنهم أفردوا كل صنف منها باسم خاص. فصنف منها يسمونه الخوالف، وصنف منها يسمونه الحواشي، وصنف منها يسمونه الروابط، وهذه الحروف منها ما قد يقرن بالأسماء، ومنها ما قد يقرن بالكلم، ومنها ما قد يقرن بالمركب منهما، وكل حرف من هذه قرن بلفظ فإنه يدل على أن المفهوم من ذلك اللفظ هو بحال في الأحوال”. (الألفاظ المستعملة في المنطق م.ن. ص42).

ويقترب الفارابي في هذا النص من فكرة مقال المقام والأحوال الناتجة من فهم فحوى الخطاب، وذلك نراه بخط لنفسه مسلكاً جديداً في النظر إلى اللغة نظرة مفهومية تأخذ في عين الاعتبار دلالة السياق الناتجة من طريقة المتكلم في إبداع معانيه الخاصة بجمل اللغة العادية الشائعة بين الجمهور فيقول: [لا ينبغي أن يستنكر علينا متى استعملنا كثيراً من الألفاظ المشهورة عند الجمهور دالة على معان غير المعاني التي تدل عليها تلك الألفاظ عند النحويين وعند أهل العلم باللغة التي يتخاطب بها الجمهور، إذ كنا ليس نستعملها بحسب دلالتها عندهم، إلا ما اتفق فيه أن كانت دلالته عند أهل هذه الصناعة بحسب دلالته عند الجمهور”] (الألفاظ ص44).

ثم يذهب في شرح هذه الروابط العقلية (المقولات العقلية) التي تتجاوز في بنيتها ووظائفها مجرد البناء اللغوي القائم على نحو الجملة، إنه يتجه صوب النحو العقلي الكلي للخطاب فيقول: [فالخوالف تعني بها كل حرف معجم أو كل لفظ قائم مقام الاسم متى لم يصرح بالاسم، وذلك مثل حرف الهاء من قولنا (ضربه) والباء من قولنا (ثوبي) والتاء من قولنا (ضربت) و(ضربت) وأشباه ذلك من الحروف المعجمة التي تخلف الاسم وتقوم مقاسة، ومثل قولنا (أنا وأنت وهذا) وذلك ما اشبه ذلك، وهي كلها يسمى الخوالف” (5) والواصلات هي أصناف، فمنها الحروف التي تستعملها للتعريف، مثل ألف ولام التعريف، ومثل قولنا (الذي) واشباهه…(6) الواسطة: هي كل ما قرن باسم ما فيدل على أن المسمى به منسوب إلى آخر، وقد نسبه إليه شيء آخر مثل: (من وعن وإلى وعلى ما أشبه ذلك. (7) الحواشي وهي أصناف كثيرة منها الحروف التي تقرن بالشيء فتدل على أن ذلك الشيء ثابت الوجود، وموثوق بصحته، مثل قولنا: (إن) مشددة النون، ومثال ذلك قولنا: إن الله واحد، وإن العالم متناه. فلذلك ربما سمي وجود الشيء إنيته، ويسمى ذات الشيء إنيته، وكذلك أيضاً جوهر الشيء يسمى إنيته… ومنها ما إذا قرن بالشيء دل على أنه قد نفي مثل: (ليس) و(لا) وليس يخفي علينا أن قولنا يرتبه كثير من أصحاب النحو في الكلم لا في الحروف، وكذلك كثير مما ستعده في الحروف يرتبه كثير من النحويين لا في الحروف لكن إما في الاسم وإما في الكلم، ونحن إنما نرتب هذه الاشياء بحسب الأنفع في الصناعة التي نحن بسبيلها، ومنها إذا قرن بالشيء دل على أنه مشكوك فيه، مثل قولنا: ليت شعري (7/5) ومنها ما إذا قرن بالشيء دل على انه قد حدس من حدساً، مثل قولنا: كان، ويشبه أن يكون، ولعل، وعسى) ص45/46.

ب (2) ويفرق بعض علماء التداولية اليوم ما بين كل من المحتوى المفهومي والمحتوى الإجرائي حيث يشير المحتوى المفهومي إلى أشياء أو خصائص أو أحداث في الكون بخلاف المحتوى الإجرائي الذي لا يعد أسماً أو فعلاً أو صفة بل مجموعة من الروابط، كما هو الأمر في الضمائر وأسماء الإشارة وما يسمى بالروابط التداولية، كأدوات العطف والاستئناف والاستثناء..إلخ حيث يتضح معنى هذه الروابط من سياق الحال، كما نرى في استخدامات (الاستعمالات) المختلفة لحرفي (الواو) و(ما) في اللغة العربية، وهو مال لم ينتبه له (متى بن بونس) عندما سأله السيرافي عن معنى (الواو) واستعمالاتها في اللغة العربية، وقد أعتنى النحاة العرب المتأخرين من أمثال (ابن يعيش وابن الانباري وابن هشام وغيرهم) بالدلالات المختلفة في استخدام هذه الألفاظ الدالة، مثلما أعتنى علماء البلاغة المتأخرين منن أمثال الفخر الرازي في (نهاية الإيجاز، والسكالي في “المفتاح” و”التفتازاني” في شرح المفتاح: “المختصر” و”المطول” والقاضي التنوحي في “نص الغريب” والعلوي في “الطراز” بالوصف الإجرائي الدقيق في استعمالات هذه الروابط، مما يساعد على تفسير النص تفسيراً ينسجم مع أبعاده الموضوعية وآفاقه المعرفية.

(ج) وفي تحليله للألفاظ المركبة من الأسماء والأفعال والحروف، يركز الفارابي إلى صنف يمثل جوهر التركيب في الجملة الاسمية (في النحو التقليدي) وهو المتمثل في أن الأسمين: [قد يركبان تركيباً يصير به أحدهما صفة والآخر موصوفاً: (زيد ذاهب) و(عمرو منطلق) فإن هذين تركبا تركيباً صار به أحدهما صفة والآخر موصوفاً، زيد هو الموصوف ذاهب صفة… والصفة من هذين كل ما صلح أن يقرن به قولنا (هو) مثل: (زيد هو ذاهب)، فإن كل ما جاز أن يردف بعد حرف (هو) وتقدم قبله حرف (هو) فهو صفة… وبعض الناس (يقصد النحويين) الموصوف (المسند إليه) ويسمون الصفة مسنداً، وربما سمي الصفة الخبر، والمخبر به والموصوف المخبر عنه فقولنا: (زيد): هو موصوف ومسند إليه ومخبر عنه، وذاهب هو صفة وخبر ومخبر به ومسند، وقد يتركب هذا التركيب من اسم وكلمة (فعل)، مثل قولنا: (زيد يمشي). وكل واحد من هذه الأقاويل هو مركب من لفظين هي جزاءه أحدهما صفة والآخر موصوف”] (الفارابي الألفاظ المستعملة، ص56/57).

الاقتران اللفظي/ العقلي (النفسي)

ويخلص الفارابي من هذه المقدمات ليصل إلى النتيجة التي تلقفتها منه أجيال عدة من الفقهاء والمتكلمين واللغويين والنجاة، ولاسيما عند عبد القاهر الجرجاني – كما سبق أن المحنا – في كتابيه (إسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) ومن قبله القاضي أبي بكر الباقلاني في “التمهيد” و”الإنصاف” ثم ابن جني في “الخصائص” يقول الفارابي تعقيباً على ثنائية التركيب بين المسند والمسند إليه في قوله: (زيد يمشي): [فكما تقترن هاتان اللفظتان في اللسان كذلك يقترن معنياهما جميعاً في النفس، واقتران معنيهما في النفس يشبه اقتران هاتين اللفظتين في اللسان.. مثال ذلك قولنا: (الشمس طالعة) فإن المعنى المفهوم من الطالع اقترن في النفس إلى المعنى المفهوم من الشمس، تجعل اقتران من معنيين هما أجزاء المقترن، أحدهما معنى الجزاء الذي هو الصفة والآخر معنى الجزء الذي هو الموصوف…وقد جرت العادة في صناعة المنطق أن يسمى المعنى الموصوف والمسند إليه والمخبر عنه موضوعاً، والمعنى المسند والمعني الذي هو الصفة والخبر محمولا..”) (م.ت ص57/58).

القضايا الجوهرية والحية في جدلية الألفاظ والمعاني في كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق:

أ- العلامة والذاكرة والتخييل:

بعد أن بذل الفارابي جهداً كبيراً في التعريف بأصناف المعاني الكلية المفردة (الجنس والنوع. العرض..الخ) وأصناف المعاني الكلية المركبة (الحد: الناقص، والتام، والرسم وأنواعه) انتقل إلى بابي (القسمة) و(التركيب) ثم انتقل إلى أنحاء التعليم وأصنافه وأحوال المتعلم، وهنا يعود مرة أخرى على موضوع المنطق والنحو وموضوع اللفظ والمعنى.

ففي البند (42) من الفصل الثامن (أنحاء التعليم) فإنه كان يرى أن [لفظ الشيء وحده وأجزاء حده ورسمه وخاصته وعرضه وشبيه وجزئياته وكلياته، فإنها تنفع في جودة الفهم وفي حفظ الشيء”) (م.ن ص88).

جهات استعمال اللفظ وحده وأجزاء حده (=التعريف) تستعمل على جهات ثلاث: إحداها: أن نأخذ علامات للشيء، فنكون بأنفسها مخيلة، فنكون بحيث إذا حضرت الذهن حضر معها الشيء الذي جعلت هذه علامات له، فلذلك تكون مذكرة للشيء ومنبهة عليه، فتعين على تخيل الشيء وعلى حفظه، وأمر شبيهه أيضاً مبين. فإن الشيء متى يخيل شبيه تسهل الشيء نفسه، من قبل أن خيال الشيء في النفس على مثال خيال شبيهه، والشيئان قد يشتبهان أن مشتركاً في أمر واحد يؤخذ فيهما جميعاً معاً، ويشتبهان بأن يتناسبا نسباً متشابهة، مثال ذلك أن نسبة الربان إلى المركب، كنسبة قائد الجيش إلى الجيش، وكنسبة مدير المدينة إلى المدينة، فقائد الجيش ومدير المدينة والربان يتشابهون بتشابه نسبهم) [الفارابي والألفاظ م.س. ص88).

ويلخص الفارابي – هنا – ما قاله أرسطوطاليس في كتاب “العبارة” كما جاء على لسان الفارابي في شرحه لهذا الكتاب [وأرسطوطاليس لم يذكرها هنا نسبة المعقولات إلى الموجودات من خارج النفس والمعقولات التي قالوا أنها دالة، فبين أن دلالتها على المحسوسات ليست على مثال دلالة الألفاظ على المعقولات، بل إن كانت دالة فإنما هي معرفة ما هو المحسوس أو غير ذلك من أنحاء التعاريف، وأما الألفاظ فإنها دالة على أنها علامات مشتركة، إذا سمعت خطر ببال الإنسان بالفعل الشيء الذي جعل اللفظ علامة له، وليس لها من الدلالة أكثر من ذلك، وذلك شبيه بسائر العلامات التي يجعلها الإنسان لتذكره ما يحتاج إلى أن يذكره، فليس معنى دلالة الألفاظ شيئاً أكثر من ذلك، وكذلك الخطوط ليس دلالتها على اللفظ أكثر من ذلك، وتعريف المعقولات التي من خارج ليس هو هذه الدلالة، فليس ينبغي أن يقرن إلى دلالة الألفاظ على المعاني، وأراد أن يعرفنا وجه دلالة الألفاظ على المعقولات التي في النفس وأنها شبيه بدلالة الخطوط على الألفاظ ثم قال: “فكما أن الكتاب ليس هو واحد بعينه للجميع كذلك ليس ما يخرج بالصوت واحداً بعينه لهم”، أراد بهذا القول تعريف أمر الألفاظ، وإن هذه الدلالة لها كذى من دلالة، فإن من أحوالها أحوالاً، إذا أخذت بها دلت علي خدع وضلالات وغموض ودلالات مغلطة واحوالا آخر إذا أخذت الألفاظ بها كانت أجود إبانة بحسب موضع موصع. فهذا هو ضرب من النظر في الألفاظ في كتاب السوفسطائية والخطابة والشعر وكذلك مقدار ما ينظر فيه من الألفاظ في الجدل وفي كتاب البرهان..”] (الفارابي: شرح كتاب ارسطوطاليس في العبارة. عني بنشره وقدم له: ولهم كوتش اليسوعي وستانلي ملر واليسوعي ط2 دار المشرق، بيروت 1971، ص25، وقارن د. سحبان خليفات. ص267 ج2 من كتابه: منهج التحليل اللغوي – المنطقي في الفكر العربي الإسلامي (النظرية والتطبيق) منشورات الجامعة الأردنية عمان 2004].

والجهة الثانية من استعمالات الألفاظ هو استبدال بعضها من بعض [وهذا النحو يسمى إبدال الأعرف واقتضاب الأعرف، وكذلك يبدل اللفظ المفرد باللفظ المركب، وتبديل اللفظ المفرد باللفظ المركب يسمى شرح الاسم وتحليل الاسم إلى القول الشارح له، وإبدال الحد كان اسم الشيء يسمى تحليل الاسم إلى الحد…وهذا يسمى تحليل أجزاء الحد.. كما لو أخذنا بدل الحائط اللبن (بكسر الباء) أو الطبق والآجر التي عنها تركب الحائط، والحائط هو جملة ذلك الشيء من غير أن يحضر في الذهن ما ينطوي عليه تلك الجملة من الأجزاء.. وقوم يسمون هذه الإبدالات الثلاثة المتشابهه القسمة وآخرون يسمونها التحليل”) (الألفاظ المستعملة م.ن. ص89/90).

والنحو الثالث من هذه الإبدالات استخدام اللفظ، هو [إبدال هذه الأشياء كان الشيء نفسه، فإنه ربما عسر تصور الشيء فينبغي فيه أن يؤخذ لفظه يدل خيال ذلك الشيء، وكذلك متى كان نحيل حد الشيء أو أجزاء حده أيسر على المتعلم من تخيل الشيء نفسه، أبدل حده وأجزاء حده بدل الشيء نفسه، وكذلك رسمه وخاصة وعرضه] (م.ن.ص91).

وينتقل الفارابي بعد استقصاء طرائق التعليم في مسمه ومقابلة واستقراء إلى الحديث عن جميع الجهات والأمور التي بها ينقاد الذهن إلى أي شيء والوقوف على أصناف انقيادات الذهن كمها ونوعها فيتناول أنواع الخطابات: الشعرية والخطابية والمغالطية والجدلية والبرهانية، أما القياس فهو عنده من الأمور العامة المطلقة التي تسوق الذهن إلى الانقياد المطلق وعنده أن [المقصود الأعظم من صناعة المنطق هو الوقوف على البراهين وسائر أصناف المقاييس..” (م.ن ص96/100).

وهو كثيراً ما يؤكد على أنه تطرق إلى معالجة هذه الموضوعات في الكتاب الذي قبل كتابه هذا وهو كتاب ” التنبيه على سبيل السعادة”، وهو كتاب لم ينل حظاً وافرا في دراسة كتب الفارابي المنطقية نظراً – كما يرى الدكتور محسن مهدي – لعنوانه الذي توحي بأنه كتاب في الأخلاق (راجع ص24) في مقدمة المحقق لكتاب الألفاظ وقارن قراءة د. سحبان خليفات المضادة لرأي مهدي في مقدمة تحقيقه للرسالة: ط1 عمان 1987 منشورات الجامعة الأردنية].

اللغة والفكر عند الفارابي:

1- وفي فقرة (56) من كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق والتي تدول حول (القياس) وهو أطول فقرات الكتاب وأعقدها، يؤكد الفارابي على أسبقية الفكر (المعاني) على الألفاظ و[(المقاييس بالجملة هي أشياء ترتب في الذهن ترتيباً ما متى رتبت ذلك الترتيب أشرف بها الذهن لا محالة على شيء آخر، قد كان يجهله من قبل فيعلمه الآن، ويحصل حينئذ للذهن انقياد لما اشرف عليه أنه قد علمه، وبين أن الأشياء التي ترتب فيشرف بها الذهن على شيء كان يجهله قبل ذلك فيعلمه ليست هي ألفاظاً ترتب، إذا كان ما شرف به الذهن كان يجهله قبل ذلك فيعلمه ليس هي ألفاظاً ترتب، إذا كان ما شرف به الذهن بهذا الترتيب هو ترتيب أِشياء في الذهن، والألفاظ إنما ترتب على اللسان فقط..” (م.ن.ص100)، ثم تراه يسوى بين دلالات الألفاظ، ودلالات الإشارة [وإذا كان قد تستعمل الإشارات التصفيق وأشباه ذلك دالة على المعاني المعقولة، فلا فرق بين أن يقال في التي ترتب إنها معان مقرونة بالألفاظ الدالة عليها وبين أن يقال إنها معان معقولة مقرونة بالخطوط الدالة عليها، أو بالإشارات الدالة عليها، فإن كانت الألفاظ الدالة تصير متى رتبت مقاييس، لزم أن يكون ترتيب الإشارات أيضاً مقاييس لذلك السبب بعينه، أو تكون الخطوط كذلك، وكل ذلك ضحكه وهزؤ، وقد تبين هذا أيضاً بأشياء آخر كثيرة صحيحة، إذ كان كثير منها يغمض على السامعين الذين هم في هذه المرتبة من الصنعة. وبعد هذا فما حاجاتنا إلى التطويل في ذلك وأرسطوطاليس نسه يقول في كتاب البرهان هذا القول: والبراهين ليست تكون على النطق الخارج لكن عن النطق الداخل، وكذلك المقاييس، ولما كانت عادة أرسطوطاليس في كثير مما يعرفه في أوائل هذه الصناعة أن يستعمل فيه التعليم الذي يسمى إبدال الألفاظ، غلط لذلك جل من تكلف تفسير كتابه، فظنوا أن المقاييس وأجزاءها هي الألفاظ التي أبدلها أرسطوطاليس في التعليم مكان المعقولات…فقد تبين مما قيل أن المقاييس هي معقولات ترتب في النفس متى ترتبت ذلك الترتيب أشرف الذهن بها على شيء آخر قد كان بجهله من قبل فيعلمه الآن. (الألفاظ م.ن ص101-102).

(2) ثم يقارن الفارابي بين صناعتي المنطق والنحو، فإذا كان المنطق آلة [يقوي بها الإنسان على معرفة الموجودات، كما أن صناعة النحو تشتمل على الألفاظ، والألفاظ أحد الموجودات التي يمكن أن تعقل، لكن صناعة النحو ليست تنظر فيها على أنها أحد الأشياء المعقولة، وإلا فقد كانت صناعة النحو وبالجملة صناعة علم اللغة تشتمل على المعاني المعقولة وليست كذلك، والألفاظ الدالة وإن كانت أحد الموجودات التي يمكن أن تفعل، فإن صناعة النحو ليست تعرفها على أنها معان معقولة، لكن على أنها دلالة على المعاني المعقولة، فنأخذها على أنها خارجة عن المعقولات أصلاً، إذ كان ليس تنظر فيها من هذه الجهة، فكذلك صناعة المنطق وإن كان ما تشتمل عليها هي أحد الموجودات فليست ننظر فيها على أنها أحد الموجودات، لكن على أنها آلة تتوصل بها على معرفة الموجودات، فنأخذها كأنها شيء آخر خارجة عن الموجودات، وعلى أنها آلة لمعرفة الموجودات، فلذلك ليس ينبغي أن يعتقد في هذه الصناعة أنها جزء من صناعة الفلسفة، ولكنها صناعة “قائمة” بنفسها وليست جزءا لصناعة أخرى، ولا أنها آلة وجزء منها”] (الألفاظ المستخدمة في المنطق ص107-108).

ولاشك أن هذا النص الذي اعترف الفارابي نفسه باطالته في قوله السالف الذكر – وبعد ذلك فما حجتنا إلى التطويل في ذلك – معتمداً على مقولة أرسطو في كتاب “البرهان”، [والبراهين ليست تكون عن النطق الخارج لكن عن النطق الداخل وكذلك المقاييس]، لاشك أن هذا النص المطول، يثير العديد من الإشكاليات والتساؤلات التي ترغب في أن ننهي بها بحثنا هذا:

ويستنبط بعض المحليين لهذا النص الخلاصة الآتية: [تهدف الأدلة السابقة إلى أمر واحد وهو إثبات وجود المعاني المعقولة في الذهن مستقلة عن الألفاظ، وأن دلالة الألفاظ عليها مسألة عرضية… إن انهيار فرضية استقلال المعنى في النفس عن الألفاظ، واختصاص المنطق بدراسة المعنى والنحو بالألفاظ، من حيث أن المعاني مستقلة في وجودها عن الألفاظ، مثلما أن الألفاظ مستقلة في وجودها عن المعنى، يعني دعوى استقلال المنطق عن اللغة والنحو، مما يردنا إلى نظرية السيرافي، إذ ليس في وسعنا أن نثبت للمعاني وجوداً معرفياً أو انطولوجيا مستقلاً عن اللغة بألفاظها، وتراكيبها وقواعدها ونظمها. هنا نلمس (السر) المختص وراء هذا الصراع وهذه الحجج التي لا تكاد تنتهي. إن فصل اللغة عن المعاني يفسح المجال أمام الفارابي لتقرير ميتافيزيقا أرسطو، ولترسيخ هذه الميتافيزيقا خصص كتابه “الحروف”، بينما يسعى الفريق الآخر، كالسيرافي إلى الكشف عن ارتباط هذه الميتافيزيقا المضادة للإسلام بقواعد اللغة العربية ونحوها المنطقي ومن ثم إبطال موضوعيتها المدعاة، وقد تنبه د. علي سامي النشار إلى أن غرض “الفلسفة الإسلامية في إقامة انتولوجيا وابستمولوجيا أو ميتافيزيقا إسلامية إنما هو راجع إلى دواعي لغوية. لقد بشرت في كتاب “مناهج البحث عند مفكري الإسلام” أن المنطق اليوناني إنما هو ناشئ عن عبقرية اللغة اليونانية، وأنه عن هذا المنطلق نشأت الميتافيزيقا اليونانية، ولذلك كان من المتعذر نجاحه في العالم الإسلامي، إذ لابد من منطق خاص ينبثق عن عبقرية اللغة العربية، وتتكون أو لا تتكون ميتافيزيقا أو انتولوجيا أو ابستمولوجيا إسلامية، وذكرت أن فشل الفلسفة الميتافيزيقية وهي فرع من المنطق الأرسطي، إنما هو ناتج عن تعذر التوفيق بين منطق اليونان والنحو العربي. وقلت أن الصرخة التي أعلنت (من تمنطق تزندق) إنما كانت صرخة أو صيحة حضارة، والفلسفة في نهاية الأمر إنما هي عنصرية لغوية” ومرجعه: على سامي النشار: نظرية جديدة في المنحى الشخصي لحياة الفارابي وفكره “في” الفارابي والحضارة الإنسانية (واقع مهرجان الفارابي) بغداد، مطابع الحرية 1976، ص426)]: خليفات: منهج التحليل اللغوي المنطقي في الفكر العربي الإسلامي م.ن. ط2. ص570-571.

(4) وللكشف عن الأبعاد الإستراتيجية للصراع بين النحو العربي والمنطق اليوناني الذي نشب منذ القرن الرابع للهجرة (العاشر الميلادي) عقب مناظرة السيرافي النحوي ومتى بن يونس المنطقي نحيل القارئ الكريم إلى دراسة معمقة قام بها أحد الباحثين الجاديين في فلسفة العصور الوسطى وهو كتاب: الآن دي ليبيرا: فلسفة العصور الوسطى والذي ترجمه د. مصطفى ماهر ونشر بالقاهرة عن دار شرقيات في عام 1999 والذي ينص على ما يلي:

أن التعارض بين المنطق والنحو الموظف دارمياً في المناقشة بين عالمين، أحدهما مسيحي والآخر مسلم، يلوح كإخراج مسرحي للتناقض الكامن بين ما أسرع المسلمون بتسميته “العلوم الخارجية” (الفلسفة بما فيها المنطق بطبيعة الحال) من ناحية، ومن ناحية ثانية “علوم التراث” (بخاصة النحو” وهي التي تخضع على نحو ما للقرآن، فتيسر تفسيره، في حين لا تفيد العلوم الأخرى بشيء في تفسير القرآن، وهذه هي الرابطة الخاصة القائمة بين نحو اللغة العربية والقرآن.. وليس من قبيل المصادفة في مناظرة (بغداد) أن يكون ممثل المنطق مسيحياً، فيكون على وجه من الأوجه “خارجياً”.

ربما كانت هذه المناظرة التي صب فيها النحو السيرافي هجومه على المنطقي (متى) في حقيقة أمرها صراعاً خفياً بين تصورين متعارضين للحياة الفلسفية، صراعاً غير مباشر وقف فيه: يحيي بن عدل والتوحيدي في جانب و(متى) في الجانب الآخر، صراعاً جدد بعد مر القرون ذلك الصراع القديم الذي وقف فيه سقراط وأفلاطون في جانب والسفسطائيون في الجانب الآخر.

على الرغم من المسار الساخر الذي سلكته المناظرة، إلا أن الحجج التي قدمها السيرافي النحوي تستحق منا الاهتمام وذلك على نحو ما نرى فيما يلي:

إن المنطق لن يستطيع أن يثبت مضمون العقيدة الدينية التسطورية، فأين هو (البرهان المنطقي على أن الله ثالث ثلاثة، وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد.

إذا كان المنطق عاجزاً عن إثبات عقيدة التثليت، فإن متى نفسه كان عاجزاً عن أن يخلص من فخاخ اللغة فهو يسلم بصحة الجملتين الآتيتين: “زيد أفضل الإخوة” و”زيد أفضل إخوته”، فيرد عليه السيرافي بأن الجملة الأولى هي الوحيدة الصحيحة…ومسألة “أفضل الإخوة”… حكاية طويلة بين النحويين العرب، وهي مسألة لها مصادرها اليونانية المعروفة، وهي منطقية بقدر ما هي لغوية … وجدير بالذكر أن تعليل السيرافي أدخله بينية (A.Pimet) وسيمون (Th. Simon) بصورة عملية في “اختبار الإخوة الثلاثة” (Le restdestrois frees) المتضمن في “قياس تطور الذكاء عند الأطفال” باريس 1917 …. والحقيقة أن المنطقي متى كما وصفه السيرافي كان في وضع الطفل الذي يجرى عليه اختبار الذكاء ويسلم بصحة الجملة اللابديهية:

– “لدي ثلاثة أخوة: بول وإرنست. وأنا” وهذا هوجان بياجيه في كتابه “الحكم والاستدلال لدى الأطفال”. الباب الثاني والثالث 1971، ص56=111.

J. Piage: Le Jugement et raisonnement chezl` enfant, chap. II, III Neuchatal. 1971 p56-111.

يشرح المشكلة المنطقية التي يدور حولها النقاش شرحاً واضحاً:

الطفل الذي لا يدرك لابديهية الجملة طفل عاجز عن أن يميز إدراكياً وجهة نظر الإنماء (العلاقة بين الفرد ومجموعة الأخوة التي ينتمي إليها) ووجه نظر العلاقة (علاقة الأفراد في المجموعة ذاتها) بعبارة أخرى: هو لا يميز بين (أنا أخ) أو (نحن ثلاثة أخوة) و(أنا أخو بول) (أو: لي أخوان” السيرافي ينسب إلى متى مسلك الطفل، يضع إصبعه في كثير أو قليل من الوعي على عيب هيكلي في منطق أرسطو، أو على الأقل منطق أرسطو كما فهمه أكثر المناطقة المحدثين ومنهم برتراند رسل (B. Rassell) إلا وهو: الاتجاه العتيد إلى إبدال منطق العلاقات بمنطق أبسط هو منطق الانتماءات والتضمينات، إن متى كالأطفال (في رأي بياجيه) ومن حيث هو أرسطوطاليس في رأي رسل يحول أحكام العلاقة إلى أحكام ملازمة “انتماء أو تضمين”.

أنظر في هذا: ص118-119 أن: دي ليبيرا (الآن): فلسفة العصور الوسطى ترجمة. مصطفى ماهر، دار شرقيات للنشر، القاهرة ط1 1999.

لا أدري لماذا حذف صاحب الجهد المتميز في دراسة قضية العلاقة بين النحو والمنطق في التراث العربي – الإسلامي، د. خلفيات، فقرة مهمة، ولكنها فقرة كاشفة عن موقفين متعارضين في النظر إلى اللغة والمنطق وهي قول الفارابي المحاكي لصوت أرسطو وهذه الفقرة كما في النص الوارد في ص102 من كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق تقول [فإذا كانت الألفاظ الدالة تصير متى رتبت مقاييس، لزم أن يكون ترتيب الإشارات أيضاً مقاييس لذلك السبب بعينيه، أو تكون الخطوط كذلك. وكل ذلك ضحكة وهزؤ، وقد تبين هذا أيضاً بأشياء أخرى كثيرة صحيحة يقينية غير أن الموضع لا يحتملها إذ كان كثير منها يغمض على السامعين الذين هم في هذه الرتبة من الصنعة) ص 102 الألفاظ وقارن ص5861- من د. سحبان خليفات: منهج التحليل اللغوي – المنطقي.

وقد يكون حذفه وهما بأنه نص مقحم من أثر الترميم العنيف الذي قام به محقق النص، ولربما كانت القراءة اللاتاريخية للنص هي التي أوقعت الباحث الأردني الجاد إلى هذا المزلق، وأظن ظناً إن هذه الفقرة لو قرأت في ضوء نص مواز لها في كتاب الفارابي “شرح كتاب العبارة” – والذي سبقت الإشارة إليه – حول اختلاف إستراتيجية التأويل قديماً عند كل من أفلاطون والسوفسطائيين وأرسطوطاليس الذي قال في كتابه العبارة: [فكما أن الكتاب ليس هو واحد بعينه للجميع، كذلك ليس ما يخرج بالصوت واحداً بعينه لهم. أراد (هذا تفسير الفارابي) بهذا القول تعريف أمر الألفاظ، وإن هذه الدلالة لها كذى من الدلالة، فإن من أحوالها أحوالاً، إذا أخذت بها، دلت على خدع وضلالات وغموض ودلالات مغلطة (اقرأ مضحكة..) وأحوالاً آخر إذا أخذت الألفاظ بها كانت أجود أبانة بحسب موضوع موضع، فهذا هو ضرب من النظر في الألفاظ في كتاب السوفسطائية والخطابية والشعر، وكذلك مقدار ما ينظر فيه من الألفاظ في الجل وفي كتاب البرهان”] الفارابي: شرح كتاب أرسطوطاليس في العبارة.، م.س. ص25.

أن استراتيجيات التأويل للمناظرة بين المنطق اليوناني والنحو العربي في ضوء السياق الحضاري الذي عاشت فيه قبائل وشعوب وأمم مختلفة، كانت كل منها تحاول أن تنصهر في بوتقة حضارية واحدة تشمل العربي والفارسي والهندي، الإسلامي والمسيحي واليهودي والبوذي، حيث كان الجميع يسعى إلى خلق نظرية فكرية (أيدولوجية) تعلو على الاختلافات أو تقننها موضوعياً: سياسياً وثقافياً، عن طريق المنطق تارة وعن طريق قوة الخطاب أو خطاب القوة تارة أخرى، ومن هنا تكمن أهمية إعادة التراث الفلسفي والمنطقي لشعوب الشرق في العصر الوسيط، لعله بضوء ولو بصيصاً من ضوء خافت على حائر يتطلع لمستقبل إنساني يبعث أفضل بقايا الماضي في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية.

وإذا كان المنطق اليوناني كان متصلاً بمباحث الماورائيات، فإن البحث فيما وراء اللغة، وما وراء الطبيعة ما هو إلا حلم بحل لغز ما وراء الطبيعة الذي كان يسعى له كل من السيرافي ومتى كممثلين لأيدولوجيتين متباينين في نظرتها للكون والوجود الذي ظل خافياً. أن بناء الجمل اللغوية أو المقولة المنطقية في الفكر العربي لأمر يقوم على تجاهل الزمنية المحدودة في سبيل السعي وراء الأبدي والسرمدي وهو ما جسدته السرديات العربية الشعبية ولاسيما في (ألف ليلة وليلة)، لقد حظيت باهتمام ودراسة محسن مهدي مثلما حظيت منه فلسفة ابن خلدون ومنطقة الحضاري في العمران.

ولكن يظل الفارق ما بين منطق “الشعريات عموماً: النثر الفني بكل أشكاله والشعر بالمعنى المحدد بالإتباع الخاص به قائماً، مثلما كان الفرق بين الجدل الخطابي (الإقناعي) والإبداع الشعري القائم على ملكة الخيال الفطرية، وذلك على النحو الذي تمثله أحد كبار شعراء العربية في العصر العباسي وهو أبو الوليد البحتري في جدله مع أنصار شاعر الاستعارات الغربية القائمة على جدل فني مبني على ما كان يسميه أبو تمام (تضافر الأضداد) لكي يجعل بالاستعارة اللامرئ مرئياً، وذلك خلافاً للبحتري وحد الشعراء العرب جميعاً شاعر الفطرة البدوية – الصحراوية: أمرئ القيس ولقد ترجمت أبيات البحتري هذا الجدل الفكري الذي ساد الثقافة العربية في العصر العباسي في أبياته الشهيرة:

“كلفتمونا حدود منطقكم

فلم يكن ذو الفروح بلهج بالمن

والشعر لمح تكفي إشارته

والشعر يغني عن صدقه كذبه

طق ما نوعه وما سببه

وليس الهذر ولت خطبه”

(راجع ديوان البحتري. دار المعارف. سلسلة الذخائر ط5، 1971).

لكن الفارابي الذي عاش جنباً إلى جنب مع شاعر العربية الأكبر أبي الطبيب المتبني (الشاعر الفيلسوف) – على حد وصف النقاد العرب القدامى له ولأبي تمام بأنهما حكيمان – وفي صحبتها لفيلسوف اللغة العربية ابن جني، في كنف أمير حلب: سيف الدولة الحمداني، قد ترك أثراً دامغاً، لا على نظرية الشعر والتخييل عند العرب بل على الإبداع الشعري والأدبي عامة كما تمثلت في عبقريتي: المتبني والمعري معاً، كما كانت لتأملاته الفلسفية حول طبيعة الدولة والسلطة في كتابه، آراء أهل المدينة الفاضلة”، وحول طبيعة عمل المخيلة البشرية الأثر البالغ في ظهور عبقرتين في المغرب العربي في القرنين السادس والسابع الهجري: وهما: عبقرية ابن خلدون التي تجلت في إبداعه عن طبيعة العمران البشري: قيامه وانحلاله عبر دورات زمانية متوالية والثانية عبقرية الناقد اللغوي الكبير: حازم القرطاجني في عمله النقدي المبدع “منهاج البلغاء وسراج الأدباء” الذي استوحى من تأملات الفارابي وابن سينا ملامح نظرية أدبية تتجاوز نطاق المعارف الأبية للقرون الوسطى لنلتقي مع بواكير النظريات الأدبية الحديثة.

[(*)] باحث أكاديمي، وناقد أدبي (ج.م.ع).