النطق وهيئاته في نظرية الموسيقى عند الفارابي
بقلم: سالم العيادي باحث من تونس كيف أمكن للفارابي استنباط نسق العلم النظري بالموسيقى دون أن يتجاوز أنطولوجيا أو معياريا الوجود العملي للنغم والألحان؟ يمثل هذا السؤال الأفق الإشكالي الذي يتنرل في فضائه موضوع هذا المقال. وهو أفق إشكالي لاعتبارين أساسيين. أما الاعتبار الأول فتاريخي يتعلق بوضعية المبحث الموسيقي كما تأدي إلى الفارابي. وأما الاعتبار الثاني فنظري يتعلق بدلالة العلم النظري من ناحية وبطبيعة الموضوع العملي من ناحية وبطبيعة الموضوع العملي من ناحية أخرى.
فما تأدي إلى الفارابي من بحوث في الموسيقى النظرية لم يكن خلوا من نقص وإخلال وغموض(1). كما أن الحدث المعاصرين له لم يتموا القول في الموسيقى إذ لم تكن لديهم لا مهارة أهل الصناعة العملية وقوة إحساسهم ولا علم القدماء من أهل التعاليم(2). ولعل هذا النقص في بحوث القدماء وفي رسائل الحدث راجع بالأساس إلى ما اعترى نظرية الموسيقى من أشكال الرد الميتافيزيقي (فيثاغورس/ أفلاطون) أو اللاهوتي (إخوان الصفاء) أو الوجداني (المتصوفة/ الغزالي مثالا) التي أدت إلى تجاوز الموسيقى كواقعة إنشائية إنسانية محضة. كما أن تسرب الفرضيات الميتا – إنسانية (فرضية موسيقى السماء، فرضية التناغم كمبدأ أنطولوجي كوني..) أدى إلى النظر في الموسيقى كإلهام ملغز أو مبهم يقتضي ظهوره فطرة إلهية فائقة يعسر تعقلها من ناحية كما يعسر قولها تعليميا من ناحية أخرى. فكيف أمكن للفارابي التخلص من أشكال الرد تلك ومن هذه الفرضيات؟ أي كيف أمكن له صياغة نظرية في الموسيقى الإنسانية داخل حدود ما هو إنساني صرف؟
ولعل التساؤل عن شروط هذا الإمكان يزداد إحراجا متى استحضرنا دلالة العلم النظري وطبيعة الموضوع العملي. فالعلم النظري معرفة برهانية تكشف عن العلل وعن الأعراض الذاتية للشيء الذي يكون وجوده ضروريا لا يجوز غيره(3). ومعنى ذلك أن برهانية القول العلمي النظري مشروطة بالطابع الضروري لوجود الموضوع. ولما كان وجود الموضوعات العملية (الفكرية الإرادية أو المهنية الصناعية) وجودا ممكنا أو جائزا فإن قولها قولا عمليا يبدو إذن أمرا ممتنعا.
فكيف أمكن للفارابي قول الموجود الموسيقي قولا عمليا والحال أنه موجود ممكن يظهر في حدود «ما لنا فعله»(4)؟ إن هذا المشروع الإشكالي الذي يُعلن عنه هذا السؤال، مبدأ موجه لنظرية الموسيقى عند الفارابي في جميع محاورها ومستوياتها. وهو الذي يميزها – لأجل ذلك – عن الحل الفيثاغوري من ناحية وعن الحل الأرستوكساني من ناحية أخرى. فقد اقترن التأسيس لعلم النظري في الفيثاغورية بتجاوز الوجود العملي للنغم نحو موسيقى سماوية لا محسوسة (أو هي محسوسة لمن له فطرة إلهية كالتي تُنسب إلى فيثاغورس). أما الوقوف عند حدود الوجود الإنشائي للنغم والألحان فقد اقترن عند أرستوكسان بامتناع التأسيس للعلم النظري بها، من جهة ما يكون العلم النظري معرفة برهانية تستنبط الأعراض الذاتية واللواحق الضرورية.
وإننا لنذهب إلى أن استناط العلم النظري بالنغم والألحان من حيث هي صناعة إنشائية لم يكن ممكنا إلا على أساس مفهوم النطق الذي يُعرفُ به الفارابي هيئات صناعة الموسيقى العملية والنظرية من ناحية(5). وعلى أساس العلاقة المعرفية التكاملية التي يقيمها بين الموسيقى العملية والموسيقى النظرية من ناحية أخرى(6). ونذهب كذلك إلى أن إنجاز هذه المهمة اقتضى عند الفارابي الإقرار بوجود «ما ليس لنا فعله» (الضروري) داخل «ما لنا فعله» (الممكن) من النغم والألحان. فما دلالة النطق؟ وفيم يتمثل هذا الذي «ليس لنا فعله» في النغم والألحان؟
دلالة مفهوم النطق ودوره في التأسيس لصناعة الموسيقى النظرية:
يحيل مفهوم النطق – كما يعرفه الفصل الثاني من كتاب (الإحصاء)(7) إلى ثلاثة معان متكاملة هي: المعقولات (الفكر) والأقاويل التي بها تكون العبارة عن المعقولات (اللغة) والقوة التي بها يتميز الإنسان والتي بها يكون التمييز بين الجميل والقبيح من الأفعال (العقل).
وإذا كان مفهوم النطق يثير ما يثيره مفهوم العقل من مشكلات معرفية وأنطولوجية وسيكولوجية وقيمية – وذلك لما بين المفهومين من ترادف دلالي وتداولي في الاصطلاح الفلسفي العربي(8) – فإن لمفهوم النطق – مع ذلك ودونه – قوة إجرائية وثقلا مذهبيا قد يحجبهما المعنى المتداول الذي يقع عليه القارئ للنصوص الفارابية وقوعا مباشرا أو قد يختفيا متى رددنا دلالة النطق إلى دلالة العقل ردا تاما واختزلناها فيها. ولهذا السبب سنعمد إلى تحليل مفهوم النطق بعيدا عن معناه المباشر – دون استبعاده – وبمعزل عن نظرية العقل – دون إغفائها.
يقول الفارابي: «كل صناعة فهي هيئة تنطق»(9)، ويقول: «وأما الصنائع النظرية فإن معارفها كلها ينبغي أن تكون بحيث يُنطق عنها»(10). وهو يقسم صناعة الموسيقى العملية إلى هيأتين: هيئة الصيغة وهي هيئة تنطق فاعلة عن تصور صادق توجد الألحان مصوغة، وهيئة الأداء وهي هيئة تنطق فاعلة عن تخيل صادق توجد الألحان المصوغة محسوسة للسامعين(11). ويعرف الفارابي صناعة الموسيقى النظرية قائلا: «إن صناعة الموسيقى النظرية هيئة تنطق عالمة بالألحان ولواحقها عن تصورات صادقة سابقة حاصلة في النفس»(12).
يمكن بأن النطق الذي يسم به الفارابي الصنائع كلها على اختلاف هيئاتها (فاعلة/ عالمة) والذي به يعرف الصناعة النظرية (العلم) يحُمل – لا محالة – على المعاني الثلاثة التي كشف عنها الفصل الثاني من كتاب (الإحصاء). وهو أمكنُ دلالة متى تعلق بالهيئة العالمة. وذلك لأن كل صناعة نظرية فهي (أو ينبغي أن تكون) صناعة ناطقة تنشئها القوة التي بها يتميز الإنسان (العقل) ويعني إنشاؤها أن موضوعها حصل معقولا بالفعل (الفكر) وأن العبارة عنه بقول أصبحت ممكنة (اللغة). ونحن لا نستبعد هذا المعنى ولا نقلل من خطورته النظرية في المتن الفارابي، إلا أن الأمر الذي يشغل اهتمامنا على القصد الأول – ونظنه لم يحظ بالاهتمام الكافي في الدراسات الفارابية – إنما هو منزلة العبارة في العلم أو لنقل إمكان القول المقارن للعلم. فإن الإقرار بهذا الإمكان (أو الوجوب) هو الذي يطبع المذهب الفارابي بطابع إنساني تواصلي على ما سنبينه في هذا المقال.
يقول الفارابي محددا شروط كمال الصناعة النظرية: «هي أن يحصل للإنسان أصول تلك الصناعة وتكون له القدرة على استنباط ما يلزم عن تلك الأصول واقتدار على تبصر غيره ما علمه منها وعلى تلقين غيره بالجهات التي يمكن أن يغالط بها من تلك الصناعة»(13). فشروط كمال العلم النظري هي إذن: استيفاء أصول الصناعة. ويُعتبر حصول المبادئ الأول نطقا بالفعل على معنى الكمال الأول.(14)
القدرة على استنباط ما يلزم عن تلك الأصول. وتُعتبر هذه القدرة نطقا مستفادا، يصير نطقا بالفعل على معنى الكمال الأخير كلما تعين وتحقق.(15)
القدرة على التعليم (تبصر غيره) والتقويم أو الامتحان (تلقين غيره بالجهات).
وهكذا إذا كانت كل صناعة نظرية هيئة تنطق وكان اكتمالها يفترض تحقق هذه الشروط فإن مفهوم النطق إذا كان يعطي الشروط الإجرائية لكمال العلم (حصول الأصول والقدرة على استنباط اللواحق/ سنستعمل للإشارة إلى هذه الشروط الإجرائية عبارة العقْلنة)، فإن هذه الدلالة الإجرائية لا تستغرقه ولا تستنفذ معناه. إذ لا تتعلق القدرة الثالثة بالشروط الإجرائية لصياغة القول العملي وإنما تتعلق بالمعرفة ذاتها من جهة ما هي موضوع تواصل إنساني ممكن (التعليم والتقويم/ سنستعمل للإشارة إلى هذا البعد التواصلي عبارة الأنسنة). وينبغي التشديد هنا على أن هذا البعد التعليمي – التقويمي ليس مضافا إلى شروط كمال العلم إضافة خارجية. وإنما هو داخل – على نحو ما – في المقومات الذاتية للعلم(16)، وهو المؤشر الفعلي على سلامة أسسه. وذلك لأن قوانين العلم هي ذاتها قوانين التعليم والامتحان. فالبعد التواصلي للمعرفة مؤسس لعلميتها إذن وهو داخل في شروطها الإنشائية. إذ لا تكون المعرفة معرفة إلا إذا اقترن مسار إنشائها بتمثل البعد التواصلي لها تعليما أو تقويما. فقوانين الصناعة النظرية «معدة إما ليحاط بها ما هو من تلك الصناعة لئلا يدخل فيها ما ليس منها أو يشذ عنها ما هو منها. وإما ليمتحن بها ما لا يؤمن أن يكون قد غلط فيه غالط وإما ليسهل بها تعلم ما تحتوي عليه الصناعة وحفظها»(17).
هكذا يمكن القول بأن البعد الوظيفي المضاعف (التقويم/ التعليم) للعبارة عن المعقول (أي قابلية العلم للقول) يمثل معيار التحقق من سلامة العلم لا من جهة صدقه (تطابق المعرفة مع الوجود) بل من جهة التواصل فيه. فبقدر ما تكون المعرفة مستعدة لأن تُقال تعليميا وتقويميا بقدر ما تكون معرفة علمية، بحيث يمكن القول ضد كل ادعاء تعالوي أو توحدي أن اكتمال العلم وامتلاك الحقيقة لا يؤديان إلى انعزال الذات ولا يشترطانه. كما لا يؤديان إلى انعزال الذات ولا يشترطانه. كما لا يؤديان إلى ضن الذات على الآخر. بما حصل لها من العلم. فالحقيقة لا تكون حقيقة إلا بقدر ما يكون التواصل الإنساني فيها ممكنا وبقدر ما تكون مستعدة للتعميم والمشاركة. وليس أدل على شدة حضور هذا المعنى التواصلي عند الفارابي من نظرية التخييل والتمثيل التي تمثل الوجه التعقلي لتعميم الحقيقة والسعادة(18).
وهكذا يمكن القول بأن العلاقة المعرفية ثنائية الأطراف (ذات/ موضوع) تتحول بنيويا إلى علاقة ثلاثية الأطراف، فالعلاقة القائمة بين الذات والآخر هي المحددة لعقلانية العلاقة بين الذات والموضوع. وهي المحددة من ثم لمدى إنسانية العلاقة القائمة بين المركب ذات/ آخر وبين المعرفة مما يجعل الأنسنة فارابيا مقوما من مقومات العقلنة ومؤشرا عليها.
ولما كانت الدلالة المزدوجة لمفهوم النطق محددة لشروط كمال العلم النظري بالموسيقى فإنها تعطي – أيضا وفي الوقت ذاته – شروط معقولية الموجود الموسيقي. وذلك لأن فعل المعرفة الذي يخُرج القوة الكامنة في الذات (عقل بالقوة) يخُرج في الوقت ذاته القوة الكامنة في الموضوع (معقول بالقوة). فالإدراك – سواء كان حسيا أو عقليا – هيئة مركبة من حركتين متضايفتين ومتشارطتين لا يمكن التمييز بينهما إلا على نحو منطقي: حركة ظهور القوة الكامنة في الذات وحركة ظهور القوة الكامنة في الموضوع. فإذا حصل العقل بالفعل فذلك يعني أن الموضوع أصبح معقولا بالفعل.
وهكذا يمكن القول بأن النطق المحدد لكمال الصناعة النظرية، إنما هو أيضا وعلى نحو جوهري، علامة على انكشاف الموضوع للذات، تعقله وتقوله على ترتيب ونظام واضحين.
ولما كان الأمر كذلك فإن العلم يفترض أحد هذين الأمرين: فإما أن يتم إفراغ الموضوع من أشكال اللامعقولية التي قد تقترن به ولا يمكن حصرها وضبطها عقليا، وإما أن يُنظر إليه على أنه معقول في ذاته وفي جميع لوازمه ولواحقه، وعلى أن عدم كمال العلم به ليس راجعا إلى لا – معقولية مفترضة فيه، وإنما إلى عجز أدوات التحليل المعرفية(20).
ولما كانت هيئة الموسيقى النظرية هيئة تنطق بالمعنى الذي حددناه للنطق، فإن الموجود الموسيقي معقول(21) يمكن الوقوف على مبادئه الأول واستنباط ما يلزم عنها كما يمكن قوله قولا تعليميا تقويميا يجعل منه شأنا إنسانيا يمكن التواصل فيه.
يمثل الإقرار بمعقولية الموجود الموسيقي المبدأ الموجه للمشروع الفارابي الذي أعلن عنه في فاتحة كتاب (الموسيقى الكبير) حيث يؤكد على أن هدفه من الكتابة في الموسيقى إنما هو استيفاء جميع أجزاء هذه الصناعة وتكميلها وعرضها على نحو واضح لم تبلغه كتب السابقين ولا كتب المعاصرين ممن ألف في هذا الغرض. فإقدام الفارابي على صياغة نظرية الموسيقى يفترض الإقرار بإمكان كمال العلم بالموجود الموسيقي. ويعني هذا الإقرار أن الموجود الموسيقي معقول لا تتجاوز أعراضه الذاتية ولواحقه قدرة العقل(22)، كما لا يتعارض النظر البرهاني فيه مع أسس النسق الفلسفي وإنما يمثل امتداد لها(23).
فإذا كانت عقلية شيء ما إنما هي تجريده عن المادة(24)، ورفع الأعراض اللاحقة به عنها، وكانت المادة تعني في ذاتها الممكن(25)، واللا – متعين (ما يمكن أن يكون الشيء وضده، أو ما يمكن أن يقبل الصور المتضادة) فإن حصول شيء ما معقولا على سبيل الانتزاع إنما يعني تجريده من أشكال الإمكان واللاتعين «العارضة له بحكم وجوده، واستخراج ما هو ضروري فيه بحسب المفهوم. وذلك هو معنى العلم اليقيني عند الفارابي. إذ المعقولات معان عامة موجودة في الذهن ولأن ما يلزم عنها لزوما ضروريا إنما هو لازم عنها “بحسب المفهوم لا بحسب الوجود»(26).
فاستعداد الشيء لانتزاع صورته عن المادة يعني استعداده لحصول العلم به على نحو يقيني يتحقق إجرائيا بامتلاك الأصول والقوانين على النحو الذي حدده مفهوم النطق أما إذا كان الشيء مما لا يمكن تصوره إلا وهو في مادة ومقارن لها بحيث لا يمكن تجريده عن أعراضه المادية فإن كمال العلم به ممتنع لما فيه من ضروب اللاتعين والإمكان كما هو شأن الموجود الشعري مثلا.(27)
ولما كان الموجود الموسيقي معقولا وكان وجوده حاصلا بالصناعة وليس بالطبيعة فإن الموسيقى العملية (الصناعة) مستعدة – من جهة ما هي صناعة إنشائية – للعقلنة، أي للاستنباط التحليلي بناء على المفهوم ذاته(28). فالمعقول من الألحان ليس شيئا آخر مغايرا أنطولوجيا للمحسوس منها بالصناعة إذ يقول الفارابي «والألحان وما ينسب إليها هي من الأشياء التي تُحس و تُتخيل وتُعقلُ»(29)، وهي تُحس حين تُؤدى (هيئة الأداء) وتُتخيل حين تُتصور إنشائيا (هيئة الصيغة) وتُعقل حين تُجرد عن وجودها في المادة (الآلات أو الحلوق) ويُنظر إليها في ذاتها (هيئة العلم النظري)(30).
ولما كان الموجود الموسيقي معقولا وكان وجوده صناعيا فإن هيئات الموسيقى العملية ناطقةٌ هي الأخرى. فالصناعة العملية تُعطي الألحان على نحوين. أما النحو الأول فيتمثل في إيجاد الألحان محسوسة للسامعين (هيئة الأداء)، ويتمثل النحو الثاني في صياغتها وتركيبها فقط وإن لم توجدها محسوسة (هيئة الصيغة)، «والتي هي أحق باسم صناعة الموسيقى العملية هي هيئة تنطق فاعلة عن تخيل صادق حاصل في النفس تُوجد الألحان المصوغة محسوسةً. والصناعة الثانية التي تُسمى بهذا الاسم هي هيئة تنطق فاعلة عن تصور صادق حاصل في النفس تُوجِدُ الألحان مُركبةً مصوغةً»(31).
وإننا نقفُ عند هيئة الصيغة للكشف عن معنى النطق الذي يسمُ به الفارابي الصناعة العملية. فالفارابي يشترط في هذه الهيئة شرطين: شرط القدرة على تمييز ما بين الجيد والرديء من الألحان وعلى ترتيب النغم ترتيبا ملائما للسمع، وذلك بالفطرة أو بالعادة، وشرط قوة الإحساس للمسموعات حتى تكون القُوةُ الغريزيةُ لصاحب هذه الهيئة طبيعية له فلا يستلذ أو يستحسن ما ليس طبيعيا للإنسان(32). ويجعل الفارابي هذه الهيئة على درجات ثلاث هي: أولا درجة من يحتاج أبدا في تخيله إلى أن يستند إلى المحسوس، وثانيا، درجة من لا يحتاج في تخيله إلى أن يستند إلى محسوس أصلا غير أنه لم يبلغ بعد أن ينطق عنه، وثالثا درجة من بلغ من قوة تصوره إلى أن ينطق عن جميع ما يتخيل منها مثل ما كان بلغه إسحاق بن إبراهيم الموصلي(33). ويقول الفارابي في وصف هذه الدرجات الثلاث «والأجود أن يجُعل لكل واحدة من هذه الهيئات الثلاث التي تنقسم إليها الهيئة الثانية العملية اسم على حياله. والمتوسطات التي بين هذه الأطراف فليس يعسُر أخذها، غير أن ما لم تبلغ بعدُ من قوتها إلى أن ينطق بها عما حصل له فيها من الخيالات فهي أحرى أن تُسمى قوة أو غريزة أو طبيعة أو ما جانس هذه الأسماء من أن تُسمى صناعة. وما كان مبلغها من القوة مبلغا يمكن أن ينطق بها عما يتصوره فتلك أحرى أن تُسمى صناعة من أن تُسمى قوة أو طبيعة»(34).
إن لهذا القول أهمية بالغة في الكشف عن تصور الفارابي للموسيقى. وذلك لأنه يحصر النطق في درجة من درجات هيئة الصيغة، هي الدرجة الصناعية، ويُقيدُ بالتالي معنى تنطق الذي حد به الهيئات العملية في قوله سالف الذكر(35). فالصناعة العملية ليست نطقا في جميع تعيناتها ودرجاتها إلا بالمعنى الذي يكون به النطق دالا على ما به يتميز الإنسان عن سائر الحيوان، أي على الغريزة الإنسانية. أما النطق المميز للدرجة الثالثة من درجات هيئة الصيغة فهو دالٌ على وعي الإنسان بذاته وشعوره بما يرتسم فيها. فالإنسان يمارس الموسيقى على نحو طبيعي أو غريزي ويتداولها بالاحتذاء، فإذا بلغ بها مبلغ إسحاق بن إبراهيم الموصلي أمكنه الوعي بما يمارس وأمكنه تداولها بالتعليم. وذلك لأن هذه الدرجة التي هي الدرجة التي هي «أحرى أن تُسمى صناعة من أن تُسمى قوة أو طبيعة» تشتمل على قدرٍ ما من العلم بالأسباب إذ يقول الفارابي: «والمعرفة التي في هذه الهيئة أيضا – هيئة الصيغة – هي معرفة الوجود على الحال التي هي – الألحان – بها قريبة من أن تُحس أو التي بها يمكن المؤدي أن يوجده محسوسا، وهذه أيضا هي معرفة الألحان فقط. غير أن من بلغ مبلغ إسحاق فإنه قد يمكن أن يقف على أسباب لها غير ذاتية وعلى أسباب ذاتية يسيرة أو قريبة لأشياء منها يسيرة بمقدار ما لا تصير الهيئة هيئة تُنسبُ إلى أنها ملكة علم يُوقف بها على لم الشيء(36).
إن هذه الدرجة الوسطى بين معرفة أن الألحان ومعرفة لمِ الألحان تمثل اللحظة الأولى لوعي الإنسان بما يرتسم في نفسه(37). وتقترن هذه اللحظة بقدرة الإنسان على العبارة عما يشعر به. ممِا يجعل هذا الوعي بالذات منفتحا على الآخر بحيث يكون إمكان التواصل مع الآخر علامة عليه. إذ يقول الفارابي محددا درجات الصناعات العملية، «وأقل المعارف في هذه الصناعات أن يرتسم من الشيء الذي يُمكن أن يُعمل في ذهن الإنسان مقدار ما يصدر عنه العمل فقط وإن لم ينطقِ عما ارتسم في نفسه منه. وهذا المقدار خاصة إنما يحدث بمزاولة أعمال الصناعة فقط لا عن تعليم بقول. والنطق عنه أن يشعر به وتكون قوة تصوره له بمقدار ما يمكن أن يُعبر عنه [….] غير أن الإنسان إذا بلغ في العملية إلى أن ينطق عنها أمكنه أن يُعلم بقول ومتى لم يبلغ ذلك كان تعليمه باحتذاء؟»(38).
فإذا كانت الألحان تتميز بمعقوليتها وباستعدادها لفعل العقل المتمثل في قوة التصور وفي العبارة عنه، فإن هذه المعقولية لا تقتصر فقط على الوجود النظري للألحان وإنما هي قائمة أيضا في وجودها العملي، بل إن هذه المعقولية النظرية ذاتها ليست إلا صورة الوجود العملي للألحان. فالموسيقى معقولة وإن كانت واقعة فنية تقوم على الذوق والخيال.
إن لعبارة «يُعلمُ بقول» ثقلا نظريا وخطورة بالغة، إذ هي المحددة على نحو ما لمعالم فلسفة الموسيقى عند الفارابي. فالتعليم بالقول يمثل بالقياس إلى الاحتذاء علامة على الوعي نحو ما لمعالم فلسفة الموسيقى عند الفارابي. فالتعليم بالقول يمثل بالقياس إلى الاحتذاء علامة على الوعي بالذات (الشعور) وهو علامة على معقولية الموضوع (قوة تصور الذات له).
فالموسيقى مستعدة لأن تصير علما واكتمال نظريتها ممكن. ومعنى ذلك أنها مستعدة لأن تصير معرفةً «تعلمُ قولا». ولا يقتضي هذا الاستعداد تجاوز الوجود العملي للنغم والألحان. فالنطق النظري يتحرك داخل حدود الموسيقى الإنسانية ولا يفترض اكتماله التعالي عليها أو مفارقتها أنطولوجيا أو معياريا، إذ هو امتداد للنطق العملي وإن اختلافا في طبيعة المعرفة الحاصلة عنهما وفي الغاية(39). فكيف أمكن للفارابي الوصل بين الصناعة النظرية والصناعة العملية دون توسط موسيقى سماوية أو توسط مبدأ التناغم الأنطولوجي وما يتبعهما من رد الإنشاء الجمالي الموسيقي إلى نظرية المحاكاة؟
مالنا فعله وما ليس لنا فعله في النغم والألحان:
يقول الفارابي محددا أنماط اشتمال صناعة الموسيقى على الألحان: «والصناعة التي يُقال أنها تشتمل على الألحان منها ما اشتمالها عليها أن توجد الألحان التي تمت صياغتها محسوسة للسامعين. ومنها ما اشتمالها عليها أن تصوغها وتركبها فقط [….] ومنها ما اشتمالها عليها بجهة أخرى غير هاتين الجهتين وهي الجهة النظرية»(40). فاشتمال صناعة الموسيقى على الألحان إنما هو على أنحاء ثلاثة: الأداء والصيغة والنظر العلمي. ومعنى ذلك أن وجود الألحان ممكن على جهات ثلاث: جهة المحسوس (الأداء) وجهة المتخيل (الصيغة) وجهة المعقول (النظر العلمي)(41). لكن لا يعني ذلك أن هذه الأنحاء والجهات تشكل صناعةً واحدة بالذات وإنما تفترق إلى صناعتين منفصلتين على نحو ما: صناعة الموسيقى العملية (هيئة الأداء – المحسوس – وهيئة الصيغة – المتخيل) وصناعة الموسيقى النظرية (هيئة النظر العلمي – المعقول). ويقول الفارابي محددا الفرق بين الصناعتين: «والذي يُعرفُ بهذا الاسم علمان: أحدهما علم الموسيقى العملية والثاني علم الموسيقى النظرية. فالموسيقى العملية هي التي شأنها أن توجد أصناف الألحان (التي تمت صياغتها) محسوسة في الآلات التي لها أعدت [….] والنظرية تعطي علمها وهي معقولة وتعطي أسباب كل ما تأتلف منه الألحان»(42).
فالتمييز بين هيئات الموسيقى (الهيأتان العمليتان والهيأة النظرية) يقوم على أساس التمييز الذي يقيمه الفارابي بين المعرفة العلمية والمعرفة النظرية. ويتأسس هذا التمييز على ثلاثة معايير أساسية. أما المعيار الأول فأنطولوجي يتعلق بطبيعة وجود الموضوع. وأما المعيار الثاني فإبستمولوجي يتعلق بنمط العلم به. والمعيار الثالث سيكولوجي يتعلق بالملكية المنتجة للمعرفة وبنمط نزوعها إليها(43).
الصناعات العملية
الصناعات النظرية
المعيار الأنطولوجي
“مالنا فعله” / ممكن الوجود
“ما ليس لنا فعله”/ ضروري الوجود
المعيار الإبستمولوجي
“معرفة أن الشيء”/ معرفة مستغنية عن البراهين
“معرفة لم الشيء”/ معرفة برهانية
المعيار السيكولوجي
العقل العملي الناشئ عن التجربة ومزاولة الأعمال/ القصد فيه هو الفعل وغايته كمال الفعل
العقل النظري الحاصل بالطبع/ القصد فيه هو العلم وغايته إدراك الحقيقة
التمييز بين الصناعات العملية والصناعات النظرية
إن مستويات التمييز بين العملي والنظري القائمة على أساس هذه المعايير الثلاثة ترفع الفرق بينهما إلى مرتبة الفرق في الطبيعة وفي الغايات مما يؤدي إلى الظن بأن الصلة بينهما ممتنعة امتناعا تاما وليس الأمر كذلك على الإطلاق. إذ من العلوم ما ينتسب إلى العملي والنظري. فهل أن الفصل بين هيئات الموسيقى العملية وبين الهيئة النظرية فصل تام يمنع كل تواصل بينهما أم أن العلاقة بينهما ممكنة؟ وإذا كانت ممكنة فعلى أي نحو هي؟
يجعل الفارابي انتساب بعض العلوم إلى النظري والعملي على ضربين. فمنها ما ينتسب إليهما بالذات وعلى الحقيقة. وهي العلوم التي لا يُكتفى فيها بالتجربة وحدها كما لا يكتفي فيها «بأن يكون الإنسان بحيث لا ينطق عما ارتسم في نفسه منها»، وإنما تكون في حاجة إلى مبادئ قياسية ومقدمات تأخذها عن علم نظري ويكون العلم فيها – مع ذلك – معدا نحو العمل، (صناعة الطب نموذجا). ومن العلوم ما ينتسب إلى العملي والنظري بالعرض وبحسب الظن، وذلك على أربعة وجوه يحدها الفارابي يقول: «منها أن تكون صناعة عملية فقط تشتمل على أشياء تنظر بمقدار كاف في العمل. وتكون صناعة أخرى نظرية تنظر في تلك الأشياء بأعيانها. فإن النظرية منها يُظن بها أنها علمية وعملية مثل العلم الطبيعي والطب(44(، فإن الطب ينظر في أشياء طبيعية بمقدار الكفاية في العمل(45)، فيُظن لذلك بالعلم الطبيعي أنه نظري وعملي. ومنها أن يكون ما تشتمل عليه صناعة ما نظرية تُوجد أشخاصه بالصناعة، وذلك مثل كثير من علم التعاليم. ومنها أن تكون الصناعة تنظر في الأشياء التي شأنها الإرادة والاختيار والعادة. فعلى هذه الجهة يُقال ذلك في العلم المدني والفلسفة(46). ومنها ما يقال باشتراك الاسم مثل علم الموسيقى فإنه يُقال فيه أنه أعلم وعمل من قبل أن هاهنا صناعتين اثنتين، أحدهما عملية والأخرى نظرية، وكل واحدة تُسمى باسم الأخرى فيُظن لذلك بالنظرية منها أنها أيضا عملية. وما يُنيبُ إلى الأمرين جميعا بالعرض أو باشتراك الاسم فإن الأمرين ليسا يوجدان بالحقيقة في صناعة واحدة، لكن يوجد كل واحد منهما في صناعة غير الصناعة التي يوجد فيها الآخر. فلذلك ليس واحد مما يُنسبُ إلى العملي على هذا النحو عمليا على الحقيقة، لكن نظري فقط»(47).
فصناعة الموسيقى النظرية تنتسب إلى الموسيقى العملية بالعرض واشتراك الاسم. فهي في الحقيقة علم نظري فقط وليس لها التفات إلى جهة العمل ولا لها الاستعداد إليه. ولهذا الفصل بين الصناعتين قيمة نظرية أساسية وذلك لأنه يدل على أن موضوع صناعة الموسيقى النظرية ضروري ولا يمكن رده من جهة الأصل أو من جهة الغاية إلى ما لنا فعله. ولما كان الأمر كذلك فإن المعقول من الألحان يمكن قوله قولا علميا، أي يمكن قوله برهانيا كما يمكن استنباط العلم بأعراضه الذاتية استنباطا نسقيا.
ولكن إذا كان الفارابي يفصل بين الوجود العملي للنغم والألحان( ما لنا فعله/ ممكن) وبين وجودها النظري (ما ليس لنا فعله/ ضروري) فإنه لا يفصل إبستمولوجيا بين الموسيقى العملية والموسيقى النظرية وإن كان يميز إبستمولوجيا بينهما. فإذا كان الوجود النظري لا يمكن رده إلى الوجود العملي فإن نسق المعرفة النظرية يقوم على مقدمات تجريبية يأخذها صاحب العلم النظري من صاحب الصناعة العملية. فالعلاقة المعرفية قائمة بين الموسيقى العلمية والموسيقى النظرية وهي قائمة على أساس إعطاء المقدمات.
فلما كان بعض أشخاص موضوعات العلوم النظرية يُوجد بالصناعة والتجربة فإن بعض الصناعات العملية تعطي مبادئ ومقدمات لبعض العلوم النظرية. فصناعة الطب نافعة في العلم الطبيعي كما أن تجارب أصحاب الموسيقى العملية نافعة في الموسيقى النظرية فتنشأ بين التجربة العملية والقياس النظري صلة ما توهم بوحدتهما. يقول الفارابي «فالصناعات التي نسبة بعضها إلى بعض هذه النسبة، وهي أن يكون أحدهما يشتمل على التجربة فقط والثاني يستعمل تلك التجربة بأعيانها في استنباط أشياء أُخر، يظن أنها صناعات واحدة بأعيانها»(48).
إن هذا الضرب من التكامل الإبستمولوجي بين العلوم العملية والعلوم النظرية راجع إلى نمط وجود أشخاص موضوعات الصناعة النظرية. وهو ما يجعل مبادئ المعرفة فيها مأخوذة من التجربة. غير أن الفارابي لا يرفع هذا التواصل الإبستمولوجي إلى مرتبة الوحدة التي تجعل من الصناعتين صناعة واحدة. وإنما يضعه دائما داخل حدود الانتساب العرضي. فلا يتضاءل لديه الفصل بين الوجود النظري وبين الوجود العملي. ويتجلى مبدأ الفصل هذا في تصور الفارابي للموسيقى النظرية إذ يقول: «ولأن جل ما هاهنا يوجد بالصناعة لا بالطبيعة(49)، فقد يُظن بهذه الصناعة أنها نظرية وعملية بسبب مشاركة هذه الصناعة صناعة علم الموسيقى العملية في الاسم. وليس كذلك إلا على الطريق الهندسي الذي به يُقالُ في الهندسة أنها علمية وعملية لا كما يقال في الطب. فإن علم الموجودات الهندسية ليس إنما غايته أن يُعمل لكن عرض فيما هي موضوعات الهندسة أن كانت أشخاصها تُعمل في صنائع أخرى فسُمي كثير منها أيضا هندسة. فكذلك عرض فيما هي موضوعة لهذا العلم أن كانت أشخاصها تُفعلُ بصنائع أخر فتسمى تلك أيضا باسم هذه الصناعة. وأما العلم المطلوب للعمل فهو غير العلم النظري. فإن ذلك غير مُنفك من استعداد لأن يحصل عنه فعل كما ذلك في علم التعقل وعلم التجارة وبالجملة المعارف في الصنائع العملية فهو إذن بالعرض علم ولا عمل لا بالذات»(50).
يفصل الفارابي إذن بين الموسيقى النظرية والموسيقى العملية ويصف انتساب الأولى إلى الثانية بصفة العرضي والظني ويجعل صلة العملية بالنظرية مقتصرة على إعطاء المقدمات والمبادئ البديهية للنسق. فما التجربة وبم تتعلق وفيم يتمثل مضمون المقدمات التجريبية؟
التجربة هي «تعمدُ إحساس أشياء كثيرة مرارا كثيرة ليفعل العقل فيما تأدي إليه فعِله الخاص حتى يصير يقينا على أحد ذينك الوجهين. وهو يشبه الاستقراء وليس هو به. لأن الاستقراء هو ما لم يكن تأدي من الحس إلى الذهن فعل خاص للعقل، والتجريب هو الذي به يفعل العقل فيما يتأدى له من الحس إلى الذهن فعله الخاص حتى يصير يقينا»(51).
إن عناصر التجربة التي يكشف عنها هذا القول هي: تعمد الإحساس واليقين العقلي. فإذا كان العقل المتمثل في إنتاج قضايا كلية وضرورية (وهذا هو معنى اليقين) هو الذي يميز التجربة عن الاستقراء، فإن تعمد الإحساس هو الذي يميزها عن العلوم المتعارفة التي تنشأ لا عن قصد وإنما على نحو تلقائي. وذلك لأن «بعض الأشخاص يقع عليه حس الإنسان من أول ما يولد أو في النشوء فيتأدى حينئذ ذلك المحسوس إلى المقدار الموجود من العقل في ذلك الوقت عن الحس، فيتفق أن يكون بحيث يقوى العقل على فعله الخاص به في ذلك الشيء من غير أن يشعر به الإنسان، فينمو ذلك مع نمو العقل فإذا بلغ الإنسان بعد ذلك إلى حيث يمكنه أن يشعر بما هو حاصل في ذهنه وجد حينئذ فيه أمورا معلومة قد تيقن بها من غير أن يكون شعر كيف حصلت فيه ولا متى حصلت، فيُظن بها لذلك أنها أشباه الهامات وغرائز فُطرت معه من أول كونه»(52). فالمبادئ الأول التي تأخذها صناعة الموسيقى النظرية كمقدمات للاستنباط البرهاني هي المبادئ الحاصلة عن التجربة في معناها الذي حددناه. فالتجربة – من حيث هي مصدر من مصادر المعرفة – متضمنة لفعل العقل، وهي بالتالي ليست حسية محضة. وما فيها من احساسات فبالقصد والتعمد الذي يضع الحد الفاصل بينها وبين هيئة ارتياض السمع التي بها يميز الإنسان بين الجيد والرديء من الألحان، وهي موجودة في جميع الناس بالفطرة أو العادة.(53) ولما كانت التجربة «تأمل جزيئات الشيء والحكم على كلياته بما يصادفه في تلك الجزيئات»(54)، وكانت النفس «تدرك الصور المحسوسة بالحواس وتدرك الصور المعقولة بتوسط صورها المحسوسة [….] وحصول المعارف للإنسان يكون من جهة الحواس وإدراكه للكليات من جهة إحساسه بالجزيئات»(55). فإن التجربة تقتضي أن تكون الجزيئات محسوسة للإنسان بالفعل. ولما كانت أشخاص صناعة الموسيقى لا تحصل محسوسة للإنسان بالطبيعة وإنما بالصناعة فإن تجربة الألحان والنغم ليست ممكنة إلا بعد أن تكون الموسيقى العملية قد أوجدتها بالفعل محسوسة في الآلات(56). فكيف تُوجد الصناعة العملية الألحان والنغم محسوسة للإنسان؟
يقر الفارابي بالأصل الفطري للموسيقى. فأصل الألحان «هي فطر ما غريزية للإنسان. منها الهيئة الشعرية التي هي غريزية للإنسان ومركوزة فيه من أول كونه. ومنها الفطرة الحيوانية التي يصوت بها عند حال حال من أحوالها اللذيذة أو المؤذية ومنها محبة الإنسان الراحة بعقب التعب أو أن لا يحس بالتعب في أوقات العمل»(57).
غير أن هذه الفطر الغريزية لا تمثل إلا الاستعداد أو القوة التي تعطي الإمكان الذاتي للألحان. وهو إمكان إنساني صرف لا يقتضي قيامُه وجود موسيقى سماوية أو موسيقى كونية، كما أنه لا يتحقق إلا مبدأ التحري والإنشاء المتمثل في معيار اللذة والألم، الذي به يميز الإنسان بين الملائم وغير الملائم من المدركات. فإذا كان هذا المعيار فطريا فإن معرفة أي الألحان ملائم وأيها غير ملائم تقتضي الإنشاء والامتحان الحسي، ولا يتم ذلك إلا بالتجربة. فالألحان والترنمات نشأت قليلا قليلا وفي زمان بعد زمان وفي قوم بعد قوم حتى تزايدت(58). ويؤكد الفارابي على أن هذه التجربة العملية للنغم والألحان إنشاء وامتحانا، ذات لحظتين: أما اللحظة الأولى فهي لحظة حدوث النغم والألحان بالطبع والاحتذاء، وهي لحظة مُروية تقتضي التأمل والنظر، «ولم يزل يُنقِص الآخر ما زيدة أو يزيد الآخر ما نقصه الأولُ إلى أن حصلت كاملة أو قريبة من الكمال»(59).
إن هذا الطابع التجريبي التاريخي لحدوث الموسيقى العملية واكتمالها يلغي كل ادعاء ميتافيزيقي يجعل من ظهور الألحان حدثا غريبا أو مفارقا يُنسب إلى فطرة فائقة مثل التي للحكماء أو الأنبياء. كما أنه يُبطلُ كل ادعاء تعالوي ينفي عن الألحان طابعها الإنشائي الإنساني الأصيل، ويردها – على سبيل المحاكاة – إلى موسيقى لاإنسانية سماوية أو مجردة(60).
ويرد الفارابي هذا الادعاء إلى الصورة الخاطئة التي تُعطى للحكمة وللحكيم إذ يقول: «فقد تبين أن الأمر فيها على خلاف ما يظنه قوم من الجمهور ومن ليست له خبرة وحنكة ممن يتعاطى شيئا من العلوم. والسبب في هذا الظن هو ما يُعتقدُ في الحكمة والعلوم التي يُنسب إليها من أنها تحيط بكل شيء وأن المقتنين لها يعلمون كل شيء. فلذلك يرون أن الحكيم هو أول من استنبط الصنائع العملية وانبثت عنه في الجمهور، لا بحسن تصرفه وجودة تأتيه للأعمال، لكن بجودة فهمه وقوته على إدراك الأشياء كلها، وليس هذا الظن حقا على الإطلاق»(61). فالموسيقى تجريبية تاريخية وإن نشأت بعض ألحانها وترنماتها عمن واتته فطرة متفوقة. وذلك لأن قدرة الحكيم على إنشاء الألحان مردودة إلى العقل العملي وليس إلى العقل النظري. والعملي مشروط بالتجربة ومزاولة الأعمال.
إن أهمية الكشف عن هذا الظن والرد على ذلك الادعاء تكمن في حصر الوجود العملي للألحان داخل حدود ما لنا فعله وفي التأكيد على الطابع التراكمي التطوري لهذا الفعل الذي يُنجزه قوم بعد قوم في زمان بعد زمان. ولما كانت «مبادئ البراهين اليقينية الأولى في كل صناعة إنما تحصل في النفس عن إحساس أشخاص أجزائها»(62)، وكان ما يوجد في صناعة الموسيقى يوجد بالصناعة والتجربة العملية – على النحو الذي بيناه – فإن التجربة – في دلالتها الإبستمولوجية – لا تلتئم إلا إذا اكتمل الوجود العملي للنغم والألحان. فصناعة الموسيقى العملية تتقدم صناعة الموسيقى النظرية بالزمان تقدما كثيرا(63). فعم تكشف الموسيقى العملية وما هو مضمون المقدمات اليقينية التي تعطيها؟
يقول الفارابي واصفا حدوث الآلات «ولما كانت هذه الألحان إذا حُوكيت بنغم آخر مسموعة عن سائر الأجسام وساوقتها صارت أغزر وأفخم وأبهى وألذ مسموعا، وأحرى أن تكون محفوظة الترتيب والنظام أخذوا مع ذلك وبعد ذلك يطلبون أمثالها والمساويات لها في المسموع من سائر الأجسام التي تعطي النغم فنظروا في أي مكان تخرج النغم نغمة نغمة من النغم التي يجدونها في الألحان المعمولة المحفوظة عندهم فعرفوا أمكنتها وحددوها وعملوا عليها، ثم لم يزالوا بطباعهم يتحرون من الأجسام طبيعية كانت، أو صناعية ما يعطيهم تلك النغم أكمل. فكلما اهتدوا لواحد ثم أحس فيه بعد ذلك بخلل تحروا هم أنفسهم أو غيرهم ممن ينشأ بعدهم إزالة ذلك الخلل إلى أن حدث العود وسائر هذه الآلات، وكملت صناعة الموسيقى العملية واستقر أمر الألحان. فتبين حين ذلك أي تلك الألحان والنغم طبيعية للإنسان وأيها غير طبيعية، أعني أيها ملائمة وأيها غير ملائمة، وكذلك في الآلات، وتبين مع ذلك الأتم فالأتم والأنقص فالأنقص»(64).
يؤكد هذا القول على الطابع التجريبي التاريخي للموسيقى العملية ويشير إلى ما تنتهي إليه على سبيل الاكتمال والاستقرار. فالموسيقى العملية تكشف عبر مسارها التجريبي التاريخي عما هو طبيعي للإنسان وملائم له وعما هو غير طبيعي وغير ملائم. فالملائم للإنسان وما عنه تحصل اللذة إنما هو غاية الموسيقى العملية وعلامة اكتمالها. ويشير الفارابي إلى أن هذا الاكتمال يتحقق في الكمالات العشر ويضع على رأسها كمال ملاءمات الاقتران التي هي الاتفاقات(65). فإذا تعلق الأمر بالمبادئ التجريبية فينبغي الابتداء من الاتفاقات وينبغي تقديم معرفتها لأنها الأكثر وضوحا وبداهة للحس. فهي إذن المقدمات الأولى اليقينية التي ينبغي أن يُبنى على أساسها النسق الاستنباطي للموسيقى النظرية.
تكشف الموسيقى العملية إذن عن الملائم من النغم والألحان وعن غير الملائم منها(66). فلئن كان الذوق طبيعيا للإنسان وكان معيار التحري والإنشاء(67) فطريا فإن اكتشافهما عينيا في موضوعات جزئية (هي الألحان المعمولة) بعدي تاريخي. وهكذا فإن الكلي في الألحان طبيعي من جهة الأصل (ما ليس لنا فعله) تاريخي من جهة التعين والانكشاف (ما لنا فعله).
ولما كانت الموسيقى التجريبية صناعة عملية فإنها لا تعطي من معرفة الألحان ومن معرفة الملائم وغير الملائم إلا أن الشيء. فجميع «الصناعات التي تترقى إلى أن تتم بالتجربة فقط فهي إنما تعطي من علم الشيء الذي تشتمل عليه أن الشيء ووجوده لا علم لم الشيء»(68). فما تعطيه الصناعة العملية للموسيقى النظرية كمقدمات يقينية إنما هو أن هذا اللحن طبيعي للإنسان وأن هذا غير طبيعي «فيأخذها صاحب العلم النظري في أن كذا منها طبيعي وكذا منها غير طبيعي مسلما عن أولئك، فإذا طولب بإيجادها محسوسة أحال عليهم، ولا ينقص ذلك علمه»(69).
وتمثل هذه المقدمات الكلية التي تعطيها الصناعة العملية التجريبية مبادئ البراهين في العلم النظري. فهي إذن مبادئ المعرفة لا مبادئ الوجود إذ يقول الفارابي: «إن التي هي غايات العملية تؤخذ أسباب المعرفة في النظرية وحينئذ تصير هذه متى أُخذت مبادئ في النظرية، مبادئ المعرفة فقط لا مبادئ الوجود والتي إليها يُصار هي مبادئ الوجود»(70). وإذا كان الفارابي لا ينفي تمام النفي أن تكون المبادئ المتسلمة من العملية (الكمالات العشر) مبادئ وجود أيضا(71)، لأنها غايات ولأن الغاية إحدى العلل، فإنه يجعل منها مبادئ معرفة فقط كلما تعلق الأمر بالعلاقة الإبستمولوجية بين الموسيقى العملية والموسيقى النظرية.
هكذا إذن تأخذ الموسيقى النظرية مقدمات النسق من صناعة الموسيقى العملية ويتمثل مضمون هذه المقدمات في الطبيعي من الملائم وغير الملائم من النغم والألحان. والطبيعي من الملائم وغير الملائم (ومعيار التمييز بينهما هو اللذة والألم) هو ما ليس لنا فعله وما هو ضروري في الألحان. ولا ينكشف هذا “الضروري” إلا عبر المسار التجريبي التاريخي لصناعة الموسيقى العملية. فإذا اكتمل الوجود العملي للنغم والألحان أمكن إنشاء نسق الموسيقى النظرية إذ تمثل المقدمات العملية مبادئ المعرفة في الموسيقى النظرية.
يمكن القول إذن أن بنية الإدراك الذوقي (الملائم/ غير الملائم) تظهر في الموسيقى العملية وأن الموسيقى النظرية تتخذ من هذه البنية موضوعا لها وذلك للكشف تحليليا عن وجه الضرورة فيها (الوقوف على الأسباب) وللكشف تركيبيا عن نسق الأعراض الذاتية للنغم والألحان(72). فما لنا فعله (العملي) يتضمن إذن ما ليس لنا فعله (النظري) كشرط ذاتي له. ومعنى ذلك أن موضوع الموسيقى النظرية إنما هو موسيقى قبلية، وذلك في الدلالة المزدوجة للقبلي بما هو الكلي الضروري وبما هو الشرط الذاتي لإمكان التجربة. فهيئات الموسيقى تشتمل على هيئة أخرى (علاوة على هيأتي الصناعة العملية والصناعة النظرية) هي الهيئة الطبيعية التي هي هيئة الذوق. يقول الفارابي: «وأما ارتياض السمع وهو الهيئة التي بها يميز بين الألحان المتفاضلة في الجودة والرداءة والمتلائمات من غير المتلائمات فليست تسمى صناعة أصلا، وقلما إنسان يعدم هذا إما بالفطرة وإما بالعادة»(73). ولكن إذا كانت هيئة ارتياض السمع لا تسمى صناعة، فذلك لا يعني أنها ليست موضوع صناعة. بل إنها الموضوع الفعلي لصناعة الموسيقى النظرية، وذلك بعد أن تكون الصناعة العملية قد كشفت عنها وأظهرتها. ويمكن اختزال هذا الأمر على هذا النحو البياني:
فالذوق هو إذن موضوع صناعة الموسيقى عمليا (الاكتشاف البعدي: معرفة أن الشيء)، ونظريا (إنشاء نسق العلم: معرفة لم الشيء). ولما كانت صناعة الموسيقى هيئة تنطق بالمعنى المزدوج للنطق (العقلنة إجرائيا والأنسنة مذهبيا)، وكان موضوعها هو هيئة الذوق، فإن مسار تحقق النطق العملي والنطق النظري للموسيقى يمثل إذن مسار تحقق وعي الإنسان بهيئة من هيئات وجوده هي هيئة الإدراك الجمالي. وذلك على نحو يمكنه من العبارة عما يرتسم في نفسه من أمر الألحان إنشاء (الموسيقى العملية) ومعرفة (الموسيقى النظرية). هكذا تمثل دلالة مفهوم النطق ونظرية هيئة الذوق (ما ليس لنا فعله في النغم والألحان) الأساس الذي جعل التخلص من الفرضيات الميتافيزيقية ممكنا عند الفارابي. فنظرية الموسيقى أفرغت عنده من كل بعد ميتا – إنساني، يجعل من الموسيقى إلهاما لا ينطق أو يردها إلى موسيقى سماوية على سبيل المحاكاة. فالعلم النظري بالنغم والألحان ممكن دون تجاوز الوجود العملي لها وذلك لأن هيئات صناعة الموسيقى هيئات تنطق من ناحية، ولأن الوجود العملي (الممكن: ما لنا فعله) يستند إلى شرط إمكان ذاتي ضروري هو هيئة الذوق (ما ليس لنا فعله). فما ليس لنا فعله ليس موسيقى السماء أو مبدأ التناغم الكوني. وليست الألحان محاكاة لنموذج متعال. وإنما ما ليس فعله بنية الإدراك الجمالي بما هي الشرط الذاتي لإمكان الألحان. وهكذا لا يمكن – فارابيا – تجاوز الإنسان بتوسط الموسيقى. كما لا تتجاوز الموسيقى النظرية الوجود العملي للنغم والالحان وإنما تكشف عن وجه الضرورة فيه. وذلك على نحو ينطق إجرائيا (العقلنة بما هي امتلاك المبادئ والقدرة على استنباط اللواحق) وتواصليا (الأنسنة بما هي القدرة على العبارة عن العلم تعليميا وتقويميا).
الهوامش:
(1) أنظر الفارابي، “الموسيقى الكبير” ص 36-38.
(2) أنظر ن. م. ص 137-138.
(3) يقول الفارابي معرفا العلم “هو أن يحصل عندنا أن الشيء موجود وسبب وجوده وأنه لا يمكن أن يكون هو في نفسه أصلا على غير ما حصل عندنا “ن. م. ص 82. وأنظر في ذلك الفارابي “فصول منتزعة”، ص51.
(4) يقول الفارابي: “فالنظري هو الذي به يعلم الإنسان الموجودات التي ليس شأنها أن نعملها نحن (ما ليس لنا فعله (والعملي هو الذي به تميز الأشياء التي شأنها أن نعملها نحن ونغيرها من حال إلى حال (ما لنا فعله)” ن. م. ص29-30.
(5) أنظر “الموسيقى الكبير”، ص49-52.
(6) لا يتعلق الأمر برد الصناعة العملية إلى الصناعة النظرية أو العكس. وذلك لأن الفارابي لا يكف عن التمييز بين الصناعتين من جهة الموضوع ومن جهة الغاية. كما أنه يقر بأن انتساب الموسيقى النظرية إلى الموسيقى العملية ليس إلا انتسابا عرضيا وبحسب الظن. أنظر في ذلك الفارابي، “البرهان”، الفصل الرابع، ص75.
(7) أنظر الفارابي، “إحصاء العلوم”، ص75-79.
(8) يقول الفارابي مثلا: “وأعني بالنطق العقل الخاص بالإنسان “الموسيقى الكبير”، ص50.
(9) ن. م. ص 82. وأنظر كذلك ن. م. ص 50.
(10) ن. م. ص73.
(11) أنظر ن. م. ص 50-52.
(12) ن. م. ص 83.
(13) “البرهان”، ص181 أو “الموسيقى الكبير”، ص37. ورد ذكره في “الفارابي في حدوده ورسومه” جعفر آل يس، ص476.
(14) أنظر “الموسيقى الكبير”، ص83.
(15) يقول الفارابي: “فإن الصناعات النظرية فيها أمور يلزم من قصده أن يصير من أهل تلك الصناعات أن تحصل له معرفتها بالفعل (معرفة الأصول). وأشياء ليس يلزمه ضرورة أن تكون معرفتها حاصلة عنده بالفعل. لكن تكون له قوة مستفادة بما قد علمه منها على استنباطها متى شاء (معرفة ما يلزم عن الأصول)”، ن. م. ص84.
(16) لا ينبغي أن يؤخذ معنى “الذاتية” كمقابل لمعنى “الموضوعية” وإنما هو مقابل لمعنى “العرضية”. فالمقوم الذاتي لشيء ما هو المقوم الداخل في تصور “ذات” الشيء.
(17) الفارابي “إحصاء العلوم”، ص45.
(18) أنظر في ما يتعلق بنظرية التخييل والتمثيل “آراء أهل المدينة الفاضلة”، ص147. وأنظر في معنى “التعقل”/ “فصول منتزعة”، ص61-62.
(19) الدلالة الإجرائية (العقلنة) المذهبية (الأنسنة).
(20) يزاوج الفارابي في اهتمامه بالموسيقى بين الأمرين. فإذا تعلق الأمر بالموسيقى من جهة ما هي “علم رياضي” أثبت الطرف الأول من الأمية، وذلك لأن الكيفيات والغايات لا قدرة للمفهوم الرياضي على حصرها فهي إذن لا معقولة بالنسبة إليه وينبغي إفراغ الموضوع منها. أما إذا تعلق الأمر بالموسيقى من جهة ما هي “مسألة فلسفية” فإنه يثبت الطرف الثاني من الأمية بحيث تصبح الكفيات والغايات معقولة يمكن تعقلها وقولها. ولما كان الأمر كذلك فإن المعقولية واللامعقولية أمور إضافية (نسبية على نحو ما).
(21) لا بمعنى أنه “لا محسوس” وإنما بمعنى أنه “مفهوم”، فالمعقول هنا ليس مقابلا “للمحسوس” وإنما مقابل “للمبهم” و”للأصم” في الدلالة الاصطلاحية الرياضية لهذين المفهومين. فالعدد الأصم هو ما ليس له جزء ينطق به أي ما لا يمكن تقديره على نحو دقيق. والتقدير هو مبدأ الحصر والترتيب. انظر مثلا إخوان الصفاء “الرسائل” الجزء الأول، الرسالة الأولى، ص90. وكذلك الفارابي، “إحصاء العلوم”، ص109.
(22) يمكن القول بأن معقولية الموجود عامة تمثل ثابتا من الثوابت النظرية في فلسفة الفارابي، وهو ما يعلل تطرقه إلى العديد من المسائل التي كانت تبدو لا عقلية (نقلية أو غيبية)، مثل مسألة المنامات والخشوع والوحي والنبوة التي حاول إخضاعها لأدوات التحليل العقلي (مفهوم المخيلة أساسا). أنظر مثلا، الفارابي “آراء أهل المدينة الفاضلة”، صفحات 108-116، وصفحات 160-165.
(23) نشير في هذا السياق إلى رأي الفارابي في صناعة الشعر وإلى نحو نظره فيها. فقد أعرض عن تكميل القول فيها متبينا في ذلك موقف ارسطو الذي لم يكمل صناعتي الشعر والمغالطة لأنه “لم يجد لمن تقدمه أصولا ولا قوانين حتى كان يأخذها ويرتبها ويبني عليها ويعطيها حًقها “الفارابي” مقالة في قوانين صناعة الشعراء”، ص149. هذه المقالة موجودة في أرسطو: “فن الشعر” ترجمة عبد الرحمان بدوي”.
(24) أنظر الفارابي “التعليقات”، ص 50.
(25) أنظر الفارابي “كتاب السياسة المدنية”، ص 40، طبعة سراس للنشر.
(26) أنظر الفارابي “التعليقات، ص59. قد يؤدي هذا القول إلى توهم الفصل بين المعرفي (المفهوم) والأنطولوجي (الوجود). وإنما يرفع هذا الوهم بالتأكيد على معيار “المطابقة” بين الفكر والوجود المحدد للحقيقة عند الفارابي. فإذا تعلق الأمر بالمعقول العملي فإن مبدأ “المطابقة” تتولى إثباته نظرية التعقل، وتتولى إثباته نظرية التعقل، وتتولى إثباته نظرية الحيل إذا تعلق الأمر بالمعقول النظري الرياضي.
(27) أنظر الفارابي “مقالة في قوانين صناعة الشعراء” (موجودة في أرسطو، “فن الشعر” ترجمة عبد الرحمان بدوي).
(28) يعني الاستنباط التحليلي الاستنباط الضروري الذي يستخرج ما يلزم ضرورة عن الأصول. وأما “بناء على المفهوم ذاته” فيعني الاستنباط في مستوى التصور النظري الذي لا يلتفت – لحظة صياغة العلم واستخراج ما يلزم عن الأصول – إلى الحكم على وجود “المعلوم” لا بالإيجاب ولا بالسلب.
(29) الفارابي “الموسيقى الكبير”، ص 48.
(30) فما يعقل من الألحان ليس “وجودا” آخر متجاوزا أنطولوجيا للموسيقى العملية، وإنما هو “صورة” الوجود العملي الصناعي للألحان.
(31) الفارابي “الموسيقى الكبير”، ص 51.
(32) أنظر ن. م. ص 55.
(33) أنظر ن. م. ص 56-58.
(34) و( 35) الفارابي ن. م. ص 58.
(36) الفارابي ن. م. ص 59.
(37) ويكتمل هذا الوعي باكتمال الهيئة النظرية.
(38) الفارابي “كتاب البرهان” الفصل الرابع ص 72-73.
(39) فالمعرفة العملية تقف على “أن الشيء” بينما تكشف المعرفة النظرية عن “لم الشيء”. وأما غاية العملية فالفعل، وأما غاية النظرية فالعلم.
(40) “الموسيقى الكبير”، ص 49-50.
(41) يقول الفارابي: “والألحان وما ينسب إليها هي من الأشياء التي تحس وتتخيل وتعقل”، ن.م. ص 48.
(42) “إحصاء العلوم”، ص86-87.
(43) انظر في هذا الأمر. الفارابي: “فصول منتزعة”، ص29-30، وص51، و”التنبيه على سبيل السعادة”، ص83-84. و”البرهان” الجزء الرابع، ص59. و”آراء أهل المدينة الفاضلة” ص90-91.
(44) فإذا كان الطب يشارك العلم الطبيعي على نحو ما، فإنه عملي ونظري إذن. ولكن النظري فيه يكون معدا دائما نحو العمل. إلا أن انتساب الطب للعملي وللنظري لا يمكن عكسه أو قلبه على نحو يجعل من العلم الطبيعي علما عمليا. فإذا كان الانتساب الأول انتسابا بالذات، فإن الانتساب الثاني الذي ينتج عن قلب العلاقة ليس إلا انتسابا عرضيا.
(45) فالصحة مثلا موضوع طبيعي نظري وذلك لأن قانونها والتنتاسب المنتج لها، هما مما “ليس لنا فعله”. فإذا كان الطبيب يتسلمهما من العلم الطبيعي كمقدمات فلأجل العمل، أي لكي يعيد “صناعيا” الصحة إلى جسم فقدها. فالطب صناعة عملية نظرية والعلم الطبيعي نظري محض.
(46) إن هذا الوجه الثالث للانتساب العرضي غامض المعنى. فالأشياء التي شأنها الإرادة والاختيار عملية لا محالة. فما مصدر انتسابها إلى النظري؟ يمكن إيضاح معنى هذا القول بالإشارة إلى التمييز الفارابي بين “السياسة العملية” و “السياسة العلمية” (انظر، الفارابي، “البرهان” الفصل الرابع، ص72). كما نشير إلى تأكيده على الاختلاف الجوهري بينهما. غير أن هذا التأكيد ذاته محرج وذلك لأنه يضيف إلى ما هو عملي في السياسة بعدا أخر نظريا فما الشيء الذي هو داخل “ما لنا فعله” ليس لنا فعله؟ هل في العملي ما هو ضروري؟ إن هذا السؤال محرج حقا.
(47) الفارابي “البرهان” الفصل الرابع، ص75. نشير إلى أن اتجاه التمييز في هذا القول سائر من النظري إلى العملي وذلك لأن القصد هنا هو رفع الشبهة عن بعض العلوم النظرية والكشف عن سبب الظن بانتسابها إلى العملي. وأما دلالة هذا الأمر فتتمثل في وضع الحد الفاصل بين العلوم على أساس التمييز بين ما لنا وما ليس لنا فعله. ونشير كذلك إلى ان انتساب الموسيقى النظرية إلى العملية لا يتعلق بالاشتراك في الاسم فقط وإن كان الفارابي يكتفي في هذا القول بهذا الوجه من الانتساب ويذكر الموسيقى على سبيل المثال. وذلك لأن هذا الانتساب العرضي للموسيقى النظرية إلى العملية قد يؤخذ أيضا على الوجوه الثلاثة الأخرى وخاصة الوجه الثاني منها.
(48) “البرهان” الفصل الرابع، ص72.
(49) إن هذا التأكيد على الوجود “الصناعي” للموسيقى ثابت نظري من ثوابت فلسفة الموسيقى عند الفارابي وهو يمثل الأساس الذي يبني عليه الفارابي نظريته والذي يميزها عن الأطروحات الفيثاغورية الأفلاطونية وعن أطروحات الكندي وإخوان الصفاء.
(50) “الموسيقى الكبير”، ص 89.
(51) ن. م. ص94-95. أما قوله “ذينك الوجهين” فللتمييز بين اليقين الذي تعطيه “الكليات الكاملة” التي يكون محمولها مقولا على كل الموضوع في الزمان كله، وبين اليقين الذي تعطيه ” الكليات على الأكثر” التي يكون محمولا مقولا على كل الموضوع في أكثر الزمان، أو على أكثر الموضوع في أكثر الزمان. انظر، ن. م. ص95.
(52) ن. م. ص94، ينبغي أن نشير هنا إلى أن التعمد والقصد المميز للتجربة لا يتعلق إلا بالإحساس. أما فعل العقل فإنه تلقائي راجع إلى القوة الطبيعية التي في الإنسان. انظر ن. م. ص93.
(53) انظر، ن. م. ص 49-50.
(54) انظر، حسين علي محفوظ وجعفر أل يس، “مؤلفات الفارابي”، ص231.
(55) الفارابي، “التعليقات، ص38-39.
(56) ينبغي أن نشير في هذا السياق إلى أن “التجربة” تؤخذ في معنيين، المعنى الابستمولوجي الذي تكون به صناعة الموسيقى العملية، صناعة تجريبية. فإذا قلنا أن التجربة في معناها الأول مشروطة بحصول الألحان والنغم محسوسة بالصناعة، فذلك لا يعني أن “التجربة” شيء ما مختلف عن الصناعة العملية ومضاف إليها من خارج. وإنما التمييز هنا منهجي فقط، ولا تعني “البعدية” هنا المعنى الزمني وإنما المعنى المنطقي.
(57) الفارابي، “الموسيقى الكبير”، ص70.
(58) انظر، ن. م. ص 71.
(59) ن. م. ص 74.
(60) نشير – كمثال على هذا الادعاء – إلى الكندي الذي يؤكد على أن حدوث الألحان وظهور الآلات راجع إلى ذكاء الحكماء وفطنتهم فيلغي بذلك الطابع التجريبي التاريخي لظهور الموسيقى، (انظر، الكندي “كتاب المصوتات الوترية من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشر أوتار” موجود في “مؤلفات الكندي الموسيقية” تحقيق زكريا يوسف). كما نشير إلى إخوان الصفاء ونذكر لهم هذا القول “فلما وجد في عالم الكون حركات منتظمة لها نغمات متناسبة دلت على أن في عالم الأفلاك لتلك الحركات المنتظمة المتصلة نغمات متناسبة مفرحة لنفوسها ومشوقة لها إلى ما فوقها كما يوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء والأمهات.. كما ذكر في حد الفلسفة أنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسية. ويقال أن فيتاغورس الحكيم سمع بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه نغمات حركات الأفلاك والكواكب واستخرج بجودة فطرته أصول الموسيقى ونغمات الألحان وهو أول من تكلم في هذا العلم وأخبر عن هذا السر من الحكماء ثم بعده نيقوماخس وبطليموس وأقليدس وغيرهم من الحكماء. وهذا كان غرض الحكماء من استعمالهم الألحان الموسيقية ونغم الأوتار في الهياكل وبيوت العبادات عند القرابين في سنن النواميس الإلهية “. “الرسائل” المجلد الأول، ص213. فالصنائع استخرجها الحكماء بحكمتهم ثم تعلمها الناس منهم وهو ما يلغي البعد العملي التجريبي لنشأة الصنائع واكتمالها.
(61) الفارابي، “الموسيقى الكبير”، ص99. ونشدد على أهمية التمييز بين قوله “حسن تصرفه وجودة تأتيه للأعمال” وقوله “جودة فهمه وقوته على إدراك الأشياء كلها”. وذلك لأن العملي ينبغي أن يكون عملي الأصل (حسن التصرف) لا نظري الأصل (جودة الفهم)..
(62) الفارابي ن. م. ص 92.
(63) انظر، ن. م. ص 98.
(64) ن. م. ص 75.
(65) انظر: ن. م. ص 174-178.
(66) يشير الفارابي إلى أنه بالإمكان الوقوف على ما هو طبيعي للإنسان من الملائم وغير الملائم من الألحان، لأن ذلك قد تعين واكتمل في تجربة بعض الأمم مثل العرب والرومان واليونانيين، انظر ن. م. ص 108-110.
(67) الذي هو معيار اللذة والألم .
(68) الفارابي، “البرهان” الفصل الرابع، ص 72.
(69) الفارابي، “الموسيقى الكبير”، ص102.
(70) و( 71) ن. م. ص 186-187.
(72) انظر في الفرق بين طريق التحليل وطريق التركيب، ن. م. ص 187.
(73) ن. م. ص 49-50.