د. عبيد القادر بودومة[(*)]
الفينومينولوجيا المنهج والموقف:
لم يسعى “هوسرل” Husserl (1938- 1859) إلى إقامة مذهبا “فلسفيا”. ولا إلى تأسيس مدرسة للتفكير، حيث يكون رئيسها، ولم يمل، أو يفرض عقيدة أو اعتقاداً فلسفيا على مريديه، وإنما كان خلاف ذلك تماما. فلقد قام بفتح الطريق نحو بناء فكر منفتح على التساؤل. وأسس في الأصل حركة فكرية تمكن الآخرين من التواصل، والانخراط بحرية بداخلها من دون “دوغمائيات”، ذلك لأن نجاح الفكر ارتبط لدى “هوسرل” بمدى قدرته على الإدراك، أو الفهم العلمي الذي قد يعكسه العمل الفلسفي باعتباره عمل فريق بحث. وتمكن تحديداً أصالة الطريق الذي قام هوسرل يشقه في مدى قدرته على ترسيخ تصور جديد لمفهوم الوعي Conscience. المفهوم الذي أحدث من خلاله قطعاً مع الصور المجردة، والعقلانية التي ميزت الفلسفات التقليدية.
من هذا المنطلق بإمكاننا القول أن “الفينومينولوجيا” “phѐnomѐnologie” تحددت انطلاقا من العبارة الفاتحة: “العودة إلى الأشياء- عينها” Retour aux choses- memes”.
العبارة التي جعل منها هوسرل خيطه الهادي نحو إقامة بحوثه الأساسية، ويجب الإشارة أن الأشياء التي تتحدث عنها العبارة، والتي كانت موضع سؤال، لم تكن أبداً حقائق واقعية، أي متواجدة بالخارج، خارج الذات. وإنما هي معيشات، بإمكاننا أن ننجز حولها تحليلاً معمقاً. لكن ما هي المنطلقات الأساسية التي مكنت الفينومينولوجيا من الظهور؟ وكيف تمكنت الفينومينولوجيا نفسها من التموقع؟ بالمقارنة من التاريخ الطويل للفلسفة، أي منذ اللحظة الإغريقية؟ وهل ثمة ما يبرر أصالتها عن الفلسفات التقليدية، باعتبارها جاءت لتعلن عن ضرورة تخطيها، لكونها كرست في مجملها الميتافيزيقا؟
نشأة الفينومينولوجيا :
لقد قامت الفينومينولوجيا الناشئة على وصف Description، فمكنها من الاقتراب، والإقامة بجوار الأطروحات الفلسفية الكلاسيكية السائدة آنذاك في ألمانيا، مع منتصف القرن التاسع عشر، وبالأخص: التجريبانية L’Empérisme التي تنظر إلى فعالية المعرفة كعدد كبير من الوقائع النفسية. وبالتالي يبدو ضرورياُ البحث عن عللها وأسبابها، عبر الاستنتاجات. والكانطية- الجديدة Néo-Kantisme التي ترجع إلى الظروف الترنسندنتالية إمكان العلوم الطبيعية الحديثة، وربما كانت رؤية كل منهما إلى نظرية المعرفة المشتركة هو ما يبرر إلتقاؤهما، بحيث مثلث هذه النظرية الرؤية الأساسية للفلسفة.
إن هوسرل وقبل إعلانه عن الاكتشافات الجوهرية التي توصل إليها والتي مكنته من إقامة الرؤية المنهجية، كشف عن مواجهته الجذرية من خلال مبدءه الذي أشرنا إليه، على ضرورة تخطي الأحكام المسبقة, فدعا إلى التحرر منها. وهذا ما مكن الفينومينولوجيا من أن تغدو بعد ذلك المعرفة المتمردة، الرافضة للتقليد الميتافزيقي برمته (هوسرل (إ): 1990. المدخل، الفقرة (07)). طبعا لا يهم هذه التصورات الموروثة إن كانت تعتمد على ما هو تجريبي مشترك، أو على نتائج العلم، أو حتى على التراث المبالغ فيه. من قبل التقليد الفلسفي، المليء بالمبادئ وبالأسئلة، وبالتعارف والمفاهيم…
إن “العودة إلى الأشياء- عينها” هو بمثابة المبدأ القبلي المدشن للوصف المحض، والفينومينولوجيا من خلال هذه اللغة تجد نفسها لحظة قيامها بتأمل الظواهر مدركة بالكيفية نفسها التي أدركت من خلالها الفلسفات الكلاسيكية الظواهر. فهي مدركة تارة بواسطة المفاهيم، والمخططات التي تجد في التقليد الميتافيزيقي، منبعها الحقيقي. أي في الميتافزيق ذاتها مثل: السيلان Flux، النوئيم Noéme، النوئيس Noése، الماهية Essence، والمقولة Catégoie، وتارة أخرى تكون مدركة بواسطة التمايزات القائمة عليها: المحابثة Immanence، والترنسندنتالية Tranuscendance. وعليه فإن اللغة التي أنتجت من خلالها الفلسفات الكلاسيكية خطا بها حول الظواهر، هي اللغة نفسها التي أنتجت من خلاله الفينومينولوجيا بدورها خطابها. لهذا فكلما عممت توصيفاتها، وترسخت. وجدت نفسها مقتادة إلى مهمة الكشف عن الأساس الشامل الذي ما فتئت تطمح إليه كل الفلسفات منذ اللحظة الأفلاطونية. وهذا ضمن ما يسمى بالعلم الشامل.
وعليه فإنه لا يمكن للفينومينولوجيا أن تحما اسما آخر غير الاسم الذي تم وضعه شراح “أرسطو” لعمله” الميتافيزيقا. أو الفلسفة الأولى. إن هوسرل يقيم فينومينولوجيته ضمن الحلم الفلسفي الأول[(*)]. بمعنى أن تقيم البدء الفلسفي الإغريقي.
وحتى إن سلمنا بخلاف ذلك، فإن الفلسفة الأولى، ورغم رفضها لكل التراث الفلسفي الموروث. تجد نفسها مسيرة نحو مواجهة وبكيفيتها الخاصة مع التاريخ الطويل للفلسفة منذ أفلاطون إلى غاية ثورة كانط الكوبرنيكية (1990، ص 133).
في نص 1930 المستعمل كمدخل إلى الطبعة الإنجليزية لعمله: “الأفكار المسددة لأجل الفينومينولوجيا وللفلسفة الفينومينولوجية المحضة” غير هوسرل يحدد الفينومينولوجيا باعتبارها: علم البدء الجديد. أي بمثابة الاستعادة للفكر الأصلية للفلسفة، التي تحدث عنها أفلاطون والتي تأخذ دلالة العلم الصارم (هورسل (إ): 1995، ص 181). مثلما يؤشر على ذلك عنوان مقالته الشهيرة، والمنشورة بمجلة “لوغوس”، سنة 1911: “الفلسفة باعتبارها علماً صارماً philosophie als strengewissen chaft. ومن هذا المنطلق تحديداً سيحصل أن تتميز الفلسفة عن العلم الوضعي ذلك لأنها ستتموضع مثلما يشير إلى ذلك هوسرل في عمله: فكرة الفينومينولوجيا” Die Idée der phànomenologie” الصادر سنة 1907: ضمن بعد جديد كلية، ومنهج جديد كل الجدة، القادر على أن يميزها مبدئياً عن العلم الطبيعي.
منهج الفينومينولوجيا :
المنهج داخل العلوم الوضعية هو أساساً منهج الفحص والتمحيص يسعى جاهداً إلى إثبات الفرضيات، وذلك من خلال التفاته إلى المعطى. إلى الظاهرة أي إلى ذلك الذي تعتبره كل العلوم الوضعية بأنه يعطي بصورة سابقة، بصورة جاهزة كموضوعها للبحث وللدراسة. ولأجل تحققه ينبغي عليها إقامة الفرضيات الضرورية. في حين الفلسفة، وعلى خلاف ذلك تماماً، لا يمكنها افتراض شيء. ولا يمكنها الاعتماد على معنى مقدم سلفاً. هذا ما أقره هوسرل في عمله: “الأفكار المسددة” Nachwort in idéen, III: الفلسفة هي علم الأساس الأخير. فهي التبرير الأخير لذاتها. وليس ثمة بداهة بإمكانها الجعل منها قاعدة للمعرفة. وعليه لا يمكن لمنهج الفلسفة أن يحدث تقارباً مع المنهج الخاص بالعلوم الطبيعية، ولا حتى بمنهج البرهنة الخاص بعلوم الرياضة. ذلك لأن الرياضيات الأكثر صرامة. والعلم الرياضي للطبيعة، ليس لديهما أي تفوق، أو استعلاء بالنسبة إلى المعرفة. سواء كانت واقعة، أو تفترضها من التجربة المشتركة. فالأمر يتعلق لدى هوسرل بأن يتم النظر إلى الفلسفة باعتبارها علماً جاعلاً من العلوم المؤسسة سلفاً نموذجه (بالمعنى الذي تأخذه الثورة الكوبرنيكية داخل المشروع الكانطي، والثورة الغاليلية داخل المشروع الديكارتي…)، وإنما بالأحرى فهم بأن الفلسفة تقيم فكرة العلم بواسطة الفلسفة ذاتها. إنها العلم بامتياز، وعليه فأننا نجدها تفرض، وتلزم بإقامة منهج جديد مستحدث، الذي تتمكن من أن تمنح بواسطته ميدانها الخاص. ومقدماتها الحقيقية (هوسرل (إ): 1992، ص 48).
باختصار يمكننا الإشارة إلى المسارات الأساسية التي يعرفها المنهج الفينومينولوجي، باعتباره إجراء، وموقف في آن معاً: فهو يبدو يوصف التجلي المباشر للعالم. وصف لا يحمل دلالة إلا عندما يغدو وصف العالم وصفا لتجربة الأنا المنجزة من قبل الأنا نفسه. أي أنه وصف أمبيري ذاتي auto description empirique. فهو ينجز وصف للموقف الطبيعي وصفاً ذاتياً لما يظهر ويتجلى. وعليه ينجز الأنا انعطافاً على ذاته. لكن لا يكفي من هذا المنطلق أن يكون الوصف متحرراً من الفرضيات، وإنما وعلى خلاف ذلك يلزمها بنقد المعرفة، طبعاً لا يتعلق الأمر بتفسير الظواهر، وإنما بفهم مجموع العلاقات، الإجراءات، والبنيات المتواجدة في صلب فعل المعرفة، حيث تتمكن هذه الأخيرة بالقيام باختبار أو امتحان صلاحيتها.
وسيكون هذا التفسير المنجز على معيشات المعرفة هو نفسه قائماً يدخل بنيات ماهيتها, وعليه فإن سوف لن تكون المعيشات مدركة من وجهة نظر سيكولوجية في علاقتها بنا. إن نقد المعرفة لا يمكن أن يحصل من دون فرضيات قائمة. فالأمر مرتبط بفهم كيفيات التجلي، وليس بالتجلي نفسه. وسيعرف الرد الفينومينولوجي Réduction phѐnomѐnologie بدأه باعتباره اللحظة الثالثة عندما يقوم بتعليق كل اعتقاد.
بوجود فعلي للأشياء وللأنا، وكأنها مدركة باعتبارها إشكالات ترنسندنتالية. وإذا كان الرد يمنح لنا المعيشات وكأنها قد تخلت عن معناها الحقيقي. فإن السؤال المطروح سيكون من الآن فصاعداً، مرتبطاً تحدياً بمعرفة كما نحن بصدد البحث عن معرفته فيها. يمكن إذا مجهود هوسرل في السعي لإيضاح ما يلي: إن المعرفة السيكولوجية العادية هي من عمل حقل مفاهيمي، وما هوي، وأنه بفضل امتلاكنا لحدس الماهيات سوف تحدد بدورها القصد الجديد للبحث (هنري (م): 2003 ص 183)، بعيداً عن حدس الماهية. فإن المنهج الفينومينولوجي هو بمثابة تحليل قصدي طبعاً لن يكون هذا التحليل مرتبطاً بتحليل المعطيات وإنما يرتكز تحديداً على معرفة أساسية، والمتمثلة في أن كل وعي هو قصد لشيء ما والذي هو في كل مرة أكثر قصداً من قصدية. من هذا الموقع تظهر الفينومينولوجيا كإيضاح Elucidation لكل شكل ممكن من الوجود.
تنفتح الفينومينولوجيا إذا على مفهوم الظاهرة في تعدد دلالاته، وتقوم بهذا العمل ليس من موضع العلوم الكيفية التي تفهم من خلالها الظاهرة، الفهم القائم على الموقف الطبيعي، وإنما تتعامل مع الظاهرة بشكل مختلف، أي من موقع الموقف الفينومينولوجي، يبدو إذا المبدأ واحد، والكيفية مختلفة في فهم الفينومينولوجيا للظاهرة.
لكن فيم يمكن الاختلاف الأساسي للموقف الفينومينولوجي، عن الموقف الخاص بالموقف الطبيعي (العلمي)؟ ما هو التعديل الذي قد يطال الظاهرة في استعمالها العلمي، عن ذلك الذي قد يتم تلقيه للمعنى الخاص بالفينومينولوجيا وعلى الخصوص ما هي طبيعة الرابط بين الذاتية، والظاهراتية phénoménalité- وكأن المعنى الثاني متغير وفق وظيفة المواقف المتخذة من طرف الأول؟ فإذا كانت الظواهر متعددة. فإن الظاهراتية واحدة لقد عملت الفينومينولوجيا على إزاحة الموقف العلمي (الطبيعي) من خلال المثال الخاص: بالسيكولوجيا psychologie: إن السيكولوجيا هي العلم الاختباري الذي يتناول الوقائع أو الأحداث الفعلية (الواقعية).
وأن هذه الظواهر التي نقوم بدراستها تتواجد في العالم المكانو- زماني. والمحكوم بالسببية. وعليه تنطلق السيكولوجيا من افتراض وجود فعلى للعالم، الافتراض الذي تعود إليه كل شمولية الظواهر. أي أن العالم هو مجموع الظواهر التي يتعامل وفقها العالم، وفق منهج اختباري معين. شأنها شأن كل العلوم.
فالسيكولوجيا تفترض العالم جاعلة منه الأرضية نفسها التي تقف عليها. وافتراض العالم لا يعني النظر إليه باعتباره واقعي وحسب. وإنما الأمر أكثر من ذلك. إذ يتم النظر إليه من المعنى نفسه لهذه الواقعة باعتباره معناً واضحاً، ومتميزاً. إن المبدأ الديكارتي القائم على مسلمة مفادها: أن الأشياء معطاه إلينا في وضوحها وتميزها أي في بداهتها هو بمثابة الافتراض للعالم الذي ينظر إليه هوسرل باعتباره المعطر الأساسي للعقل. وإذا كانت أوروبا هي الاسم الجغرافي لعقلانية فلسفية. أس أساس مطلق لكل معارف ممكنة. فالحق يقال بأن العياء هو الخطر الأكبر الذي يهدد أوروبا.
وهذا بالتحديد ما جعل هوسرل يبدء في مهاجمه السيكولوجيا في مذهبيتها الوضعية، باعتبارها نفسانوية Psychologisme.
إن سبب تحامي هوسرل على النفسانوية، على الرغم من أنه كان يرى فيها النموذج المثور من خلالها تبينها منهج القصدية. المنهج الذي استعاره من العالم والفيلسوف السيكولوجي “فرانز برانتانو Brentano (F). إلا أنه اكتشف الهوة السحيقة التي حالت دون أن تبقي محتفظة بمكانتها. وترجع حقيقة هذه الهوة في كون السيكولوجيا التي تعاملت معها النفسانويين كانت مجرد محاكاة في أسلوب طرحها لأسئلتها. وتحديد مبدأها. ومنهج علمها علوم الطبيعة الحديثة.
دون أن يتم الاهتمام بالاختلاف الجذري الذي يوجد بين ميدان علوم الطبيعة. وميدان السيكولوجيا. وهذا ما نجم عنه ظهور ما يسمى بالسيكولوجية التجريبية. وضعية النزعة غير قادرة على إدراك الماهية الحق للنفس. هذا ما جعل هوسرل يفتح نقداً جذرياً ضدها، مؤكداً على ضرورة شق الطريق المؤدي إلى السيكولوجية الفينومينولوجية، وقد أرجع الفشل الذريع الذي عانت منه الفلسفة الترنسندنتالية من تحقيق كيانها إلى فشلها في عدم حصولها على سيكولوجية حقيقية. يمكن الاعتماد عليها في تحليلاتها. ومن هذا الموقع سيكون إخفاق النفسانوية وشلها واضحاً ومفهوماً.
وسيصبح كما يقول هوسرل التناقض الذي يطبع ويميز وجودها التاريخي مفهوما، فهي تدعى (حسب المعنى الذي آل تاريخياً إليها) أنها العلم الفلسفي الأساسي، في حين أنه قد نجمت عنها ما هو واضح النتائج المتناقضة كما يسمى بالنفسانوية. (هوسرل (أ): 2008. ص 62).
إن المأخذ الوحيد والأساسي الذي يأخذه هوسرل على النفسانوية يمكن تحديداً في كونها تحدث خلطاً للسؤال عن التفكير الصحيح مع الوصف التجريبي للعمليات الفكرية، أي تخلط بين الفكرة بصفتها ما يتم تفكيره، وبين عملية التفكير. ولإيضاح ذلك يلجئ هوسرل إلى مثال الحكم jugement فالنزعة النفسانوية لا تميز بين الحكم يوصفه عملية سيكولوجية. تجري وفعلياً. والحكم بوصفه مضموناً موضوعياً مستقتلاً عن الإنجاز الفعلي لهذه العملية من طرف وعي ما.
الأول يمكن وصفه تجريبياً. أما الثاني فلا يقبل هذا النوع من الوصف. الأول عملية واقعية وفعلية تحدث في الزمان. أما الثاني فهو يتمتع بصلاحية فو-زمنية. مثلاً الحكم بأن 3+3= 6 هو بالمعنى الأول عملية واقعية قد تجري اليوم أو غداً. وقد أجر بها أنا. أو يجريها غيري, أما الحكم 3+3= 6 مضموناً موضوعياً. فهو لا يتكرر، ولا يتمتع بصلاحية موضوعية سواءً تم إنجازه بالفعل أم لم يتم ذلك. الحكم بالمعنى الأول يدخل في مجال السكولوجية، أما بالمعنى الثاني فإنه يدخل ضمن اهتمام ميدان المنطق (داستور (ف): 2004، ص 56).
النفسانوية من هذا المنظور تؤدي إلى نزعة نسبية متطرقة. بل وريبية. تقضي على طموح العلم نحو إنشاء معرفة صارمة لها صلاحية موضوعية. ذلك لأن التوجه الرئيسي للنفسانوية يقوم تحديداً على اعتبرا أن العمليات المنطقية هي عمليات سيكولوجية تجري فعلياً في الذهن البشري، وأن القوانين التي تسمى منطقية ليست سويا قوانين عامة. تجري وفقها هذه العمليات. إذ أن القوانين الطبيعية بالنسبة إلى ظواهر العالم. هذا ما تعتقد به النفسانوية وهذا بالضبط ما عجل كل قول بأقوالها. وتغطيها.
يبقى القول بأن الفينزمينولوجيا هي دراسة الظواهر، أي دراسة الأشياء التي تظهر، قولا غير كافياً ما دمنا لم نقف عند التمييز القائم بين الظهور الحق، وبين الظهور التجريبي. فانطلاقاً من هذا التمييز سيقدم هوسرل على تأسيس الفينومينولوجيا باعتبارها علما صارما. الأمر يتعلق لديه بتحديد ماهية الظواهر.
وبصورة أخرى تحديد نواتها العقلية والشاملة، وبالإضافة إلى ذلك تقدم الفينومينولوجيا نفسها باعتبارها نظرية الدلالة المعارضة للنفسانوية. لأن هوسرل لا يقر أبدا بوجود دلالة في ذاتها, اذكر ظاهرة هي بالنسبة إلى الوعي، من حيث قدرتها على الإظهار. والتي تقوم في حد ذاتها كمنبع شامل للمعنى. وعليه تقترح الفينومينولوجيا كمرحلة ثانية الصعود نحو هذا المنبع ويمثل هذا العمل جهد لإقامة معنى الظواهر في بداهة حدسية. حيث يكون الكوجيتو الديكارتي نموذجا الحقيق والأساسي.
الفينومينولوجيا الأزمة: طرق ممكنة وأزمة دائمة
تنفتح التأملات الديكارتية 1929 على استشعار حالة من الغموض، بحيث سنحضر مع هوسرل نوع من التشخيص. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر حدث انحطاط الفلسفة ذاتها. سواءً تم النظر إلى الفلسفة من موقع أهدافها النظرية، أو من موقع منهجها، إلى درجة أنه صار من المستحيل الإقرار بوجود معنى واحد ووحيد للفلسفة. فمما لاشك فيه أنه ثمة مجالات، ومؤتمرات عملية فتحت المجال أمام النقاشات بين الفلاسفة، لكن تختبئ وراء هذه الممارسات وللأسف وهم إقامة مؤسسة علمية صارمة. فقد يلتقي الفلاسفة في العديد من المناسبات للبحث والدراسة فيما بينهم حول قضايا الفلسفة.
لكن لم يحصل يوما أن اجتمعت الفلسفات. لقد يقول هورسل: الإيمان بالفلسفة، ولم يعد إيماناً حقيقياً، وليس هذا بلا سبب، فبدلا من فلسفة واحدة وحية ماذا نملك فعلا. إننا نملك إنتاجاً ضخماً من الأعمال الفلسفة لكي ينقصها كل ارتباط داخلي. وعندنا ما يشبه عروضا للمذاهب ونقد لها… إننا لا نجد أبدا جهودا متبادلة وشعورا بالمسؤوليات وروق للتعاون الجد. من أجل تحقيق النتائج الصحيحة موضعيا أي التي نقاها النقد، المستمر، والقادرة على الصمود في وجه كل نقد لاحق” (هوسرل (): 1970، ص 104). ولكي نتمكن من الدخول بالفعل في حوار جاد وصارم. يجب أن يتوفر للفلسفات المختلفة “فضاءً روحيا” geistigraum. فضاء مشترك، حيث ينفتح كل واحد على الآخر، وتسلك كل فلسفة مسلك الأخرى.
ولكي يحصل هذا النوع من السكن والإقامة بداخل الفلسفة الحق. يقترح هورسل الانعطاف مجددا نحو الاكتشاف الديكارتي الخاص ب “الأنا لوجيتو” ego logito القادر في نظره على منحنا مجددا فرصة معاودة إحياء الحوار الفلسفي “فإذا كان يجب علينا استخدام هذه التأملات الديكارتية، كمدخل صحيح إلى الفلسفة الوقعية بصفتها فكرة علمية ضرورية… فإنه يجب أن تقودنا هذه التأملات بعيدا بحيث لا تترك في الظلام أمراً يتعلق باتجاهها.
وهدفها. ويجب عليها كما كان أيضا هو غرض التأملات الديكارتية القديمة، توضيح المسائل الكلية التي تتعلق بالفكرة الغاية في الفلسفة” (هوسرل (إ): 1970، ص 209، الفقرة 41).
يجعل هوسرل من “الأنا لوجيتو” محك كل حوار فلسفي جاد، كما يلزمنا بضرورة الالتزام من البداية بالأطروحة التي تصير من خلالها الذاتية الترنسندنتالية أصل كل دلالة. ومما لاشك فيه أن المثالية الترنسندنتالية التي حاول المشروع الهوسرلي تدشينها كانت بمثابة الدافع الحقيقي الأكثر إثارة للنزاع حول التصور الهوسرلي للفلسفة. مع العلم أنه يبدو ضروريا التعجيل بإحداث التمييز بين الفلسفات الكلاسيكية، خاصة الكانطية، والكانطية- الجديدة وبين الفينومينولوجيا.
إذ كثير ما حاولت العديد من القراءات إلحاق هذه الأخيرة بالمثالية الأنفلاطونية، وبالديكارتية، وبالكانطية. إن مشكل هذه الأخيرة هو مشكل إبيستمولوجي يرتكز حول البحث في شروط إمكان المعرفة الموضوعية. مع العلم أن الكانطية الجديدة على وجه الخصوص تقترض وجود العلم قائما في ذاته، أي أنها لا تعتقد بإمكان الشك في وجوده، فهي حقيقة قائمة بذاتها، وأن القضية الأساسية تكمن تحديدا في فهم الكيفية التي تمكننا من معرفة العالم، إلا أن الفينومينولوجيا لا تجعل منها جوهرية فهي ترتكز على مشكل أصل العالم، طارحة السؤال الأساسي بالنسبة إليها، كيف يتقوم العالم باعتباره ظاهرة بالنسبة إلى الوعي؟ بالنسبة إلى الفينومينولوجيا، فإن الطريق الوحيد الذي بإمكانه أن يقدم لنا إجابة مرضية، هو أن نتخلى عن الموقف الطبيعي (العلمي)، وأن نقوم بوضع بين قوسين، وذلك عن طريق الرد الفينومينولوجي كل أحكامنا السابقة تجاه العالم، وهذا يعنى أن يجب القيام بتعليق كل اعتقاد بوجود العالم بهدف الاكتفاء بوصف بسيط للتجربة المباشرة التي يمنحها لنا الوعي، ولما كانت من المعتذر على الكانطية، والكانطية الجديدة إنجاز هذا النوع من التعليق، وترفض في الآن معا ممارسة الرد الفينومينولوجي فإن كل حوار بين الفلسفتين يبدو معتذر التحقق.
ولقد حاولت قراءات أخرى إلحاق مشروع هوسرل الفلسفي بالديكارتية. جاعلة منه امتداد طبيعي إلى فلسفة ديكارت، وأنه بمناسبة ديكارتية جديدة… فعلى الرغم من إصرار هوسرل الدائم على ذكر أهمية الطريق الديكارتي. وهذا ما تقر به تأملاته الديكارتية لسنة 1929، إلا أننا نؤكد على أنه لم ينظر إلى ديكارت باعتباره الامتياز الوحيد أو النهائي الذي تقوم عليه الفينومينولوجيا ففي عمله: مدخل على أفكاري Postface âmes idées يؤكد على أنه قد اخذ لمشروعه العديد من الطرق، ولم يكتفي أبدا بطريق واحد، قصد التمكن من النفاذ إلى الذاتية الترنسندنتالية. فالطريق الأول الذي قدم نفسه إليه كان الطريق الديكارتي chemin cartésien لنقد التجربة الحديثة حيث المتبقي هو: “الإيغو” Ego (الأنا) الترسندنتالي. فالأمر يتعلق في هذا الطريق يوضع بين قوسين وجود العالم قصد الكشف عن ذاته. كذاتية ترنسندنتالية محضة، والتمكن من الخروج من الموقف الطبيعي والذي يكون فيه الأنا الترسندنتالي متواريا”. لكن ألا يوجد طريق آخر بإمكانه السير بنا قدما يتساءل “هوسرل” نحو ذاتية ترسندنتالية من دون اللجوء إلى وسيط: الشك الجذري على وجود العالم. والقيام بذلك على حمل الإيبوخيه époké على الأفعال الخاصة بالأنا الطبيعي، قصد التمكن من إبراز ما تحمله من ذاتية محضة.
هذا ما سيقدم هوسرل على الإشارة إليه في الجزء الثاني من عمله المقدم على شكل دروس سنتي 1923- 1924، والمعنون ب “الفلسفة الأولى”- نظرية الرد الفينومينولوجي. فبدل من البدء بهذا الطريق الطويل والمضنى لنقد تجربة العالم، ألا يكون كافية وضع الإيبوخية موضع سؤال مباشرة: هذا ما يبرر انتقال هوسرل إلى ابتكار الطريق الثاني والذي يطلق عليه اسم: الطريق السيكولوجي chemin de la psychologie يرتكز هذا الطريق على منح للرد معنى جديد. إذ يجب أن يتم فهمه ليس من منطلق كونه إقصاء اللجوء الترسندنتالي، وإنما باعتباره رد إلى ذاتية محضة وذلك بفضل مصلحة تأميله تلتفت إلى الأنا الطبيعي نحو المركبات الذاتية المحضة لأفعال الأنا. الملاحظ أن هذا الطريق يسمح فقط بالولوج إلى الذاتية في معناها المفعم أو المكتمل. أي إلى: التذاوت الترنسندنتالي intersubjectivité transcendental-.
ذلك لأنه وبمجرد ما يتم وضع الوجود الحديث موضع تعليق يندرج أيضا صمنها الوجود الجسداني corporelle للآخر. نحن نعلم أن الآخر لا يمكنه أبدا الحضور لوحده، وإنما يجب عليه وبخلاف ذلك أن يحضر بواسطة وسيط: بدن جسده son corps de chair. فإذا كان هذا الأخير مدرج بداخل الإبيوخية فإن غرابة الذاتية ستكون كذلك بالضرورة، وأن الذات التي تحقق الرد سيكون محكوم عليها “الأنانه” Solipsisme، فإذا كنا على العكس من ذلك متواجدون على مستوى الموقف الطبيعي، فإننا سنعي بواسطة الاستشعار introputhie الأنا آخر، حيث يكون الوجود متضمن تقريبا داخل وجودنا.
وعيله بإمكاننا أن نخلص إلى الذاتية المحضة، وذلك بالمعنى الشامل universal، إنها ذاتية لا تحقق فينا وحسب وإنما تتحقق أيضا داخل ذوات أخرى: “فيمثل ما يكون بمستطاعنا القيام بالرد الفينومينولوجي على أفعالنا الخاصة.- أفعال حاضرة أو أفعال تضمنية قصدية، أفعال واقعية أو خيالية يكون بمستطاعنا القيام بهذا الرد على أفعال الآخر، حيث نعيه بواسطة الاستشعار”(هوسرل (إ). ص 189) إن هذا الأخير هو بمثابة التجربة التي تميز إدراكنا للناس الآخرين عن إدراك الموضوعات، إذ كل ارتباط بالآخرين يرافقه بضرورة ماهوية حسب هوسرل استشعار يغض النظر عن صفاتهم، إن الاستشعار “هو الذي يسمح لنا قبل كل شيء بمعرفة أن كائنا نفسيا يسود في الجسم المدرك. الاستشعار إذا هو القدرة على أن نضع أنفسنا في عالم تمثل الآخرين وهو بذلك شرط إمكانية فهم الآخرين. إنه القدرة على أن نفكر أنفسنا وضعية الآخرين، وأن ننفذ إلى عالمهم الداخلي” (2008. الهامش ص 258) ألاحظ على هامش ذلك الطريق الأقصر جداً إلى الإيبوخيه الترسندنتالي في كتابي: “أفكار من أجل فينومينولوجيا خاصة، وفلسفة فينومينولوجية الذي أسميه (القول الهوسرل)” ب “الطريق الديكارتي” له عيب كبير يتمثل حديداً في أنه وإن كان يقود دفعة واحدة إلى الأنا ego الترسندنتالي. إلا أن هذا الأخير يظهر بسبب غياب كل بسط explication سابق، كما لو كان فارغاً من أي مضمون”.
إن الطريق الذي سار عليه هوسرل، والذي ابتدءه منذ سنوات العشرينيات من القرن السابق لم يكن هو الآخر الطريق الأوحد والمفضل الذي قد يسير بنا نحو الرد بجانب الطريق الديكارتي. إذ تمكن هوسرل بعدها من شق طريق ثالث سماه ب: طريق أنطولوجيا عالم الحياة chemin de l’ontologie du monde de la vie، الذي بلور هوسلر معالمه في عمله: “أزمة العلوم الأوروبية، الفينومينولوجيا الترسندنتالية، الفترة التي سيقوم من خلالها عن التخلي نهائيا عن الطريق الديكارتي. وسيكتشف أن الطريق الثالث قادر هو الآخر على منحنا معنى جديد للمعنى بحيث سوف لن يكون طريق يقصي الشك، ولا حتى طريق يعبر الاتجاه المنعطف نحو ما هو حديث mondain بهدف حمله على الذاتية المحضة فإنما سيكون الطريق الذيب يظهر عبثية كل تفسير للحياة الترسندنتالية، وذلك عن طريق السعي نحو.
ففي عبوره لهذا الطريق سينكشف لهورسل إمكان بلوغ الإيبوخية الشاملة épokhé universel القادرة على أن تحول دون قيام الشيئية rѐification وطبيعانية الوعي. ففي سنة 1920 قام هوسرل بالتأكيد على ما يلي: “إن من ينقدنا من تشيؤ الوعي، سيكون منقذا للفلسفة، بل إنه مبدعها الحقيق”. من هذا المنطلق سنكون أمام فلسفة (فلسفة هوسرل) ينجز من خلالها هورسل ممارسة ذاتية للعملية التأويلية. أي أننا أمام فيلسوف يقرأ نفسه بنفسه باستمرار، ولا يتوانى عن ممارسة النقد على ما ينتجه من فلسفة. بهذا لا يمكننا نسج صياغة نهائيا لمعنى المنتج لأنه ينفلت بالنسبة إلى هورسل من كل برمجة، وعن كل مذهبية. بإمكاننا إذا قراءة فينومينولوجيا هوسرل من جهة أنها فلسفة معاصرة لنا، ومعاصرة لنفسها في آن معا. أي بوصفها شهادة فلسفية كبرى على هذا الوضع النموذجي للعقل الفلسفي من حيث يتردد بين الأطراف. يقترب من النخوم. ويجاور الأقامي، ليس من فكر عظيم إلا وهو تجربة “الفينومينولوجيا الأقصى” La phénoinondopie de l’extroime (انقزوا (ف): 2004، ص 46).
بإمكاننا القول أنه ومع محاضرة فيينا 1935 انفتح هوسرل على تاريخ الفلسفة والعلوم منذ طاليس إلى غاية فترته، وبما يمكننا الذهاب أبعد من ذلك إذ تؤكد بأنه كانت مطلبا لتفكير خزفي راهنية الهوسرل به. فإذا كانت العقلانية قد وضعت البشرية، وبالأخص البشرية الأوروبية في مأزق ضياع الأيمان بالفلسفة وبحملها في أن تصير العلم الشامل. فإنه لا يمكننا البتة إلحاق العقل يضيع العقلانية هذا، ذلك لأن العقل لا يسعى أبداً إلى محاكاة سذاجة علوم الموضوع. والعلم الفيزيو- كيميائية. إن الفلسفة الترنسندنتالية تعلم جيداً مع هوسرل أن معرفة الموضوع هو بمثابة إنجاز عمل الروح التي لا يمكنها معرفة ذاتها عبر المناهج التي تم صياغتها لمعرفة الطبيعة. فالمناهج الموضوعية قيد الإنجاز من قبل الذات العارفة لا يمكنها الالتفات إلى ذاتها. وعليه ستكون علوم الروح أما ضياع أو فقد الروح إذا ما حاولت محاكاة علوم الطبيعة.
فإذا كان هيدغر قد حدد الأزمة الأوروبية من خلال إغفال الفلسفة والعلم للسؤال الأنطولوجي الأساسي. ممثلاً في سؤال الوجود. وحقيقة الوجود. ذلك لأن تاريخ هذا الأخير بالنسبة إليه لم يكن إلا تاريخا للنسيان. فإن هوسرل وعلى غرار هيدغر فإنه يؤكد بدوره أن الأزمة هي أزمة نسيان الروح. النسيان الذي برز على وجه الخصوص مع الاختزال الذي أحدثته النفسانوية كما لاحظنا والطبيعانية على مفهوم الروح. فما حدث سؤال الوجود من نسيان، حدث الأمر نفس لعلوم الروح. وكأن قدر العقل البشري نسيان نسيانه. نسيان أصوله: الوجود، الروح… لهذا يرى هوسرل أنه لزاماً علينا البحث في تيمة “أوروبا الروحية” Europe spinituelle كما نتمكن من فتح منفذاً يمكن علوم الروح من الالتفات مباشرة إلى قدرتها الحقيقية.
أوروبا الروحية. الطريق نحو إقامة وبكيفية محضة علوماً للروح فهي التيمة: “الغائية. العجيبة تسكن إنجاز التعبير أوروبا وحدها. وذلك بصفتها مرتبطة ارتباطا حميمياً، وانبتات الفلسفة وفروعها. أي مختلف العلوم في الروح الإغريقية القديمة” (هوسرل (إ): 1935- 2008. ص 523) إن الأمر لا علاقة له بهيمنة العلوم الطبيعية القائمة على الموضوعية، مما حال دون تقدم علوم الروح. وإنما كان أكثر من ذلك. فقدم إلتفات علوم الروح إلى أصلها الإغريقي، وعدم إقرارها بضرورة معاودة هذا الأصل قصد التمكن من فهمه في عمقه، جعل من المستحيل أن تتمكن من إقامتها بصورة نهائية. وهذا ما يبرز الأزمة التي وقعت فيها العلوم الأوروبية. كل العلوم دون استثناء. يفضل هوسرل التأكيد أن أوروبا المعنية هنا بالأزمة ليست أبداً أوروبا الجغرافية التي نعرف حدودها ورسمها.
علينا أل نتسرع في إصدار الحكم ونحن نتابع موقف هوسرل من العقل والعقلانية. إن هوسرل في واقع الأمر يحتج عن كراهية أساسية لمعنى معين للعقل الذي يؤدي إلى اللاعقلانية, فاختزال العقلانية إلى ما هي عليه يداخل علوم الطبيعة يؤدي بدوره إلى نفي المعني. ونفي العقل ذاته. ولا يوجد حسب هوسرل مكانا للتشاؤم عن مصير العالم.
فرؤية الإنسان الحديث إلى هذا الأخير تحدث كلها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من قيل العلوم. وهذا ما أدى إلى الإعراض يقول هوسرل: “في اللامبالاة عن الأسئلة الحاسمة بالنسبة للبشرية الحقة. فعلوماً لا تهتم إلا بالوقائع تصنع بشراً لا يعرفون إلا الوقائع” (2008- ص 456) هذا ما جعل العديد من الفلاسفة يميلون إلى تبني موقفاً عدائياً تجاه العلم. فراحوا يؤكدون على أنه لم يعد له شيء يقوله. أمام الأزمات التي صارت تلم بالبشرية.
ذلك لأن العلم أقصى في اعتقادهم كل الأسئلة المتعلقة بمعنى الوجود البشري بأكمله.
“فالعلم الذي يدرس الجسام المحضة ليس له ما يقوله فهو كثيراً ما يفض النظر عن كل ما هو ذاتي. أما علوم الروح التي تهتم في كل فروعها الخاصة. والعامة بالإنسان في وجود الروحي. أي في أفق تاريخيته فإن علميتها الصارمة تتطلب كما يقال أن ينحي الباحث بعناية كل مواقفه القيمية” (2008، ص 43).
طبعا لا يهم هوسرل الوقوف وبصورة جذرية على التمايزات القاتمة بين المعلمين. إذا كان هذا الأمر من أولى أولويات المهاجر التي وقف عندها “يرانتانو”. وبالأخص دالتاي Dilthey. فإن هوسرل يفضل الذهاب أبعد من ذلك محاولاً الكشف عن حقيقة ما أصاب أوروبا من مرض من خلال التوغل ويعمق داخل يرج الثقافة الأوروبية. فنجده يطرح في عمله الأزمة السؤال التالي: ماذا لو كانت كيفية التفكير التي تفصح عن ذاتها في هذه النظرة تقوم في مجملها على أحكام مسبقة خطيرة. وكانت تتحمل هي ذاتها عبر نتائجها نصيباً من المسؤولية عن إصابة أوروبا بالمرض؟
ليس لأزمة الوجود الأوروبي سوى مخربين: أقول أوروبا في اغترابها عن المعنى العقلي لحياتها. والسقوط في عداء الروح، وفي البربرية.
أو انبعاث أوروبا انطلاقاً من روح الفلسفة بفضل بطولية للعقل تتخطى النزعة الطبيعية Naturalime نهائياً: إن الخطر الأكبر يقول هوسرل: “الذي يهدد أوروبا هو العياء Lasride. إذا كافحنا كأوروبيين صالحين” ضد خطر الأخطار. هذا في تلك الشجاعة التي لا تجعل أيضاً الكفاح اللامتناهي، فستنبعث من حريق الإباءة الذي يشعله انعدام الإيمان. ومن النار الكامنة لليأس من الرسالة الإنسانية للغرب. ومن رماد العياء الكبير فينيق حياة داخلية جديدة وفعالية روحية جديدة كعربون لمستقبل كبير وبعيد للإنسان: ذلك أن الروح وحده لا يموت” (2008 ص ص 558- 559).
ينجز هوسرل تفكيراً أساسياً حول الأزمة. أزمة العلوم والثقافة الأوروبيين. في زمن عرف بالتوتر التاريخي. بعد اعتلاء البربرية ممتلة في صعود الأنظمة الكليانية. الحكم وبالأخص صعود النازية في ألمانيا. التي سيكون لها موقفاً عدائياً مباشراً تجاه هوسرل. لقد حاول هذا الأخير أن يقدم علاجاً للأمراض التاريخية. للازمة العارمة التي مست جسد أوروبا. ورأى في الفينومينولوجيا الترنسندنتالية التي قدمنا ملامحها ومعالمها الكبرى في بداية الدراسة.
قلت رأى فيها الوسيلة الوحيدة التي بإمكانها أن توجد علاجاً لهذه الأزمة. وأن توجد لها حلولاً نهائياً. وقد عمد هوسرل إلى فهم أصول الأزمة الإنسانية الأوروبية ولبلوغ ذلك قام بإيضاح العقلانية العلمية انطلاقاً من العلم الغاليلي الذي أدار ظهره لعالم الحياة، عالم المعيشات حيث يبرز المنقذين الممكنين أمام البربرية. أو الفلسفة المؤسسة من قبل عقل بطولي Ruison héurque، وعلى علم الفكر الحقيقي مرتبط بالفينومينولوجيا الترنسندنتالية.
ففي نظر هوسرل لا يمكن لأوروبا أو للإنسانية جمعاء أن تجد مخرجاً لأزمتها، إلا عبر التحقيق الفلسفي مدركاً كتأمل ذاتي للبشرية وللعلم الشامل للعالم. حاول هوسرل ومن خلال سلسلة من المراحل بلوغ نتيجة. بمثابة علاجاً Théropeutique للأزمة. وهذا ما يرتسم بالعقل طوال مسار عمله: “أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية” فمع مواضيع: التحقق- الذاتي للعقل auto-effectuation موجه إلى أن يغدو عقلاً: عملياً نظرياً، وجمالياً …إلخ
هنا فقط يبرز إن كان استيعاب أزمة العلوم الإنسانية الأوروبية. الملاحظ مثلما أشرنا أن مبزة تفكير هوسرل في الأزمة تكمن في انطلاقاته المعقدة والتي تبرز تحديداً فيما اقترحه من طرق ممكنة للمعالجة. إنه مسار مليء بالتعرجات التي من خلالها بتحرك من دون توقف بين الحالة الراهنة للعلم وللفلسفة وللبدايات التي يجب أن يتم معاينتها. ضمن سؤال الأزمة. أزمة العلوم إلى تناول دراسة أصولها من خلال تطورها التاريخي. جعل هوسرل من غاليلي النموذج المكتمل الذي مع تحقيقه لتريص الطبيعة mathématinotion de la miture يكون قد فتح طريقاً نحو علوم الوقائع (الأحداث) Scioucs des faits محدثا بذلك قطعا مع عالم الحياة. ومع الفلسفة ثم يقوم هوسرل بتحليل المنعطف الديكارتي المتمثل في العودة إلى الذات المؤسسة fondateau Le sget العودة التي مهدت الطريق أمام السيرغو الفلسفة المحضة. الفلسفة الترنسندنتالية لكن كان مصير ديكارت من نفس مصير كانط، وهيوم Hume، لم يتمكن أي منهم من النجاح في التأسيس للفلسفة الأولى، أو للعلم الشامل.
لكونهم لم ينجزوا الأسئلة الأساسية حول أسس منطلقاتهم. فضلاً عن ذلك نجد كل من ديكارت وغاليلي يتموضعان في صلب القطيعة متميز الكلاسيكي بين الجسم والنفس. النفس الذي تنظر إليها السيكولوجيا باعتبارها علم طبيعي وليس أطلاقا علم شمولي للكائن السيكولوجي.؟ إذا كان بإمكان الطريق السيكولوجي في نظر هوسرل.
أن يكون الطريق القويم والأساسي المؤدي إلى الفلسفة الترنسندنتالية. إن هوسرل لا يتواني مثلما أشرنا سالفاً في الطريق الديكارتي والطريق الكانطي، والطريق السيكولوجي، بالكيفية التي من خلالها نتمكن من النقاذ إلى فلسفة ترنسندنتالية محضة، حيث يعويغدو فيها الأنا المعيش moi- vécu مركزياً. إن الفلسفة الترانسندنتالية المحضة هي الفلسفة السائرة نحو عالم الحياة. (دويراز (ن) 1994 ص 349) لم تؤد الأزمة وبصورة نهائية المناهج، والنتائج إلى وضعها موضع أسئلة، فالأزمة التي كانت منها أوروبا هي تحديداً أزمة في عدم مساءلة الأزمة عينها. فالمفهوم الوضعي للعلوم أدى إلى عزل وإقصاء كل الأسئلة المرتبطة بالعقل، الفكر، الروح، وأزاح الأسئلة الميتافيزيقية: المعرفة، القيم، الإله، الأخلاق، التاريخ. لقد أجهزت الوضعية على الفلسفة.
إن الأزمة التي كان لزاماً على الفينومينولوجيا أن تجد حلاً لها كانت بالأساس أزمة شك Sceptigue. مثلما كان عليه الأمر بالنسبة إلى ديكارت فالتقارب بين أزمة وأزمة والتواصل فيما بين الأزمات يمثل العنصر الأول المؤسس لعودة هوسرل إلى ديكارت. لكنها عودة جد ملتبسة. إذ تبدو ومن جهة متقصصة نموذج الإجابة عن أزمة الشك، حيث يظهر ديكارت ذلك الذي لا يكتفي فقط يالتماه مع سلوك الشك، وإنما يوسع من دائرته وتجذره، ويظهر من جهة آخر أن هوسرل يسند مستولية إلى ما ينعته بأزمة البشرية الأوروبية، والتي تجزئنا ولها بالتحليل باعتبارها أزمة علوم.
لقد ارتبطت الأزمة في بداية الأمر بأزمة الفلسفة. إذ ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر عرفت الفلسفة أزمة ثقة. ونجد برانتانو وهو أحد أبرز علماء السيكولوجيا التجريبية، وأهم فيلسوف تأثر به هوسري في بداية حياة الفلسفية. نجده يؤكد من منطلق تجريبيته أن الإحباط الذي بدء يميز الفلسفة يدعون من دون شك التعجيل بالابتعاد عنها، وعدم الارتياح لوجودها، بالإضافة إلى ذلك يجب الكف عن الثقة فيما تقدمه من معارف.
وعليه ثمة أزمة ثقة والتي ترجع تحديداً إلى ما حققته العلوم التجريبية من فتوحات كبرى مما عجل بالبدء في الإعلان عن وضع مهمة الفلسفة موقع تساؤل، إذ في الوقت الذي كانت فيه الوكيل الوحيد الذي يسمح له بطر الأسئلة صارت بعد ذلك موضوعاً للمسائلة، لقد انتهى بقول فوندنت Wundt صاحب أول مخبر تجريبي في السيكولوجيا دور الفلسفة في لعب أدوارها الأساسية أمام العلوم التجريبية. لكن مع بداية القرن السابق سيتأكد لهورسل أن حتى العلوم صارت تعاني مع الأزمة، حتى السيكولوجيا التي كان يعتقد في زمن غير بعيد بأنها نموذجا ينبغي أن يشيد من خلالها خاصة معارفنا المنطقية (هوسرل (إ): البروليفومين 2002). لهذا صار حسب هوسرل من الضروري إخضاع كل العلوم إلى الممارسة النقدية الجذرية. دون التخلي عن المعنى الأول لعمليتها الذي لا يمكن الطعن فيه من زاوية مشروعية إنجازاته المنهجية.
يتضح من هذه الدراسة أن الأزمة التي عاينها هوسرل كانت جد معقدة، فهي لم تكن مرتبطة بالعلوم فقط، ولا بالفلسفة، وإنما مست الروح الأوروبية، أزمة يختلط فيها العلم والفلسفة في آن معا. إن الأزمة واحدة حسب هوسرل، تدعو إلى ضرورة العودة بالتأمل في وضعية العلوم والفلسفات. فوحدها الصورة الموسومة بها الفينومينولوجيا الهوسرلية قادرة على منحنا إمكان إيضاح وبصورة جذرية معنى الأزمة. وبمجرد ما نقوم بتغيير منظوريتنا لحظة البدء في رصد معالم الأزمة نتمكن في الوقت ذاته من تغيير رؤيتنا للعالم. وذلك من خلال مقترح هوسرل المتمثل تحديدا في الانتقال من الموقف الطبيعي إلى الموقف الفينومينولوجي.
القادر وحده على إيجاد علاجاً لازمة الروح الأوربية. لحظتها فقط ستغذو الفينومينولوجيا صقلا يساعد على إقامة العلوم الجديدة. وأمام هذه الوضعية سنكون أمام نوع آخر من الأزمة: الأزمة الدائمة Crise permanente أزمة الأزمة. فإذا كان المشروع الفينومينولوجيا قد تمكن من تشخيص أزمة عصره المتمثلة تحديداً في أزمة الروح البشرية الأوروبية. فإن فينومينولوجية هوسرل وضعتنا أمام أزمة الأزمة لأنها لم تتمكن من الحسم في الأزمة، بل ضاعفت من حدتها. طبعا الأمر غير مرتبط بنوع من العجز. وعدم القدرة بقدر ما كان القصد الهوسرلي مشدود إلى وضع فينومينولوجيته أمام إمكانات أخرى قادرة على فهم الأزمة.
لقد سار بنا هورسل نحو طرق متشبعة، لم تتمكن من الحسم في سؤال المنهج. إذ كثيراً ما نجده يردد لفظة ال ZigZig: في عمله الأزمة، بحيث لم يكن سؤال المنهج بالنسبة إلى هوسرل محدد المعالم. لهذا لم يجرؤ على طرحه في صورته النسقية، على خلاف ما ذهبت إليه الفلسفات والعلوم التقليدية (خاصة في العصر الحديث…). لم يستقر هوسرل على منهج معين.
إذ كلما بدا له أنه يتمكن من تحقيق المنهج يأت بعدها ليعلن عن بدء التفكير في منهج آخر مغاير وهكذا أنها حياتها الفلسفية دون أن يتمكن من وضع منهجاً محدداً وهذا ما نعتقد أنه يمثل عين الأزمة. داخل الفينومينولوجيا. والأزمة هنا لا تأخذ في معناها السلبي. ذلك لأننا نعتقد أن هوسرل لم يرغب في وضع حسما نهائيا في أزمة عصره.
ومثل هذا الموقف فتح المجال أمام فلاسفة آخرون ينتمون إلى الحركة الفينومينولوجية من تفكير الأزمة في تعددها من موقع فينومينولوجي ماكس شبير- ياتوكا- فينتهيدغر- ليفيناس …) وكأننا أمام فيلسوف لا يفضل تفكير الأزمة إلا داخل الأزمة نفسها. وليس خارجها، أي انه يحدث تأملات ترنسندنتالية من موقع محايث. إن فينومينولوجية هوسرل صارت لحظة إقدامه على تفكير الأزمة فينومينولوجية ترنسندنتالية محايث. Ne phѐnomѐnologie transcendence immanente.
المصادر والمراجع
Edmond Husserl (1990) Philosophie première Tome 02 Théorie de la réduction phénoménologique traduit par ikekel (A-L) n Paris, PUF (1995) idée. Directrices pour une phénoménologie et une philosophie phénoménologique pure live I, traduit par granel, (G) et Schérer: Paris, Gallimaro (2002). Recherches logiques tome 1. Prolégomènes la logique pure, Traduit par Elie (H)Kelkel (A-L) et Shérer (R): Paris, PUF (1970).
هوسرل (إ): التأملات الديكارتية: نازلي إسماعيل حسن، دار المعارف القاهرة- مصر 2008.
هوسرل (إ): أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجية الترنسندنتالية، ترجمة: إسماعيل مصدق. المنظمة العربية للترجمة- بيروت.
المراجع:
Dastur (F) (2005) de mathématique à l’histoir. Paris, PUF.
Depraz. (N) (1994): Husserl in: Gradus Philosophique dirigé par: Laurent Juffro et Monique Labrume, Flammarion, Paris.
إتقزو (ف) (2006) هوسرل ومعاصروه: من فينومينولوجيا اللغة إلى تأويلية الفهم: المركز الثقافي العربي. بيروت- لبنان.
Henry (M) (2003) De la phénomologie, Tome 1. phénomologie de la vie, PUF. Paris.
[(*)] أستاذ الفلسفة المعاصرة شعبة الفلسفة جامعة تلمسات. الجزائر.
[(*)] يجب أن نشير وبإصرار أن العبارة المشهورة التي أوردها هوسرل في الضميمة 28 الفقرة 73 من عمل: أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجية الترسندتالية- ص 592. الترجمة الفرنسية، والتي يؤكد من خلالها على أن الفلسفة: “باعتبارها علم دقيق، صارم، وحتى يقيني صارم. هذا الحلم قد انتهى” لا ترجع هذه العبارة حسب فرانسواز داستور: إلى قناعة هوسرل. إذ في سياق آخر من الفقرة نفسها ص 564، يؤكد على أن المد القوي، الذي صار بتعاظم دائما”. والذي صار يغمر البشرية الأوروبية، يرجع إلى اللا إيمان الديني. مثلما يرجع إلى نفي، ورفض الفلسفة للعلموية.