اختراعات ابن الهيثم
الحسن بن الهيثم
354-430 هـ/ 965-1039م
د .مكي الحسني
عضو مجمع اللغة العربية – دمشق
تمهيد
في فجر التاريخ، أي قبل 5000 سنة ،وجد مركزان عظيمان للحضارة العلمية، أحدهما في وادي النيل، والآخر بين النهرين: دجلة والفرات.
وقبل القرن الثاني للميلاد كان هناك ثلاث مجموعات للبحث والتأليف العلمي:
- مجموعة الصين.
- مجموعة الهند.
- مجموعة حوض البحر الأبيض المتوسط، التي أنتجت العلم الذي كان نموه عاملا أساسيا على تحقيق نشأة العلم العالمي الحديث. وهو يشمل حضارات: مصر، وما بين النهرين ،والإغريق والرومان.
لم يكن العرب قبل الإسلام مجموعات بدوية معدومة الحضارة، ولا كانوا في عزلة وانقطاع عن حضارات الدنيا المهمة: فقد كان لديهم تراث حضاري متنوع، موروث عن تجارب حضارية عديدة، قامت على أرض العرب في اليمن خاصة (معين وسبأ وقتبان وحمير…) وفي البحرين و عمان، وفي جنوبي العراق (المناذرة) وشماليه (الحضر)، وفي بادية الشام (تدمر) وجنوب ي الشام (بترا) وثمود وكندة والغساسنة.
وعرف العرب ،بالاتصال التجاري والفكري، الكثير من ثقافات الأمم والجماعات الأخرى المجاورة، في الحبشة وفارس والهند والشام ومصر. إن تذكر هذا التراث لدى العرب يسهل فهم الخطوة الحضارية الجبارة التي خطاها العرب والمسلمون بسرعة لإنشاء ما عرف بعدئذ في التاريخ باسم الحضارة العربية الإسلامية. وإن كلمة الجاهلية الغامضة التي تفسر عادة على أساس معناها اللغوي قد تضللنا وتخفي الصورة الحقيقية للوضع الحضاري العربي السابق للإسلام.
يصعب أن نجد أمة لها ما للأمة العربية الإسلامية من تراث خالد وأثر بليغ في سير العلوم والمعارف. إن هذا التراث ذا المقام العالمي، والمسمى بالعلم العربي، هو من عمل العرب والشعوب التي اعتنقت الإسلام أو عاشت في ظله متخذة لغة العرب لسانا لها إلى حد بعيد ،وإن استعملت أيضا في بعض الأحيان اللغات السريانية أو الفارسية أو العبرية.
وقد خلفت هذه الأمة مآثر في الرياضيات (بفروعها المختلفة: الحساب والجبر والهندسة والمثلثات…) وعلم الفلك، والفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة وعلم النبات والحيوان… والفلسفة…
واستثمرت هذه الشعوب علوم الأمم العريقة في القدم، كالإغريق والهنود، وطورتها وأغنتها وزادت عليها الكثير، ثم نقلتها إلى الشعوب المسيحية في أوربة الغربية من طريق صقلية والأندلس. ولولا نتاج القريحة العربية الإسلامية لتأخر سير المدنية بضعة قرون! ويزعم الجاحدون لفضل العرب والمسلمين أن هؤلاء لم يكونوا سوى نقلة للعلوم من كتب الروم وغيرهم. ومما يثلج الصدر أن الرد على الجاحدين جاء من مستشرقين منصفين، ومن عرب أوفياء مخلصين:
فالعالم الأمريكي جورج سارتون، الذي يتمتع بشهرة في البحث والتنقيب، صاحب كتاب (مقدمة لتاريخ العلوم) ([1]) قال: “… إن بعض الغربيين الذين يجربون أن يستخفوا بما أسداه الشرق إلى العمران، يصرحون بأن العرب والمسلمين نقلوا العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها شيئا ما … هذا الرأي خطأ… لو لم تنقل إلينا كنوز الحكمة اليونانية لتوقف سير المدنية بضعة قرون…”. ثم قال: “ولذلك فإن العرب كانوا أعظم معلمين في العالم في القرون الثلاثة: الثامن والحادي عشر والثاني عشر للميلاد”.
والمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه تتحدث في كتابها الرائع الذي ترجم إلى العربية بعنوان “شمس العرب تسطع على الغرب، أثر الحضارة العربية في أوربة”[2] تتحدث عن المعجزة التي حققها العرب، وعن هدايا العرب للغرب، وعن شغفهم بالكتب، وعن إنقاذهم للكتب، التي بذلوا للروم المال الكثير للحصول عليها، وعن ترجمتهم إياها، ولولاهم لضاعت هذه الكنوز. كما تتحدث عن عباقرة العرب، ومن أبرزهم ابن الهيثم.
وقد عملت “الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية” على إصدار كتاب المستشرق ألدو ميلي Aldo Mieli “العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي” [3].
وهناك المستشرق فيدمان E. Wiedemann الذي عني بالتنقيب عن أعمال ابن الهيثم ونقل بعض مباحثه من العربية إلى الألمانية، كما تفرغ مدة طويلة لنشر مآثر العلماء المسلمين ،وعاونة في بعض هذه الأعمال هيبرغ Heiberg وسواه.
وقد بذل قدري حافظ طوقان، أستاذ الرياضيات في كلية النجاح بنابلس جهدا طيبا مشكورا في إعداد كتابه “تراث العرب في الرياضيات والفلك” [4] الذي يشغل قسمين:
الأول: يبحث في الرياضيات قبل الإسلام، ومآثر العرب في الحساب والجبر والهندسة والمثلثات والفلك، و”الرياضيات في الشعر!”.
الثاني: يتحدث عن “نوابغ العرب في الرياضيات والفلك” في تسعة فصول لتسعة عصور ،ويشتمل كل عصر على سير موجزة لعلمائه.
1. عصر الخوارزمي، القرن التاسع للميلاد
2. عصر البوزجاني، القرن العاشر للميلاد
3. عصر الكرخي، القرن الحادي عشر للميلاد
4. عصر الخيام، القرن الثاني عشر للميلاد
5. عصر الطوسي، القرن الثالث عشر للميلاد.
6. عصر ابن الهائم، القرن الرابع عشر للميلاد
7. عصر الكاشي (غياث الدين)، القرن الخامس عشر للميلاد
8. عصر المغربي، القرن السادس عشر للميلاد
9. عصر علماء القرن السابع عشر للميلاد
وقد أفرد طوقان، في عصر الكرخي، ست صفحات للحديث عن ابن الهيثم. وفي الملحق بهذا المقال قوائم بأسماء علماء كل عصر من هذه العصور.
وهناك كتاب الدكتور عمر فروخ “تاريخ العلوم عند العرب”[5] الصادر سنة 1970 ويتحدث فيه عن العلوم القديمة وتطورها، وعن تطور العلوم عند العرب: الرياضيات – العلوم الطبيعية: الفيزياء والكيمياء وعلم النبات والحيوان، والطب والصيدلة – الجغرافية – الخوارزمي… وخصص للحديث عن ابن الهيثم 56 صفحة!
وقد استرعى نظري أن هذا الكتاب وضع لطلاب السنة الثالثة الثانوية (فرع الرياضيات وفرع العلوم الاختيارية) في لبنان. وأتمنى أن تقرر سائر الدول العربية تدريس هذا الكتاب وأمثاله لطلاب مدارسها، لأنه يحفز أبناء العرب إلى الاهتمام بتراثهم وثقافتهم، ويدفعهم إلى اقتفاء آثار أسلافهم، والسير على خطاهم في خدمة الحضارة ورفع مستواها، ويمحو، أو يخفف في الأقل، عقدة الشعور بالدونية إزاء الغرب، التي تتجلى بوضوح في سلوك الناشئة العربية.
المطلوب بقوة في أيامنا هذه أن يشعر الناشئ العربي أن أجداده استطاعوا بالعمل الجاد أن يشيدوا حضارة عربية شامخة لا يزال العالم ينعم بمآثرها. وأن يؤمن هذا الناشئ بنبوغه وقدراته، وبأ ن في إمكانه أن ينتج ويبدع.
الحسن بن الهيثم
هو أبو علي، محمد بن الحسن بن الهيثم، المعروف في الغرب بلفظ .Alhazenولد في “البصرة” وأخذ علومه الأولى في مجالس شيوخها. هو عالم موسوعي من أعظم علماء العرب ،برز في علوم الطبيعة والبصريات خاصة، وفي علم العدد والحساب والهندسة والفلك والفلسفة والمنطق والموسيقا والطب، وله مصنفات في كل هذه العلوم. لقب بـ “بطليموس الثاني”. لم يماثله أحد من أبناء زمانه في إتقان العلوم. كان دائم الاشتغال، كثير التصنيف، فاضل النفس ،وافر الزهد ،محبا للخير. لخص وشرح كتب أرسطو وجالينوس في الطب، وكان خبيرا بأصول صناعة الطب وقوانينها. وظهر علمه وبرز في البصريات.
قالت عنه دائرة المعارف البريطانية: “إنه رائد في عالم البصريات”، وقالت: “إن ابن الهيثم كان أول مكتشف ظهر بعد بطليموس في علم البصريات”. ويرى معظم الباحثين أنه هو الذي مهد بأبحاثه العلمية السبيل لاستعمال العدسات في إصلاح عيوب الرؤية في العين.
وجاء في كتاب “مايرهوف”: “تراث الإسلام” [6]: “إن علم البصريات وصل إلى أعلى درجة من التقدم بفضل ابن الهيثم”.
واعترف العالم الفرنسي “لوتير فياردو” بأن كبلر (1571-1630 م) أخذ معلوماته في الضوء، ولاسيما فيما يتعلق بالانكسار الضوئي في الجو من كتب ابن الهيثم.
وقال سارتون [7]: “إن ابن الهيثم أعظم عالم ظهر عند العرب في علم الطبيعة، بل أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى، ومن علماء البصريات القليلين المشهورين في العالم كله”.اختراعات
قال ابن الهيثم عن نفسه في مقالة طويلة ذكرها ابن أبي أصيبعة في كتابه “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”: “أفرغت وسعي في طلب علوم الفلسفة، وهي ثلاثة علوم: رياضية ،وطبيعية، وإلهية. فتعلقت فيها بالأصول والمبادئ التي ملكت فروعها، وشرحت ولخصت واختصرت منها ما أحاط فكري بتصوره، ووقف تمييزي على تدبره، وصنفت من فروعها ما جرى مجرى الإيضاح والإفصاح ،متوخيا بها أمورا ثلاثة: الأول: اختراعات إفادة من يطلب الحق ويؤثره في حياتي وبعد وفاتي، والآخر أني جعلت ذلك ارتياضا لي بهذه الأمور في إثبات ما تصوره فكري من تلك العلوم. والثالث أني صيرته ذخيرة و عدة لزمن الشيخوخة والهرم”.
ولعل الأستاذ “مصطفى نظيف بك” أول عربي في عصرنا أنصف ابن الهيثم، ووقف على التراث الضخم الذي خل فه في علوم الطبيعة، ولاسيما فيما يتعلق ببحوث الضوء. قال الأستاذ في مقدمة كتابه النفيس الفريد (البصريات) ما يلي:
“… والذي جعلني أبدأ بعلم الضوء دون فروع الطبيعة الأخرى، أنه علم ازدهر في عصر التمدن الإسلامي، وكان من أعظم مؤسسيه شأنا ورفعة وأثرا الحسن بن الهيثم الذي كانت مؤلفاته ومباحثه المرجع المعتمد عند أهل أوربة حتى القرن السادس عشر للميلاد…”، فلقد بقيت كتبه منهلا عاما ينهل منه أكثر علماء القرون الوسطى، مثل بيكون وكبلر وليوناردو دافنشي، وبرتيلو وغيرهم. وإن كتبه هذه وما تحويه من بحوث مبتكرة في الضوء هي التي جعلت مايرهوف يقول صراحة: “إن عظمة الابتكار الإسلامي تتجلى في البصريات”.
ووضع الأستاذ نظيف كتابا ضخما ([8]) استكمل فيه إنصافه للعالم العظيم، عنوانه: “الحسن بن الهيثم، بحوثه وكشوفه البصرية”.
اختراعات ابن الهيثم
المنهج : اتبع ابن الهيثم في بحوثه كلها – وخصوصا ما كان منها في الضوء – منهجا علميا بناه على الاستقراء (استخراج القاعدة العامة من مفردات الوقائع) في الأكثر، وعلى الاستنباط (تفريع الأحوال المفردة من القاعدة العامة) أحيانا. وهو في ذلك كله يلجأ إلى القياس (الموازنة بين الوقائع المختلفة والمقارنة بين النتائج). وكان سبيله إلى ذلك المشاهدة (النظر في الأمور الجارية في بيئتها المخصوصة) والملاحظة اختراعات(التفطن لما يتفق وما يختلف من هذه الأمور)، ثم كان يقوم بتجاربه على هذه الأسس كلها مرة بعد مرة.
هذه الخطة التي سار عليها ابن الهيثم في معالجة علم الضوء خاصة، هي التي سماها الباحثون فيما بعد بالأسلوب العلمي التجريبي. وهذا الأسلوب هو الذي أدى إلى النتائج الرائعة التي وصل إليها العقل الإنساني في كل ميدان من ميادين العلم، وفي كل منح ى من مناحي الحياة. وإن كثيرا مما ينسب إلى روجر بيكون Roger Bacon (ت 1292م) خاصة – من أنه أبو الأسلوب العلمي التجريبي، والمبتكر لعدد من الحقائق في علم الضوء- قد أخذه روجر بيكون عن ابن الهيثم، ثم نقله إلى الغرب الأوربي، كما قال نفر من علماء الغرب أنفسهم (منهم جورج سارتون، وجوزيف هيل، وألدو ميلي).
وهناك من ينسب أكبر قسط من الفضل في نشوء طريقة البحث الحديثة إلى فرنسيس بيكون Francis Bacon (1626-1561م) جهلا أو تجاهلا!
كتب ابن الهيثم ومؤلفاته
كتب ابن الهيثم كثيرة، ولكن معظمها رسائل أو مقالات قصار، وبعضها شروح على كتب المتقدمين أو تلخيصات لها؛ وبعضها تأليف. وقد تجاوز عددها /160/ كتابا ومقالة ورسالة كما أوردها ابن أبي أصيبعة في كتابه “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”. منها نحو /80/ مؤلفا في علوم المناظر والرياضيات والفلك،اختراعات ونحو /44/ مؤلفا في العلوم الطبيعية والإلهية، و/31/ كتابا في الطب، وكتب أخرى في الفلسفة والمنطق والسياسة وغيرها. ومن أهم مؤلفاته “كتاب المناظر” ويعد من أروع ما صنف ابن الهيثم .
ومن هذه الكتب ردود على الفلاسفة اليونانيين وعلماء الكلام، أو توضيح لما غمض من آراء هؤلاء. وفيما يلي عدد من كتبه:
- الكتاب الجامع في أصول الحساب.
- كتاب لخص فيه علم المناظر من كتابي إقليدس وبطليموس، وتممه بمعاني المقالة الأولى المفقودة من كتاب بطليموس.
- كتاب في تحليل المسائل العددية بجهة الجبر والمقابلة مبر هنا.
- كتاب جمع فيه القول على تحليل المسائل الهندسية والعددية جميعا، لكن القول على المسائل العددية غير مبرهن، بل هو موضوع على أصول الجبر والمقابلة.
- مقالة في استخراج سمت القبلة في جميع المسكونة بجداول وضعها، ولم يورد البرهان على ذلك.
- مقالة فيما تدعو إليه حاجة الأمور الشرعية من الأمور الهندسية، ولا يستغنى عنه بشيء سواه.
- مقالة في انتزاع البرهان على أن القطع الزائد (للمخروط) والخط ين اللذين لا يلقيانه يقربان أبدا ولا يلتقيان.
- كتاب التحليل والتركيب الهندسيين على جهة التمثيل للمتعلمين، وهو مجموع مسائل هندسية وعددية حللها وركبها.
- مقالة في أصول المسائل العددية الصم وتحليلها.
- رسالة في صناعة الشعر ممتزجة من اليوناني والعربي.
- رسالة في تشويق الإنسان إلى الموت بحسب كلام الأوائل؛ ورسالة أخرى في هذا المعنى بحسب كلام المحدثين.
- رسالة بين فيها أن جميع الأمور الدنياوية والدينية هي نتاج العلوم الفلسفية. وقد كانت هذه الرسالة هي المتممة لعدد أقواله في هذه العلوم بالقول السبعين.
- رسالة المرايا المحرقة بالقطوع.
- رسالة المرايا المحرقة بالدائرة.
- مقالة في ضوء القمر.
- مقالة في حساب الخطأين.
- كتاب المناظر
قال الأستاذ مصطفى نظيف: “إن ابن الهيثم رائد علم الضوء في القرن الحادي عشر للميلاد، كما أن نيوتن رائد علم الميكانيكا في القرن السابع عشر للميلاد”.
ومن الثابت أن كتاب المناظر لابن الهيثم أكثر الكتب القديمة استيفاء لبحوث الضوء ،وأرفعها قدرا، لا يقل مادة وتبويبا عن الكتب الحديثة العالمية، إن لم يفقها في موضوعات انعطاف الضوء، وتشريح العين، وكيفية تكوين الصور على شبكية العين، وهو يعد من أروع ما كتب في “القرون الوسطى” وأبدع ما أخرجته القريحة الخصبة. فلقد أحدث انقلابا في علم البصريات، وجعل منه علما مستقلا له أصوله وقوانينه وأسسه، كان يسير فيه على نظام علمي من ابتكاره، يقوم على المشاهدة والتجربة والاستنباط. ونستطيع القول جازمين إن علماء أوربة كانوا عالة على هذا الكتاب عدة قرون، وقد استقوا منه جميع معلوماتهم في الضوء.
نقل كتاب “المناظر” هذا إلى اللغة الإيطالية في القرن الرابع عشر للميلاد، ثم نقله جيرارد الكريموني إلى اللغة اللاتينية من العربية مباشرة، ولكن لم يطبع منه سوى مقالة واحدة (من أصل سبع)، كما نقله إلى اللاتينية أيضا البولوني فيتيلو Vitelo. وبقي النص اللاتيني معتمدا في أوربة حتى أيام كبلر، وقد نهل منه كبار علماء أوربة في عصر النهضة.
شرح كتاب “المناظر” لابن الهيثم شرحا ممتازا عالم عربي من القرن الرابع عشر، هو كمال الدين أبو الحسن الفارسي المتوفى نحو سنة 1320م. وطبع “كرنكو” في جزأين كبيرين هذا الشرح في حيدر آباد سنة 1928م .
يقع كتاب المناظر في سبع مقالات:
المقالة الأولى: في كيفية الإبصار بالجملة.
المقالة الثانية: المعاني التي يدركها البصر وعللها وكيفية إدراكها.
المقالة الثالثة: أغلاط البصر فيما يدركه على استقامة، وعللها.
المقالة الرابعة: كيفية إدراك البصر بالانعكاس عن الأجسام الصقيلة.
المقالة الخامسة: مواضع الخيالات، وهي الصور التي ترى في الأجسام الصقيلة (القول في الخيال).
المقالة السادسة: أغلاط البصر فيما يدركه (البصر) بالانعكاس، وعللها.
المقالة السابعة: كيفية إدراك البصر بالانعطاف من وراء الأجسام المشفة المخالفة الشفيف لشفيف الهواء.
من اختراعات ابن الهيثم
قال إقليدس وبطليموس قديما بأن العين البشرية المجردة ترسل أشعة إلى الأشياء التي تريد رؤيتها. فجاء ابن الهيثم وأعلن خطأ هذا الادعاء قائلا: “ليس هناك من أشعة تنطلق من العين لتحقق النظر، بل الأشياء المرئية هي التي تعكس الأشعة إلى العين فتبصرها بفضل عدستها”. اختراعات
وحقق ابن الهيثم في تأثير التقاء الأشعة وتكبير الأجسام، لا بواسطة المرآة المحرقة (أي المقعرة) فقط، بل بالزجاجة المكبرة (العدسة)! وبحث في قوى تكبير العدسات. ويرى كثيرون أن ما كتبه في هذا الصدد قد مهد السبيل لاستعمال العدسات في إصلاح عيوب العين.
وهو أول من كتب في أقسام العين وأول من رسمها بوضوح تام، ووضع أسماء لبعض أقسامها، وأخذها عنه الفرنجة وترجموها إلى لغاتهم. فمن الأسماء التي وضعها: الشبكية retina والقرنية cornea والسائل المائي aqueous والسائل الزجاجي humour aqueous. وتقول دائرة المعارف البريطانية إن ابن الهيثم كتب في تشريح العين، وفي وظيفة كل قسم منها، وبين كيف ننظر إلى الأشياء بالعينين في آن واحد ،وأن الأشعة من النور تسير من الجسم المرئي إلى العينين، ومن ذلك تقع صورتان على الشبكية في محلين متماثلين.
ودرس انعكاس الضوء عن السطوح الصقيلة، وهو أول من صاغ قانوني الانعكاس صياغة دقيقة. كما درس انعطاف (أي انكسار) الضوء، وبين أن زاويتي الورود والانكسار غير متناسبتين، لكنه لم يستطع إيجاد قانون الانكسار، لأن علم “المثلثات” – الذي أسسه البتاني [عبدالله، أعظم عالم فلكي 877-918 م] ووطده علما مستقلا نصير الدين الطوسي (ت 1272م) – لم يكن قد تطور بالدرجة الكافية.
وأوجد طرائق جديدة لقياس العروض الجغرافية للأماكن، انطلاقا من نظريته الشهيرة في انعكاس الضوء، التي تتضمن ما يعرف باسم “مسألة ابن الهيثم”. اختراعات
وعبر عن رأيه في محدودية سرعة انتشار الضوء، أي إنها ليست لا نهائية…
واكتشف أن كل الأجرام السماوية (ومنها النجوم الثابتة) لها أشعة خاصة ترسلها، ما عدا القمر الذي يأخذ نوره من نور الشمس، وإلا فكيف يحدث خسوف القمر؟!
كما اكتشف تعليلا لكثافة مختلف طبقات الماء والهواء، واختلاف مدى انكسار الضوء في كل منها. وحسب استنادا إلى ذلك علو الطبقة الهوائية المحيطة بالأرض، فوجد أنه يساوي /15/ كيلو مترا، وهي نتيجة غاية في الدقة والصحة، لم يسبقه إليها أحد!
واهتم بتعليل ظهور الهلال والغسق وقوس قزح التي عجز عن شرحها أرسطو نفسه.
وبين بوضوح أن الضوء ينتشر على خطوط مستقيمة. وهذا يؤدي إلى أن الضوء الصادر من جسم مضيء، إذا نفذ من ثقب ضيق في حاجز واستقبل على حاجز أبيض خلفه تكونت على هذا الحاجز صورة منكوسة (مقلوبة) للجسم!
وأكثر تجارب ابن الهيثم على امتداد (انتشار) الأضواء تتضمن الاعتبار (الاختبار) “بالبيوت المظلمة” ذوات الثقوب. وأغلب الظن أن الاسم camera obscura مأخوذ من العبارة العربية “البيت المظلم” التي وردت كثيرا في تجارب ابن الهيثم. وهذه “العلبة المظلمة” هي في الواقع صورة أولى لآلة التصوير التي ظهرت فيما بعد.
وعلينا أن نتذكر دائما أن جميع هذه الكشوف الرائعة حققها ابن الهيثم قبل /1000/ ألف سنة من أيامنا هذه!!
أكرر في الختام أمنيتي: أن توصي المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، ومجل س هذه الجامعة، بأن يعملا على أن يدخل في المناهج التدريسية (المدرسية والجامعية) مقرر يعالج “تاريخ العلوم عند العرب”. إذ ليس من المقبول أن تعرف الناشئة عن شكسبير ودانتي وغوته وفارادي ونيوتن وإديسون وباستور وغيرهم، أكثر مما تعرف عن المتنبي والمعري والبيروني والبوزجاني والخوارزمي وابن الهيثم والبتاني وجابر بن الأفلح وابن رشد والكندي وغيرهم…
فهل تتحقق أمنيتي هذه قريبا؟!
مراجع أخرى
الموسوعة العربية، المجلد 2/30، إصدار هيئة الموسوعة العربية، دمشق، ط1/ 2008.
الموسوعة الإسلامية المي سرة، المجلد 1/160. الناشر: دار صحارى، حلب، 1995م.
[1] جورج سارتون 1884-1956 م ،مقدمة لتاريخ العلوم “George Sarton; Introd. to the hist. of science”.
[2] زيغريد هونكه (كانت حية سنة 1962م) ،”شمس العرب تسطع على الغرب، أثر الحضارة العربية في أوربة” – دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1964م ،588 صفحة.
[3] ألدو ميلي ،”العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي”. دار الآفاق بالقاهرة، 1962م. 638 صفحة، Aldo
.Mieli; La Science arabe
[4] قدري حافظ طوقان ،”تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك”. هدية “مجلة المقتطف” المصرية لسنة 1941 م، (267 صفحة).
[5] عمر فروخ ،”تاريخ العلوم عند العرب”، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، (581 صفحة).
[6] ماكس مايرهوف ،”تراث الإسلام Max Mayerhoff; Legacy of Islam “
[7] جورج سارتون (1956-1884م)، “مقدمة لتاريخ العلوم”، .George Sarton; Introd. to the hist. of science .
[8] مصطفى نظيف بك ،”الحسن بن الهيثم، بحوثه وكشوفه البصرية”. الجزء الأول /485/ صفحة، صدر سنة 1942م عن جامعة فؤاد الأول بالقاهرة. والجزء الثاني /394/ صفحة، أصدره الجامعة سنة 1943م .اختراعات ابن الهيثم