تعريف الاسراء والمعراج المعراج لغة:
مأخوذ من عرج يعرج و عرج يعرج عرجانا ، اذا مشى مشية الاعرج بعرض فغمز من شيء اصابه فتقول: و اعرجه الله، و ما اشد عرجه و لا تقل ما اعرجه لان ما كان لونا او خلقة في الجسد لا يقال منه: ما افعله الا مع اشد ، و عرج البناء تعريجا أي ميله، فتعرج، و تعارج حكى مشية الاعرج، و العرجاء الضبع خلقة فيها و الجمع عرج النهر أماله وعرّج عليه عطف عليه عرّج بالمكان اذا أقام فيه (4) وجاء في التنزيل الكريم ( من الله ذي المعارج، تعرج الملائكة و الروح اليه في يوم مقداره خمسين سنة) سورة المعارج، و قوله تعالى:
( و ما ينزل من السماء و ما يعرج فيها« سورة الحديد، فعرج يعرج في القرآن الكريم صعد يصعد و المعارج هي المصاعد، قيل معارج الملائكة هي مصاعدها التي تصعد عليها الى السموات العلى ، قال الفراء:ذي المعارج من نعت الله لأن الملائكة تعرج الى الله فوصف الله نفسه بذلك، و قال قتادة: ذي المعارج معناه ذي الفواضل و النعم، و المعرج هو المصعد ، الطريق الذي تصعد فيه الملائكة ، و المعراج هو شبه سلم تعرج عليه الارواح اذا قبضت فقيل ليس هناك شيء احسن منه فاذا رآه الروح فلا يتمالك ان يخرج(5).
و عليه فالإسراء هو ذهاب الله بنبيه محمد صلى الله عليه و سلم راكبا على البراق من المسجد الحرام بمكة الى المسجد الاقصى في القدس في جزء من الليل و رجوعه في نفس اللية.
و اما المعراج فهو صعود الرسول محمد صلى الله عليه و سلم من المسجد الاقصى في تلك الليلة الى السموات العلى ثم الى سدرة المنتهى ثم رجوعه الى بيت المقدس في جزء من تلك الليلة(6).
كان الاسراء و المعراج قبل الهجرة و بعد موت ابي طالب و زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها حيث اشتد على الرسول (ص) الامر و عظمت عليه المصيبة بوفاتهما فتراكمت عليه
الاحزان بهاتين الحادثتين، فلقى عليه الصلاة و السلام ضروبا من شدة الاذى و ألوانا من الآلام فنحى عن نفسه عوامل اليأس و القنوط و طلب النصر من الله وحده واثقا به متوكلا عليه، متزودا بقوله تعالى: »و لا تيأسوا من روح الله، انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون« و قوله تعالى أيضا : » حتى اذا استيأس الرسل و ظنوا انهم قد كذبوا جاءهم نصرنا « سورة يوسف الآية 87 و 110.
تعريف الاسراء والمعراج : فمن كان الله معه فهو السعيد الذي لا يشقى، القوى الذي لا يضعف ،العزيز الذي لا يذل و الغالب الذي لا يغلب و قد كانت بالفعل العناية الإلهية و تكريم الله لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم و اعداده كبشر و انسان ليكون فوق مستوى البشرية والانسانية كلها في الكمال و الصفات أن سـرى به في جزء من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى فيلاقيه بالأنبياء و الرسل و يؤمنهم ثم يرفعه مكانا عليا فيعرج به الى ما فوق السموات السبع الى سدرة المنتهى ليشرفه بكلامه و يريه من آياته الكبرى منحة منه له سبحانه و تعالى و تفضيلا له على سائر انبيائه و رسله وكافة خلقه فيشرفه بالإسراء و المعراج و يصطفيه بقربه اليه و يناجيه و يكلمه ويفرض عليه و على امته الصلاة خمسا في الفعل و خمسين في الثواب لأنه مبعوثه المرسل الى الناس كافة بشيرا و نذيرا.
فهو مبشرا بالعدل و السلام و الامن و الرخاء و السعادة و المودة و المحبة و الاخاء بين الناس في الدنيا و في الآخرة بالجنة والنعيم الدائم، و نذيرا بالهلاك و الدمار والخوف و التأخر و الانحلال و الفناء لمن لا يؤمن بدعوته و لا يتبع سبيله و سنته في الدنيا و في الاخرة له بعذاب أليم، فلذا كانت ذكرى الإسراء و المعراج من أعظم الذكريات التاريخية مكانة
في تاريخ الاسلام و أكثرها احتفاء عند المسلمين، و كان من البديهي و لهذه الذكرى مكانتها العظيمة في تاريخ الإسلام أن يحتفى بها شعراء و منهم احمد سحنون فــيخصص لها أربع قصائد من شعره و احدة ضمها ديوانه المطبوع و ثلاث قصائد ضمها ديوانه المخطوط.
ففي السادس و العشرين من شهر رجب الحرام من كل سنة يجتمع المسلمون في شتى أنحاء العالم في بيوت الله يتلون تفاصيل هذه المعجزة التي كرم الله بها نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم و يتأملون ما فيها من العبر و يتذكرون عناية الله برسوله الكريم فيعاهدون الله على أن يتجردوا من كل خلق ذميم و أن يتصفوا بكل سجية حميدة و يجددوا بيعتهم لنبيهم المصطفى.
و للتذكير ليس المطلوب منا هنا ان نبرهن على إمكانية وقوع هذه المعجزة عقليا إذ لا يصح لنا أن نحاول تقديم البرهان على صحة وقوع الإسراء و المعراج و نحن نؤمن بما هو أكثر بعدا من هذه المعجزة فحسبنا أن القرآن الكريم سجل لنا هذه الحادثة بوضوح في قوله تعالى: »سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا« كما سجل القران الكريم حادثة المعراج بوضوح أيضا في قوله تعالى : »و النجم إذا هوى ما ضل صاحبكم و ما غوى و ما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوي و هو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى«
و إنما المطلوب منا هو استخلاص الفوائد و العبر من هذه الذكرى العظيمة في تاريخ الإسلام لان استخلاص تلك الفوائد و العبر هي الأسباب التي جعلتنا نعمد إلى هذا التعريف بحدث الإسراء والمعراج للوقوف على مدى قيمة هذه الذكرى في تاريخنا الإسلامي و الأبعاد التي تمثلها في نفس شاعرنا احمد سحنون و كذا المعاني و الأفكار التي اوحتها في نفسه و تزاحمت مشاعره بها كما سـيـتـبـين لاحـقا.
تعريف الاسراء والمعراج :
فوائد و عبر الإسراء و المعراج :
إن الفوائد و العبر التي يمكن ان نستخلصهامن الإسراء و المعراج هي :
إن للسموات السبع أبواب حقيقية و حفظة موكلين بها و أن أبوابها لا تفتح للعروج إليها إلا لمن يستأذن و يقول أنا فلان بذكر أسمه و لا تفتح له و لا يدخل منها إلا بعد أن يؤذن له.
وجوب تسليم المار على القاعد و لو كان المار أفضل عند الله من القاعد، فمحمد (ص) أفضل الأنبياء الذين مر عليهم في السموات السبع لكنه هو الذي بادر بالسلام عليهم لأنه هو المار وهم القاعدون.
فضل السير بالليل على السير بالنهار لأن الله سير عبده محمد (ص) النبي المرسل إلى الناس جميعا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بالليل و لم يسيره بالنهار و من ذلك كان فضل العبادة بالليل أكبر من فضلها بالنهار و لذلك كانت عبادة الرسول عليه الصلاة و السلام بالليل أكثر من عبادته بالنهار، كما كان أكثر سفره بالليل من سفره بالنهار حيث قال (ص) : » عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل « حديث صحيح رواه أبو داود و قد حث القرآن الكريم على قيام الليل و لم يحث على قيام النهار قال تعالى » يا أيها المزمل قم الليل الا قليلا… « و قال أيضا : » و الليل إذا يسر «.
حصول الفائدة من معالجة الأمر بالتجربة أقوى و أفضل من حصولها بمعرفة الأمر دون معالجته بالتجربة و هو ما يستفاد من قول موسى عليه السلام للنبي محمد صلى الله عليه و سلم : »إرجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق خمسين صلاة في كل يوم و ليلة، فإني بلوت بني إسرائيل و خبرتهم على أقل من ذلك فما وافـقـوني و ما أطاعوني «.
– إستحباب قبول النصيحة و بذلها لمن يحتاج إليها و استحباب الإلحاح في السؤال إلى الله و الشفاعه عنده و يستفاد ذلك من قبول النبي محمد صلى الله عليه و سلم النصيحة من موسى عليه السلام و إجابته مشورة موسى في سؤال الله التخفيف ست مرات.
فضل الله على أمة محمد (ص) و رحمته بها في تخفيفه للصلوات المفروضة عليها من خمسين في اليوم و الليلة إلى خمس صلوات مع بقاء أجر الخمسين صلاة.
الهم بالعمل المكسب للحسنة دون التمكن من القيام به تكتب به الحسنة، و القيام بالعمل المكسب للحسنة الواحدة تضاعف به الحسنة إلى عشر حسنات و عكس ذلك، الهم بالسيئة فلا تكتب به السيئة و العمل به لا يضاعف بل تكتب به سيئة واحدة(7).
توظيف ذكرى الإسراء و المعراج:
كلما هل شهر رجب من كل سنة هلت معه ذكرى مجيدة في تاريخ الإسلام عزيزة غالية على المسلمين جميعا في مشارق الأرض و مغاربها و ازدادوا عزة و تذكرا مع الألم و الحسرة لما حصل للمسجد الأقصى أولى القبلتين و ثالث الحرمين من هيمنة وتدنيس اليهود له، و عاشوا معه حال يسرهم و عسرهم، و رخائهم و شدتهم.
و إن تذكر المجد و العزة مع استصحاب الألم و الحسرة لا يعدم الطبيعة البشرية ولا يصدمها، بل يجرها حتما إلى البحث عن عوامل الشفاء، لأن صفاء سريرة الإيمان يخلق العجائب و الغرائب و يشد العزائم و يقوي الهمم فيجعل المؤمن الذي يتفاعل مع عقيدته لا يخاف الموت و لا يهابه بل يحرص عليه حرصه على الحياة لأن الله ينفخ في روحه العزم و الثبات ليظل عزيزا منيعا يواجه الدنيا و دوائرها بالنهج الرشيد و السعي السديد اللذين تجتمع بهما قلوب المؤمنين على الوحدة والأخوة و التعاون و الإيثار، ذلك لأن هدي الإسراء و المعراج من شأنه أن يوجه المسلمين المتقين إلى نفحات أسراره و سبحات أنواره و آيات انتصاره و يفيض عليهم فضائله السامية ليكونوا كما وصفهم الله خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تؤمن بالله.
فما أعظم هذه الذكرى في تاريخنا الإسلامي و ما أخلد شهر رجب الذي جرت فيه أحداثها، لكن ما أقل عناية المسلمين بها في عصرنا الحاضر، مع أنه لكل امة في هذا العصر يوم خالد في تاريخها تحتفل به.فـلـفـرنسا يوم الثورة تحتفل فيه بإعلان الجمهورية، ولأمريكا يوم التحرير و الاستقلال تحتفل به و للأمم المتحدة يوم إعلان حقوق الإنسان تحتفل به الدول الموقعة على هذا الميثاق لتبين ما لهذا اليوم من أثر خالد في تاريخ الدول المعاصرة، أما المسلمون فلهذا الشهر، شهر رجب الحرام رغم أثره العظيم في تاريخ وجودهم فقد أهملوا عناية الإحتفال به فحرموا أنفسهم من نفحات أسراره و سبحات أنواره فلم يعطوا لوجودهم معنى بين الأمم ، لكن شاعرنا أحمد سحنون لم تفته عناية الإحتفال بهذا اليوم الخالد في تاريخنا الإسلامي، يوم ذكرى الإسراء و المعراج التي حدثت في شهر رجب و جعلت منه شهر الأسرار و الأنوار التي ميزته عن غيره من أشهر السنة.
و قد إستأثرت هذه الذكرى بأربع قصائد خصها بها الشاعر، واحدة من هذه القصائد ضمها ديوانه المطبوع بعنوان ” ذكرى الإسراء و المعراج” و ثلاث قصائد وجدناها في ديوانه المخطوط عنوان واحدة منها “في ذكرى الإسراء و المعراج” و أخرى بعنوان ” من وحي الإسراء و المعراج” و ثالثة سماها بإسم الشهر الذي وقعت فيه رحلتا الإسراء و المعراج”رجب الحرام”.
و إننا نظن أن نزعة الشاعر الصوفية هي التي جعلته يسمي هذه القصيدة بهذا الإسم لما لهذا الشهر من دلالة لمقام الأحوال و مراتب الأولياء و طبقاتهم ، فهم رجال الله المسمونبعالم الأنفاس و هو الإسم الذي يعمهم جميعا ، وهم على طبقات كثيرة و أحوال مختلفة، منهم من تجمع له الحالات و الطبقات كلها فيحصّل من ذلك ما شاء الله له، و ما من طبقة من هذه الطبقات إلا لها لقب خاص بها من أهل الأحوال و المقامات التي يظهرون عليها، فمنهم من يحصره عدد في كل زمان لا يزيدون و لا ينقصون، ومنهم من لا يحصرهم عدد فيقـلون و يكثرون، و من أصحاب المقامات و الأحوال الذين يحصرهم عدد ” الرجبيون “و هم أربعون نفسا في كل زمان لا يزيدون و لا ينقصون، و هم رجال حالهم القيام بعظمة الله و هم من الأفراد، وهم أرباب القول الثقيل من قوله تعالى: ” إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ” سورة المزمل الآية 5، وسموا الرجبيون لأن حال هذا المقام لا يكون لهم إلا في شهر رجب من أول إستهلال هلاله إلى إنفصاله، ثم يفقدون ذلك الحال من أنفسهم فلا يجدونه إلى دخول رجب من السنة الآتية، و قليل من يعرفهم من أهل هذه الطريق و هم متفرقون في البلاد و يعرف بعضهم بعضا(8).
فإذا عرفنا أن ذكرى الإسراء و المعراج العظيمة في تاريخ المسلمين لها يوم خالد وقعت فيه، و إذا عرفنا أن هذا اليوم الخالد في شهر رجب ، واذا عرفنا أن شهر رجب هو الذي يكون فيه مقام الرجـبـيين أرباب القول الثقيل الذين الذين يمنحهم الله في هذا الشهر سـر الـتـجلّي و الكشف
و الإطلاع على المغيبات(9)فإذا عرفنا ذلك عرفنا لماذا سمى احمد سحنون إحدى قصائده الأربعة التي ضمها ديوانه الثاني و التي عبر فيها عن أحاسيسه و مشاعره التي تزاحمت في فكره بمناسبة هذه الذكرى في شهر رجب و سماها ” رجب الحرام “، حيث يقول فيها:
رجب شهر رفعـة ومحبّه فيه لاقـى خير النبييـن ربّه
ثم ناجـاه دون أي حجاب أي فضـل و أي زلفى و قربه
و به شرع اللقـاء مع اللـه بفرض الصلاة في خير صحبه
فهو ذكرى تكريـم كل مصلّ و لـذا صار للكمـالات تربه
أي شهر قـد كان مسرى و معرا جالطـه و ملتـقى للأحبـه
فيـه قد أنسـي النبي أسـاه و شفـاه اللقاء من كـل كربه
و لقآء الرسـول بالله ينسيـه لقاء الألى يريـدون حربه
و لقاء العبـاد داء و لكن لقـاء الإله قد كان طبـه
رجب شهـر رؤية و لقاء فغدا ضمـن أشهر هي نخبـه
رؤيـة الله و اللقـاء به قد بـوّآ خير خلقـه خيـر رتبـه
إن حادث الإسراء و المعراج قد ربط منذ أربعة عشر قرنا بيت الله بمكة و بيت المقدس بفلسطين بقلوب المسلمين في شتى أنحاء العالم برباط روحي لم ينقطع و لن ينقطع و إن أرهقت شدته دوائر الأيام و السنون و أهمل رعايته حكام و ملوك العرب و المسلمين، فهو باق بقاء الحياة إلى أن يبعث الله رجلا يشده و يصل به حدود المسجد الحرام بحدود المسجد الأقصى الأرضية كما وصل حدودهما الروحية رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم و أكمل وصل حدودهما الجغرافية خليفته عمر بن الخطاب من بعده.
إن لهذه الحادثة العظيمة في تاريخ الإسلام من الأسرار العجيبة التي لم يزل الله يطلعنا عن بعضها و يحتفظ في علم الغيب لنفسه عن بعضها الآخر و كم فيها من البشائر و النذر التي سيكشف الله لنا عنها بقدر في وقتها عندما يشاء.
و من أسرار هذه المعجزة التي كشفها الله لعباده المؤمنين، أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يعلم أن قومه سيكذبونه و يهزؤون به حين يقص عليهم نبأ هذه المعجزة، لكنه لم يبال بهزء الجاهلين و أعراض المكذبين ما دامت رسالته تمشي قدما نحو أهدافها التي قدرها الله لها، و ما دام هؤلاء الساخرون و المكذبون سيعرفون نبأ هذه الحادثة بعد حين ولو بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، فجهر بها و صدقه من صدقه يومئذ من المؤمنين الثابتين و كذبه من كذبه أو ارتد عن دينه من ارتد من المكابرين و الجاهلين، و مضت سنون قليلة بسرعة، و إذا بأولئك الذين كذبوه أو سخروا منه يوم قصّ عليهم إسراءه إلى بيت المقدس يقفون بأنفسهم على أبوابها فاتحين لها ثم منطلقين منها شرقا و غربا و جنوبا و شمالا ليصلوا الحدود الجغرافية لبيت المقدس و الشام و مصر و العراق بمكة و المدينة لتكون مملكة واحدة تنبعث منها جيوشهم إلى أنحاء الدنيا فاتحة محررة. لكن التاريخ مضى و لم يتوقف عند تلك المرحلة و دب الشقاق و الخلاف بين حكام العرب و ملوكهم و طغت مصالحهم الفردية على مصلحة الجماعة و انشغلوا بمتع الحياة عن وحدة مملكتهم التي وصل حددها الروحية نبيهم صلى الله عليه و سلم و وصل حدودها الجغرافية خليفته عمر من بعده ، و إذا بجيوش الصليبيين تتدفق من أوروبا على بيت المقدس فتنتهك الحرمات و ترتكب المذابح و تجري دماء المسلمين في شوارع بيت المقدس و ينتزعون المسجد الأقصى من الحدود الجغرافية لمملكة الإسلام ليصبح عاصمتهم الدينية أمدا من الدهر إلى أن يبعث الله من بطن أمة محمد رجلا مؤمنا غير عربي إسمه صلاح الدين الأيوبي فيسترجع بيت المقدس إلى حدود دولة الإسلام الجغرافية و يطرد الغزاة الصليبيين دون هتك حرمات و لا إرتكاب مذابح، ثم يمضي التاريخ مرة أخرى، بل التاريخ يعيد نفسه عندما يخلف ذلك النوع من الرجال المؤمنين حقا خلف يضيعون مجد أسلافهم و يفرطون في بيت المقدس فقد اهمه جيوش الحلفاء خلال الحرب الأروبية الأولى و اعلن قائد الحملة الإنجليزية “ألانبي” من رحاب المسجد الأقصى إنتهاء الحروب الصليبية بالإستيلاء على بيت المقدس و يرضى بذلك ملوك العرب و حكامهم بالدون و العيش الزهيد ، و يظن الإنجليز أنهم انتزعوا بيت المقدس من المسلمين إلى الأبد، فلم يخرجوا منه الا بعد أن أقاموا عليه لليهود العنصريين دولة الشر و العدوان التي تنوب عنهم في إضعاف الدول العربية و إذلال حكامها أمام شعوبهم.
لذلك فإننا نعتقد أنه من الأسرار التي تضمنتها رحلة الإسراء و المعراج هذا السر العظيم الذي ربط وصل الحدود الروحية للمسجدين الحرام و الأقصى بالحدود الجغرافية للدول العربية المجاورة لهما و أن أي تفريط في الدفاع بصدق عن الحدود الروحية للمسجدين (الحرام و الأقصى) يترتب عنه حتما التفريط في الحدود الجغرافية لتلك الدول المجاورة لهما لأن إرتباط هذه الحدود الجغرافية و وصلها بالحدود الروحية كإرتباط الروح بالجسد حيث يقول شاعرنا أحمد سحنون مخلدا هذه الذكرى:
هـذه اللـيـلـة مـن أمجادنا
سـرها كـالروح فـي أجسادنا
ذكـرهـا يــوحي إلى أولادنا
إننــا مـن أمـة لا تـهـرم
قد سرى للقدس في جنح الظلام
موطن الأديان و الرسل الكرام
حيث صلوا كلهم وهو الإمـام
أي فـضـل بـعـد هذا يزعم؟ (10)
يعبر الـشاعر في هذه القصيدة عن مشاعره و أحاسيسه التي حركتها ليلة السابع و العشرين من شهر رجب المبارك فتزاحمت في خياله احـداثـها لترسـم هذه المشاهد المتحركة التي اوحتها له ذكرى الاسراء و المعراج.
فاحـداث هذه اللـيلة يعـدها الشاعر من ذكـريات المجـد في تاريخنا الاسلامي، عزيزة غالية على جميع المسلمين، فيها اختص الله نبينا الكريم محمد صلى الله عليه و سلم برحلة إلى أعلى مقامات السمو و الجلال، فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى المبارك، و منه عرج به
الى السماوات السبع ثم إلى سدرة المنتهى، لينال شرف القرب من ربه و يرى آيـاته الكبرى و يجني من كل يعلم ما يجني و علم السر الذي لا يُعلم.
فالشاعر أحمد سحنون لم يكتفي بالتعبير عن أحاسيسها و مشاعره المتزاحمة في خياله بل حرص على إثارة إحساس الغير و تحريك مشاعره ليعيشوا معه أحداث هذه الذكرى و ليشاركوه في تزاحم أحاسـيسه و مشاعره ؛ و لتحقيق ذلك عمد الشاعر الى استحضار الوقائع التي حدثت للرسول صلى الله عليه و سلم في هذه الرحلة و عاشها في هذه الليلة، و لتجسيد هذه الغاية استعمل الشاعر أسلوب التصوير بالحقيقة الذي يعتمد رسم المشاهد المتحركة في شكل قصصي تتجه أحداثه نحو اكتمال رسم شريط المشاهد (11) القادرة على تجسيد الإحساسات المتولدة من العبارات الموحية لتلك المشاهد المتحركة و المثيرة للإحساسات كما فـي مثـل قوله:غاب دجـاها بـسنا خير عباد الله طـه ـ عـلا منزلـة و بنى مجدا لا يهدم ـ سـرى للقدس في جنح الظلام ـ القـدس موطـن.
الهوامش:
1) المنجد في اللغة و الأدب
2)ابن الأثير: الكامل في التاريخ ج 1،ص 127
3)ابن منظور: لسان العرب.ج14،ص 372
4) نفس المرجع. ج 2،ص 320 و 321
5)نفس المرجع. ج2 ،ص 321
6)ابن الأثير: الكامل في التاريخ. ج2،ص 51 و كذا تفسيره لسورة الاسراء
7)صحيح البخاري،ج 5 ، باب حديث الإسراء،ص من 66 الى 70، دار احياء التراث العربي
انظر: ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري لأبي العباس شهاب الدين العسقلاني،ج6، ص من 203 الى 207، دار الكتاب العربي.
8) محي الدين بن عربي: الفتوحات المكية ج 2،الباب73 ،ص 8 و 9
9)نفس المرجع
10)ديوان احمد سحنون المطبوع، ش.و.ن.ت 1975
11)عدنان حسين قاسم