مقالة حول الفلسفة الاسلامية

·

·

لكن بالتدريج بدأت الدراسات تتعمق في فكر الغزالي الذي اتضح أن لدية اتجاها أخلاقيا أكثر ارتباطا بالدين الإسلامي نفسه([21]) كما جرت مقارنة بعض جوانبه بنظريات غربية متشابهة([22])
أما الدراسة التي قام بتا د.محمد عبد الله دراز حول الأخلاق في القرآن الكريم والتي كتبها بالفرنسية بعنوان la morale du Koran([23]) فتعتبر بحق فتحا في مجال الدراسات الأخلاقية في الإسلام فقد استطاع هذا الباحث الجاد أن يستخلص من آيات القرآن الكريم نفسه نظرية أخلاقية متكاملة قارن بعض عناصرها بمذاهب فلاسفة الأخلاق في الغرب وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني كانت (1804م) ([24])
ومما لاشك فيه أن هذه الدراسة الإحصائية التحليلية المقارنة للمصدر الأول في الأخلاق الإسلامية وهو القرآن الكريم تضع الدارسين في هذا المجال على الطريق الصحيح وبإمكانهم بعد ذلك أن يدرسوا السنة النبوية بنفس المنهج وأن يتتبعوا الاتجاهات الأخلاقية الأصلية لدى مفكري المسلمين ذوى الطابع الإسلامي الخالص من أمثال : القابسى (403-1012م) ([25]) وابن تيمية(728-1327م) وابن القيم (751-1350م) ([26]) والماوردى (450-1058) ([27]) والسبك (771-1369م) ([28]) والراغب الأصفهاني (502-1108م) ([29]) .
على أننا ينبغي أن ننوه ببعض الدراسات النظرية التي تمت في هذا المجال وفى مقدمتها فلسفة الأخلاق في الإسلام للدكتور محمد يوسف موسى ([30]) والفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي للدكتور احمد محمود صبحي ([31]) والاتجاه الأخلاقي في الإسلام للباحث التركي د.مقددا يلجن([32]) .
هذا ويرتبط بمجال الأخلاق الإسلامية فرع آخر وثيق الصلة بت وهو ما يمكن أن يطلق علية الأدب الديني والاعترافات الذاتية ويتمثل هذا الفرع في عدد من الكتابات المتشابهة التي تركها لنا مجموعة من كبار مفكري الإسلام مثل الحارث المحاسبي(243-1063م) والغزالي (505-1011م) وابن الجوى (597-1200م)
وأخيرا لابد أن ننبه أن الكتابة عن الأخلاق الإسلامية تختلف كثيرا عن دراستها دراسة علمية فما أكثر مات دفع بت المطابع يوميا في العالم الإسلامي من مؤلفات أخلاقية تستعرض مشاء لها أصحابها من آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله علية وسلم وسير حياة السلف الصالح لكن الدراسة التحليلية المقارنة لهذه المادة تتجه أساسا للكشف عن الاتجاه الصحيح في الإسلام مستبعدة ما يمكن أن يتسرب للحكايات والقصص الأخلاقية من تصورات شعبية وآراء مسبقة.

 أصول الفقه

في سنة 1994م، نشر الشيخ مصطفى عبد الرازق كتابة الرائد تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية وهو أول كتاب عربي يدرس الفلسفة الإسلامية دراسة منهجية في العصر الحديث لكن أفكار الكتاب كانت قد انتشرت قبل هذا التاريخ بحوالي ربع قرن عندما كان المؤلف يلقيها في صورة محاضرات على طلاب كلية الآداب في الجامعة المصرية الناشئة في ذلك الوقت
وكانت أبرز أفكاره هي ما دعا فيها إلى ضرورة اعتبار علم أصول الفقه من فروع الفلسفة الإسلامية على أساس مايتميز بت من طابع فلسفي واضح يقول: وعندي أنة إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل هذا الوصف شاملا لهما فإن علم أصول الفقه المسمى أيضا علم أصول الأحكام ليس ضعيف الصلة بالفلسفة ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها علم أصول العقائد الذي هو الكلام بل أنك لترى في كتاب أصول الفقه أبحاثا يسمونها مبادئ كلامية هي من مباحث علم الكلام وأظن أن التوسع في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية سينتهي إلى ضم هذا العلم إلى شعبها([33]).
والواقع أن الشيخ مصطفى عبد الرازق قد مهد لهذه الفكرة باستعراض تاريخي لنشأة اتجاه الرأي في الفقه الإسلامي وتطور الاجتهاد في استنباط الأحكام من مصادر التشريع الأولى ونجاح العقل في الوصول إلى حلول جيدة لمعظم المشكلات التي عرضت له([34]) وعلى الرغم أن معظم دارسي الفلسفة الإسلامية ينوهون بصواب تلك الفكرة إلا أن أحدا منهم لم يتقدم حتى الآن لدراستها على نحو تحليلي أكثر تفصيلا كما دعا إلى ذلك صاحبها ومن الملاحظ أن علم أصول الفقه لا يجد من الفقهاء في الوقت الحاضر الاهتمام اللائق بت مع أنة – في رأينا- يعتبر الطريق الطبيعي الوحيد الذي يمهد لإعادة فتح باب الاجتهاد الذي أغلق منذ مئات السنين!  لذلك فإن مسئولية إحياء هذا العلم تقع في المقام الأول على عاتق دراسي الفلسفة الإسلامية والذين ترتبط بهم حركة النهضة الفكرية الحديثة في العالم الإسلامي.

 مجال تصنيف العلوم في الفلسفة الإسلامية

يعتبر كتاب إحصاء العلوم للفارابي (39/950م) أول كتاب كامل يؤلف في هذا المجال وقد احتفى بت الأوربيون في العصور الوسطى وقد نقل مرتين إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر بالإضافة إلى ترجمة ثالثة علمية في نفس القرن ومما هو جدير بالملاحظة أن روجر بيكون (ت 1294م) الذي يعتبر أبا للفكر الأوربي الحديث قد تأثر بإحصاء العلوم للفارابي وذكره بالتحديد في مؤلفاته([35])
وقد تابع المسلمون الكتابة في هذا المجال فكتب الخوارزمي (384-997م) مفاتيح العلوم وتعرض له إخوان الصفا(القرن الرابع الهجري) في رسائلهم المعروفة وتحدث عنة ابن سينا(428-1037م) في موسوعته الضخمة الشفاء والغزالي (505-1011م) في المنقذ من الضلال وابن خلدون (808خ-1406م) في مقدمته الشهيرة([36])
ومن البين أن هذا المجال شديد الفائدة بالنسبة لتوازن حركة العلوم ومدى الاهتمام بتا في المجتمع الإسلامي فنحن نعلم أثناء ازدهار الحضارة الإسلامية خلال القرن الثالث والرابع الهجريين كانت المجموعة علوم الدين واللغة تسير جنبا إلى جنب مع مجموعة العلوم الرياضية والتجريبية لكن ابتداء من القرن الخامس الهجري بدأت مجموعة الرياضية والتجريبية تضيق في حين اتسعت دائرة المجموعة الأولى واستمر الحال على ذلك عدة قرون اختفت فيها تقريبا مجموعة العلوم الرياضية والتجريبية وهذه هي الفترة التي دخل فيها العالم الإسلامي فجأة إن أوربا قد سبقته في هذا المضمار وأسرع يستقى منها ما فاته ويحاول أن يعيد التوازن إلى حركة العلوم فيها، والاهتمام بتصنيف العلوم إذن هو الذي يقيم التوازن المعقول في الحركة العلمية وينبه عند الضرورة إلى نقاط التخلف في إحدى العلوم أو في مجموعة منها فضلا عن أنة كان وراء عملية وضع دوائر المعارف في العالم الغربي وهى اللبنة الأولى في أي تقدم علمي منشود([37])
ولابد من الاعتراف بأن هذا المجال الهام لا يجد حتى الآن من يعطيه العناية المطلوبة ولا شك أنة بحاجة شديدة إلى جهود علمية كثيرة تكشف عن جهود المفكرين المسلمين فيه وتقارن بين ما أنجزوه وما تم إنجازه في الجانب الآخر لدى الغربيين وخاصة في بداية عصر النهضة الأوربية تمهيدا لإعادة النظر في حركة العلوم الجارية حاليا في العالم الإسلامي

فلسفة التاريخ

إذا كان التاريخ يعنى بسرد الأحداث الماضية في ترتيب زمني متدرج فإن فلسفة التاريخ هي التي تستخلص من هذا السرد: القوانين الكلية التي تحكم الأحداث ولا شك في أنها تتطلب استيعابا يتجاوز مجرد المعرفة وتعمقا في الطبيعة البشرية وقدرة على تحليل الأحداث وربط الظواهر المتشابهة وحدسا لملء الفجوات وتعليل التصرفات ثم كفاءة لاستخلاص القانون العام من الوقائع المتناثرة وكل هذه المتطلبات لا تكاد توجد إلا في فيلسوف … وهذا محادث على نحو يدعو للإعجاب لدى ابن خلدون (808ه-1406م) الذي ترك لنا مقدمة الشهيرة وفيها فلسفته للتاريخ الإسلامي وأصول علم الاجتماع([38])
ومع ذلك لا نعدم مشابهات من محاولة ابن خلدون لدى الكثير من مؤرخي الإسلام كالطبري (310-932م) والمسعودي (346-957م) ومسكوبة (421-1038م) وفى إمكان أي باحث في مؤلفاتهم أن يجد في ثنايا سرد الأحداث إشارات على جانب كبير من الأهمية تحتاج إلى عملية تركيب syntheses لكى تبرز منها الاتجاهات الفكرية لدى مؤرخي الإسلام ونعتقد أن هذا العمل من صميم الفلسفة الإسلامية
ويرتبط بهذا المجال ما يمكن أن نطلق علية اسم الفلسفة السياسية وهى التي تتناول كتابات بعض الفلاسفة حول نظام الدول المتخيل (كما فعل الفارابي في كتابة آراء أهل المدينة الفاضلة) أو الواقعي كما فعل المارودى في كتابة الأحكام السلطانية وابن تيمية في كتابة: السياسة الشرعية .

المنطق وشروحه في الفلسفة الإسلامية

المنطق علم يوناني وهو من وضع أرسطو تركة كما يقال كاملا لا يحتاج إلى زيادة([39]) وقد انتقل ضمن الفلسفة اليونانية إلى المسلمين واستولى على إعجاب معظم مفكريهم فراحوا يشرحونه أو يلخصونه أو يعلقون علية([40]) كما أنهم استخدموه في مناظراتهم وجعلوه في كثير من الأحيان أداة لتفكيرهم ومن ثم وجدنا المنطق الأرسطي يتغلغل في معظم العلوم اللغوية والدينية
لكننا يجب إن نشير إلى أن منطق أرسطو لم يحظ بقبول جميع مفكري الإسلام فقد هاجمة عدد منهم وعلى رأسهم ابن تيمية الذي قال عنة عبارته المشهورة أنة ليفيد الذكي ولا ينتفع بت البليد([41]) ويرجع الفضل في بيان موقف ابن تيمية من منطق أرسطو إلى د.على سامي النشار في دراسته القيمة مناهج البحث عند مفكر لإسلام
وهكذا سبق نقد المسلمين لمنطق أرسطو نقد مفكري عصر النهضة في أوربا لهذا المنطق بعدة قرون فنحن نعلم أن النهضة الفكرية إنما قامت في الغرب على اطرحا منطق أرسطو وتبنى المنهج التجريبي الذي أطلق الحركة العلمية من عالق وأتاح لها فرصة اتصالها بالواقع وتفاعلها المستمر معه
ويلاحظ أن الدراسات العربية الحديثة مازالت قليلة جدا إن لم تكن نادرة في مجال دراسة المنطق والذي نود أن ننبه إلية أن شروح المسلمين وملخصاتهم لمنطق أرسطو لا تخلو من أصالة وفى اللحظة التي تتجمع فيها هذه الشروح ويتم تحليلها ومقارنتها بمثيلاتها في العالم الغربي خلال العصور الوسطى سوف تظهر قيمتها الحقيقية وتكشف عن مدى مساهمة المسلمين في هذا المجال

مناهج البحث في الفلسفة الإسلامية

يعتبر هذا المجال من أهم ما ينبغي أن يتجه إلية داس الفلسفة الإسلامية في الوقت الحاضر لأن الكشف عن هذه المناهج لدى مفكري الإسلام يعتبر في رأينا- بالإضافة إلى قيمته التاريخية أفضل مدخل للتراث الإسلامي في جملته فهو الذي يوضح الخطوات القياسية أو الاستقرائية التي اتبعها المفكرون والعلماء المسلمون في مختلف أوجه النشاط التي مارسوها سواء كانت نظرية أم تجريبية وإلى أي مدى كان استدام للملاحظة والتجربة وطريقتهم في وضع الفروض والتحقق منها وكيفية صياغتهم للقوانين العلمية التي توصلوا إليها([42]) كذلك فإن منهج النقل الذي شاع استخدامه لدى علماء الحديث من أهم الموضوعات التي تجلت فيها عبقرية المسلمين وهى تضع أيدنا على أحد مصادر اليقين في الدراسات التاريخية([43]) .
ويرتبط بهذا المجال الحيوي: مجموعة مباحث يطلق عليها القدماء: الجدل وآداب البحث والمناظرة وهى مناهج خاصة بالنقاش الذي كان يدور بين علماء المسلمين أصولة وحدوده ونماذجه وقد شاع استخدامها كثيرا في كل من الفقه وعلم الكلام وكان لها أثر كبير في طرق التفكير لدى علماء المسلمين ومما تنبغي الإشارة إلية أن هذه الفروع تكاد ترقد تماما في دائرة الظل على الرغم مما تتضمنه من عناصر منهجية غاية في الأهمية.
وهكذا يتضح من استعراض المجالات السابقة أن الفلسفة الإسلامية ليست بالبساطة التي قد تتصور بل إنها عبارة عن كل متنوع يضم في إطار مجموعة من المجالات التي قد تبدو للوهلة الأولى متباعدة أو منفصلة ولكنها عند التحليل الأخير تتعاون وتتقارب لكى تقيم نظاما فكريا يستجيب لرغبة الإنسان في معرفة نفسه وتنظيم مجتمعة واكتشاف الكون من حوله ثم التطلع إلى عالم الغيب بأسراره المختبئة وأخيرا الاقتراب بحسب الطاقة البشرية من معرفة الله
ثم إن الفلسفة الإسلامية بمجالاتها التي ذكرناها لا تفتقد أهم مقوماتها الذاتية وهو منهج البحث الذي ينظم خطوات العقل وحتى القلب في سبيل الوصول إلى الحقيقة فإلى جانب المنهج العقلي الصارم القائم على المنطق يوجد المنهج الذوقي المتمثل في التجربة الصوفية وإلى جانب البحث الفردي الحر في معالجة المشكلات الصعبة يوجد منهج النقل والرواية والتثبت الذي يقدم خلاصة التجارب السابقة للمساعدة في حلها.
كذلك لا تقتصر الفلسفة الإسلامية على التفكير النظري المجرد بل إنها تقترب كثيرا من الواقع وتتفاعل معه فإذا كنا نراها قد بحثت مشكلة الخلق وصدور الموجودات عن الله وتناولت قضية الزمن والخلود فإنها لم تغفل سلوك الفرد مع أسرته وأصدقائه ولم تتمل حقوقه وواجباته في المجتمع.
ومن ثم فإنها تستحق أن توصف في وقت واحد بأنها مثالية وواقعية متعالية وحياتية وهذه الازدواجية تميزها بطابع خاص وتمنحها المقومات الأساسية لبناء شخصيتها المتكاملة.
مقالة حول الفلسفة الاسلامية , ومجالاتها المختلفة