[emaillocker id=2180]
ب- بنية الاستدراج بالسؤال:
يتجاوز التحاور تبادل الكلام بين متخاطبين أيا كانت طبيعتهم ودرجة صلتهم بالواقع، إلى كونه علاقة داخلية موضوعية وقصدية بين مشاركة متكلم، وأخر يستحسنها ويقدرها، حتى إن كان ذلك على المستوى الخيالي، أو الممكن، كما في النصوص الأدبية، التي لا نستطيع فيها إسناد دور حقيقي للمخاطب، ولكن باستطاعتنا وصف العلاقة بين المتكلم والمخاطب الذي يفترضه. ولما أن الأدب يخلق عالما ممكنا،
فإنالقارئ لا يهتم بمن هو أنا أو أنت في النص، لأنه يعتبره غير واقعي، خيالي، بقدر ما يهتم بتلك العلاقة بينهما كيف تتشكل داخل النص، وكيف استطاع الكاتب أن يضمن التفاعل واستمرارية النشاط الخطابي بينه ولين مخاطبه الذي يفترضه. 40
وهذا يمكن تقديره في كتاب “كليلة ودمنة” من خلال تتبع الدور الاستراتيجي لــــــــ: السؤال في صيغة الأمر؛ على اعتبار أن فعل الأمر من الأفعال الكلامية الكفيلة< بكشف ظاهرة التنازع بين ذاتين، حيث يفترض الكاتب طرفا أخر يحاوره ويقدر أفعال كلامه ويبني عليها التواصل، كما تؤدي هذه الأفعال إلى مستوى دلالي أكبر هو فعل الكلام ذو الطبيعة الشاملة، أو فعل الكلام الجامع (Macro de Langage)، وهو فعل السؤال الذي يعكس هاجس ثقافة السؤال، وهاجس اللغة التي بها الحوار ولها السؤال ولها الجواب>. وهذا هو الأساس الذي بني عليه ” كليلة ودمنة ” بوصفه أثرا حجاجيا بالدرجة
الأولى، < والحجاجية منوطة دوما بالعلاقة بين السؤال والجواب 41.. فهي تقديم إجابة لسؤال معطى في انتظار إلغائه، فالاتفاق ناتج عن هذا الإلغاء 42 وتظهر صيغة الأمر في افتتاحيات أبواب الكتاب، حيث يكون موضوعه بإيعاز من الطلب الأمر للملك الموجه لبيدبا بضرب أمثال لحالات معينة وموضوعات مختلفة تتراوح بين العقلية والسياسية والأخلاقية، وان لم يكن هناك فرق بينها جميعا بحيث
تتداخل وتتماهى بشكل لا يمكن من الفصل بينها:
ففي بالط الأسد والثور، نجد هذه الصيغة الافتتاحية له:
* قال دبشليم ملك الهند لبيدبا رأس الفلاسفة: اضرب لي مثل الرجلين المتحابين يقطع بينهما الكذوب الخائن ويحملهما على العداوة. >>.
وفي باب الحمامة المطوقة، نجد: << قال الملك: قد سمعت مثل المتحابين يقطع بينهما الخؤون المحتال. فاضرب لي مثل إخوان الصفا وكيف يكون بدء تواصلهم واستماع بعضهم من بعض >>. وصيغة الأمر بقدر ما توحي بفعل التحكم من الملك أو المتلقي في تنظيم وتسيير موضوعات الكتاب، بقدر ما تمثل القدرة الخفية لفعل السؤال، أو لافتراضه التي يوحي بها المتكلم “الحكيم” لسائله “الملك”؛ فتسير موضوعاته وفق ما خطط له سارد القصص المتلية وليس السائل الأمر.
3- قرائن المعجم Les indices de lexique:
يظهر فيها تقابل وجهات النظر عن طريق تمرير الطرح المقترح بالنقد والنقض، وهذا راجع إلى طبيعة الطرح في كتاب “كليلة ودمنة ” الذي تعدى الإدراك إلى المنهج بقواعده المعرفية والسلوكية والسياسية والأخلاقية، وذلك من خلال توزيع الأدوار على الشخصيات في الأمثال؛ فالشخصيات المنهجية هي الناجحة في سلوكها السياسي
وسلوكها الأخلاقي الاجتماعي. *
وألية النقد والنقض قائمة في الكتاب على التكامل بين نقيضين، بين شخصيتين، أو طرفي مجموعة، أو غير ذلك. حيث لم يقدم “ابن المقفع ” شخصياته كاملة، إنما يحتاج بعضها إلى بعض فينقد بذلك فكرة ما كـــــ: التفرد، الحكم بالظن، تقديم القوة وحدها، أو العقل وحده، أو تغييب العقل،. ..، ينقدها عن طريق نقض اعتقاد سابق سائد، وترسيخ أخر لا يقيمه إلا إعمال العقل والتفكر، أو ما يسمى بالمنهج بقواعده السابقة.
أ- نقد المعرفة الظنية وتأسيس المعرفة المنهجية:
للطلق هذه المعرفة المنهجية من الحواس ولا تقف عندها، ومثل لها “ابن المقفع”
بــــــ: (مثل الثعلب والطبل):
< زعموا أن ثعلبا جائعا مر بأجمة فيها طبل معلق في شجرة، فهت الريح، فجعلت قضبان الشجرة تقرع ذلك لطبل فيصوت صوتا شديدا؛ فسمع الثعلب فتوجه إليه حتى أتاه، فلما راه ضخما ظن أن ذلك لكثرة شحمه ولحمه. فعالجه حتى شقه. فلما راه أجوف قال: ما أدري لعل أفشل الأشياء أعظمها جثة، واشدها صوتا>.43
من خلال هذا المثل نكون أمام طرحين متناقضين:
طرح سابق قائم على الظن: قوة الصوت دلالة على قوة الخصم، أو قوة الجثة،…. ≠
طرح قائم على المعرفة العقلية المنهجية: إنه ليس من كل الأصوات تجب الهيبة.
المعرفة الحسية
المعرفة العقلية المنهجية
سمع له صوتا عظيما رآه (الملاحظة)
i
فعالجه حتى شقه
فرآه أجوف لا شيء فيه قال (الاستنتاج)
i
النتيجة
افشل الأشياء أجهرها صوتا وأعظمها جثة
ففي هذا المثل إشارة إلى أن إدراك الحقائق ليس بالعقل وحده، بل في تكامل إدراكه مع ما تنقله الحواس من تجارب واقعية.
ب- نقد التفرد مع قوة الكل وتأسيس تكامل الحكمة وقوة الجماعة:
طرح سابق: قد تستقيم قوة الفرد بالكل والحكمة وحدهما.
≠
طرح جديد: قد لا تكفي الحكمة والقل وحدهما في نجاح الفرد بلا عون الإخوان والجماعة.
وهذا نجده في قصة (الحمامة المطوقة) وحاجتها على حكمتها إلى قوة الجماعة في
سربها، والى مساعدة صديقها الجرذ.
- نقد التفرد مع قوة العقل
- تكامل حكمة العقل وقوة الجماعة
- جعلت كل حمامة تضطرب في حبالتها وتلتمس الخلاص لنفسها.
- لا تخاذلن في المعالجة ولا تكن نفس صاحبتها.
- نتعاون جميعنا ونطير كطائر واحد فينجو بعضنا ببعض.
- فجمعن أنفسهن ووثبن واحدة فقلعن الشبكة جميعهن بتعاونهن وعلون بها في الجو.
ج- نقد تغيلي الك، وتأسيس حفظه لحفظ إنسانية الإنسان:
يعد ابن المقفع العفل في هذا الكتاب – إضافة إلى كونه أداة معرفية للسلوك – حقيقة إنسانية الإنسان؛ فالإنسان لديه وحدة متماسكة من جسم وعقل، وعند تغييب الإنسان للعقل يتخطى في انحداره الحيوانية إلى اللاشئ. ويمثل لهذا المعنى بقصة (الناسك وابن عرس)؛ حيث غيب الناسك عقله وغلب طيش ظنه وتهوره وتنكر للحيوان
الوفي (ابن عرس) وقتله شبهة أن يكون قد أذى ولده الذي تركه يحرسه، وندم حين أدرك خطأ اعتقاده حين لا ينفع الندم.
[/emaillocker]