حجج حول كليلة ودمنة

·

·

[emaillocker id=2180]

 

4- كليلة ودمنة : مفهوم المقام

إن المقامات، بما تمثله، من أوضاع سوسيو ثقافية – أنطولوجية (ثابتة أو راسخة) هي التي تستدعي أقوالنا، وتصوغ مقالاتنا(أفكارنا وتصوراتنا، شبكة علاقاتنا، ورؤانا لعالم الوجود) التي تصوغ هي الأخرى، بدورها، أقوالنا وفعالنا، أو لنقل: إنها (المقامات) هي التي تفرض علينا أن نقول أقوالها، فتجعلنا نتكلمها، كما هي، أو نقول قولها كما هو 27 فمقام الخطاب مجموع الظروف التي نشأ التعبير في وسطها (الكتابي أو الشفاهي).
 
ويجب أن نفهم من هذا المحيط المادي والاجتماعي الذي يأخذ الظرف فيه مكانه، والصورة التي تكون للمتخاطبين عنه، وهوية هؤلاء، والفكرة التي يصطنعها كل واحد عن الأخر (بما في ذلك التمثيل الذي يمتلكه كل واحد عما يفكر به الأخر)، والأحداث التي سبقت التعبير (لاسيما العلاقات التي يمتلكها المتخاطبون من قبل، وتبادلات الكلام حيث يحشر التعبير المعني نفسه). واننا لنعرف التداولية غالبا بوصفها دراسة لهيمنة المقام على معنى العبارة 28 وهو يتفاوت ويختلف، باختلاف أحوال المتكلمين، وقدرتهم على التفاعل والاستجابة، أو الجدل مع شركائهم خلال عملية التواصل، إضافة إلى اختلاف دوافعهم الكامنة خلف عملية التكلم:
 
– فقد يكون مقام التكلم بمثابة موضع لممارسة السلطة، والتكلم من طرف واحد (الكلام الخطبوي أو المنبري).
– وقد يكون موضع لتبادل الكلام، أو تعاطيه بين أكثر من طرف (الكلام الحواري أو كلام المحادثة المحكوم بمنطق التبادل المتكافئ ).
 
– وقد يكون بمثابة موضع لتلقي الكلام المتكلم وإلقائه، أو لتلقي الأقوال المقولة وإلقائها إلى الأخرين، كما هي، أو كما قيلت من قبل، أي دون تدخل من القائل، بزيادة أو نقص 29 ويتوقف تحديد الدافع هنا على السياق؛ الذي يقترن بالمقام تداوليا؛
 
وذلك لأن التداولية < تستخدم مفهوما تجريديا يدل على الموقف التواصلي هو “السياق”. فالتداولية إذن تعنى بالشروط والقواعد اللازمة للملائمة بين أفعال القول ومقتضيات المواقف الخاصة به؛ أي للعلاقة بين النص والسياق >.30 فالمقام كشرط تداولي < يعنى بضرورة موافقة أفعال القول لمقتضى الحال والموقف الخاص به؛ أي الترابط البرهاني بين بنيةالنص وعناصر الموقف الاتصالي، والتي تعد الأفعال الكلامية بوصفها أحداثا صفق مفهوم الحدث – وفي حال إصابتها، وقبولها وكفايتها، وفي تساوقها مع مقاصد المتكلمين، تعد فاعلة في تغيير معارف السامع؛ أي أن يعرف أتنا نتحدث وننطق هذا النص، ونعبر من خلال ذلك عن معنى معين، ونحيل إلى شيء ما >31
 
وهذا المفهوم التداولي يحيل على ما كان يشار إليه في البلاغة القديمة بعبارة: “مقتضى الحال “، وهي التي أنتجت المقولة الشهيرة في البلاغة العربية: ” لكل مقام مقال “32 أما(المقام) في التصور “البيرلماني”، فقد حظي باهتمام كبير باعتباره البؤرة التي تلتقي فيها جميع العناصر الحجاجية من مقدرات برهانية وحقائق علمية وقرائن بلاغية وقيم بشتى أقسامها وعلاقة هذه القيم بمراتب الكائنات والأشخاص المعنيين بخطاب ما.
 
وذلك بوصف هذه العناصر المذكورة أسسا حجاجية لابد من طرحها بصيغ مختلفة في “المقام” نظرا لأن المخاطبين يشتركون في الإقرار بأبرز معالمها، وان ظل ذلك الإقرار متباينا بحسب طبيعة الشخص وتكوينه. كما أنه على المتكلم التركيز على معايير الأولوية فيما يتعلق بالعلاقة مع المقام والموضوع معا. ويدخل في هذه المقدمات ما يرد ذكره من حقائق فعلية وأحداث معينة لا يشك المخاطبون في ثبوتيتها المرجعية، لكن ذكرها في الخطاب أو النص لا بد أن يكون له طابع حجاجي، ولن يكون كذلك إلا إذا أحدث ذكر تلك الحقائق صراعا جدليا مع أحداث أخرى كان المخاطب يتوقع ذكرها، لكن المتكلم رغب عنها لأجل خلق إطار منطقي للحقائق التي اختارها، وذلك لتصير فعلا هي الملائمة للمقام. 33
ويقدم “بيرلمان” تصورين أساسين للمقام:
فهو تارة يعتبره الإطار المحدد للخطاب المستوعب لكل محتويات العملية
الإبداعية، ولكل المشاركين فيها.
وتارة ثانية يعتبره تلك المقدمات ذات النظام العام التي تساعد المبدعين في بناء الحجج وترتيب القيم.
و المقام في التصور الأخير(الثاني)، تجريدي أساسه المجاز والتلميح، لذا يمكن اعتباره < قيمة بلاغية ذات وظائف أسلوبية مساهمة في خلق الانسجام التام بين الشكل والمحتوى >34
وقيمة المقام بهذه الصورة (البلاغية التداولية )، نتيجة للتحول البلاغي المكتسب للتواصلية الفكرية، والذي شكل ما يسمى ب(البراغماتية المقامية )، وهو مفهوم ينظر إلى الظروف الاجتماعية والمذهبية والحضارية ومختلف السياقات الحافة بعملية التواصل (قراءة/كتابة -سماعا/ رؤية) 35 ولهذا يكون المقام شرطا تداوليا وبلاغيا في أن معا،
لعنايته بشرط موافقة أفعال القول لمقتضى الحال والموقف الخاص به.
إذن، يمكننا من خلال هذه المفاهيم السابقة للمقام؛ الاعتماد على معطيين في تحديد تشكله في ” كليلة ودمنة “، انطلاقا من:
– حال منشئه (المتكلم – الكاتب )، ووضعيته ودوافعه؛ فالمقام هنا كان كان موضعا لتلقي الكلام المتكلم، وإلقائه، أو لتلقي الأقوال المقولة وإلقائها إلى الأخرين، كما هي، أو كما قيلت من قبل- باعتبارها حكما هندية أو فارسية متوارثة – يحاول “ابن المقفع ” الإيحاء بعدم تدخله فيها بالزيادة والنقصان.
– وباعتباره إطارا حدد الخطاب الإبداعي للطرح (السرد)، والحجاجي؛ من مقدمات وقيم متراتبة حجاجيا، وكل هذا في نسيج مجازي تلميحي – خرافي.

2- البنية المؤطرة:

وهي الصيغة الخطابية التي يتبناها المخاطب لتأطير مجرى كلامه، ومسرى حججه وأطروحاته. وقد جاءت هذه البنية المؤطرة في كتاب: “ كليلة ودمنة ” في:
 
 

أ- صيغة الدعاء:

كونه قوة ابتدائية تؤطر الخطاب يبتدأ بها الحديث ويختتم. فهو ففل الكلام الذي تجتمع فيه أفعال جزئية كالطلب بالأمر والنداء والشرط. وهي وسائل تمتلك الكفاءة اللازمة التي يتم بها تحقق النشاط الخطابي، وضمان المشاركة وأحداث الأثر؛ لما يحمله من قوة كلامية “Force Illocutoire” تريح المتلفظ به، لأنه فعل الكلام الذي لا يتحقق إلا بالتلفظ به، فهو <مفتاح الحاجة، وهو مستروح أصحاب الفاقات، وملجأ المضطرين، ومتنفس ذوي المآرب> 36 ولقد كان الدعاء مقدمة مخاطبة ” بيدبا ” للملك ” دبشليم “:
< إن أول ما أقول أن أسأل إلهي لقاء الملك على الأبد، ودوام ملكه على الأمد، فقد جعل في مقامي هذا شرفا لي على من يأتي بعدي من العلماء، ونكرا باقيا على الدهور عند الحكماء؛ إذ أقبل الملك عي بوجهه وعلف عي بكرمه. والأمر الذي حملني على الدخول إلى الملك ودعاني إلى التعرض لكلامه، المخاطرة بالإقدام على نصيحته التي اختصصته بها دون غيره، وسيعلم من يتصل به ذلك؛ ذلك أني لم أقعد عن غاية فيما يجي للملوك على الحكماء. فإن فسح في كلامي ورعاه عني فهو حقيق بما يراه في نلك. وإن أدقاه فقد للص ما يجي عي وخرجت عي من دوم يلحقني >.37
 
فهو بتصريحه بصيغة القول والكلام: < أول ما أقول >، يمهد لفعل الدعاء: < أسأل إلهي >؛ فهذه صيغة كلامية طلبية للأعلى مقاما من الملك نفسه، وهو الإله، فتسمى دعاء، لكنها مفتتح لمخاطبة الملك بعد الدعاء له، بتبيين فضله في تشريفه بالمقام بين يديه بما يضمن له التفوق على غيره من العلماء، وخلود الذكر عند الحكماء. وهذا من باب تليين الجانب، وضمان سماع الاتي من الكلام: < والأمر الذي حملني على الدخول إلى الملك ودعاني إلى التعرض لكلامه، المخاطرة بالإقدام على نصيحته التي اختصصته بها دون غيره، وسيعلم من يتصل به ذلك؛ ذلك أني لم أقعد عن غاية فيما يجي للملوك على الحكماء. فإن فسح في كلامي ورعاه عني فهو حقيق لعا يراه في نلك. وإن أدقاه فقد للغت ما يجي عي وخرجت علي من لوم يلحقني >.
 
ويكون بهذا قد أحدث ما يكفي من الفضول الكفيل بخلق النشاط التخاطبي المتمثل في الحوار بينه ولين مخاطبه ” الملك”: < يا بيدبا تكلم فإني مصغ إليك وسامع منك ما تقول فقل ما عندك لأجازيك عيه لعا أنت أهل له >. فالدعاء بنية استدراجية توحي بوجود كلام لم يقل، لتستدرج السامع أو المخاطب إلى دعوة المتكلم إلى الكلام وقول ما عنده. وهو كذلك بيان لتحقيق هذا المتكلم لغرضه وبلوغ غايته، عندما يكون في الختام: < فلما انتهى المنطق للملك والفيلسوف إلى هذا المكان سكت الملك.
 
فقال له الفيلسوف: أيها الملك عثمت ألف سنة، وملكت الأقاليم السبعة، وأعطيت من كل شيء سببا وبلغة منك في السرور برعيتك ومنهم قرة عن لك، ومساعدة من القضاء والقدر، فإنه قد كمل فيك الحلم. ونكا منك الكل والحفظ وتم فيك البأس والجود،… والله يوفقك أيها الملك ويسددك ويصلح منك ما كان فاسدا، ويسكن من غرب حدتك ما كان حادا، وتسليم الرحمة على أرواحك وأرواح إبائك الطاهرين الماضين معثر أهل بيت العقل والأدب والفضل والجود والكرم >38
 
فنجد الدعاء يتكرر بعد فعل النداء: < أيها الملك >: < عشت ألف سنة، وأعطيت من كل شيء سليا وبلغة منك في السرور برعيتك ومنهم قرة عين بك، ومساعدة من القضاء والقدر>، وفيه تلمس ثناء يعذ من دلالات نجاح “بيدبا” في إقناع “دبشليم الملك” بما وراء هذه الحكايا الملكية من أبعاد ومقاصد: < فإنه قد كمل فيك الحلم. وذكا منك الكل والحفظ وتم فيك البأس والجود، واتفق منك الكل والقول والنية، ولا يوجد في رأيك نقص، ولافي قولك سقط، ولا في فعلك عيب. وجمعت النجدة واللين، فلا توجد جبانا غد اللقاء، ولا ضيق الصدر لعا يوثق لك من الأشياء >.
 
< فالدعاء الختامي يجسد الوفاق الحاصل بين المتكلم والمخاطب، وهو بمثابة إعلان عن نجاح فعل التحاور>39، الذي حققته القوة الكلامية لفعل الدعاء، والمتمثلة في الدعوة للتخاطب، أو لنية الاستدراج بالسؤال، وهي الصيغة التي قامت عليها أصول الكتاب بطريقة تبادلية بين الملك وبيدبا في القصة الإطار، ولين الشخوص الرئيسة في القصص الإطارية لأبواب، ولين الشخوص الثانوية للقصص الفرعية المتضمنة في القصص الإطارية لأبواب.
 
 
[/emaillocker]