حجج حول كليلة ودمنة

·

·

 

[emaillocker id=2180]

 

السرد:

 
يعد “عبد الفتاح كيليطو” التمثيل على ألسنة الحيوانات أعظم الحيل التي صاغها الحكماء للقيام بدورهم التعليمي، والتأثير على النفوس؛ ذلك أنهم لا يخاطبون العقلاء فقط، وإنما السخفاء كذلك. ولو كانوا لا يخاطبون إلا العقلاء لما احتاجوا على صياغة الحكايات ولتكلموا عن أغراضهم مباشرة.
 
 

 

 
لكنهم يعرفون أن جمهورهم يتكون في أغلبه من أصحاب العقول السخيفة الذين لا يستطيعون الاستفادة من الحكمة إذا هي عرضت عليهم بصفة مباشرة. يقول ابن المقفع في المقدمة: “وقد جمع هذا الكتاب لهوا وحكمة، فاجتباه الحكماء لحكمته، والسخفاء للهوه. فأما المتعلمون من الأحداث وغيرهم فنشطوا لعلمه وخف عليهم حفظه “. لا بد والحالة هذه أن تعرض الحكمة في ثوب
جذاب، أن تغلف في غلاف ملون يسترعي الانتباه. ولهذا يكون اللجوء إلى التمثيل بالسرد لضرورة تعليمية، فبما أن السخفاء بحاجة إلى التعليم، ولما أن التعليم لا يكون فعالا إذا اكتفى بمخاطبة عقولهم، فلا مندوحة من الاستعانة باللهو، أي السرد.
 
لا مندوحة من اللجوء إلى الغرابة، وأية غرابة أقوى من جعل الحكمة والكلام البليغ على
ألسنة البهائم والطير؛ الغرابة هي ما يخالف العادة، وفي هذه المخالفة يكمن سر انجذاب السخفاء إلى مضمون الكتاب، فيتقبلون الحكمة وهم لا يشعرون. اللهو إذن وسيلة يقصد بها تعليم الحكمة. في قرارة نفسه يحتقر الحكيم هذه الوسيلة، ولكنه لا يستطيع أن يستغني عنها إذ بدونها لن يحقق مسعاه: تبليغ الحكمة لجمهور واسع. السرد شر لابد منه. بفضل السرد يتلقى الشخص السخيف أو اليافع الحكمة بدون عناء، فيكون” كالرجل الذي يدرك حين يدرك فيجد أباه قد كنز له كنوزا من الذهب واعتقد له عقدا استغنى به عن استقبال السعي والطلب “.
 
وسر نجاح المثل في إثارة انتباه القارئ- حسب رأيه – يكمن في ربط كلام ابن المقفع بكلام الجرجاني حول “التمثيل” والأسباب التي تجعل منه صورة تعمل بقوة في نفس المتلقي. التمثيل، حسب الجرجاني، ينقل النفس من الشيء ” المدرك بالعفل المحض، وبالفكرة في القلب، إلى ما يدرك بالحواس أو يعلم بالطبع، وعلى حدى الضرورة “. إن النفس متعلقة بما تعلمته تلقائيا، في فترة الصبا، عن طريق الحواس، فهي لهذا تشعر بالارتياح والحبور عندما يعرض لها التمثيل ما ألفته وأنست به… ما ينطبق على التمثيل ينطبق أيضا على المثل: باختلاف حكايات أبطالها من الحيوان، يتم تحقيق هدف المرلي الحكيم، لأن معدن السرد يتكون من الحواس ومن الميول والرغبات الطفولية. 18
 
لكن التمثيل بالسرد متلما يكون غواية تدغدغ بها حواس السخفاء ويستدرج بها طالبو اللهو والتسلية؛ يكون كذلك تقية يحجب بلا مباشرته الغرض الصريح لمنشئه لدى استجابته لطلب السرد. فالسرد الحكائي هو استجابة لطلب المتلقي فكما أن “الكتاب السلطاني ” ينجز بأمر سلطاني، حقيقي أو مفترض، فإن هذا “السرد الحكائي ” ما كان ليوجد لولا طلب “المتلقي”. 19 لكن من يسرد؟ يمكن تصور حالتين. في الأولى يكون الخصمان متكافئين – ابنا أوى مثلا – يروبان بالتعاقب حكايات:
 
والذي سيكون له أوفر حظ للفوز هو الذي يورد الحكاية الأكثر إقناعا. في الحالة الثانية، يكون المتخاطبان في وضع تراتبي، أسد وابن أوى مثلا. من سيحس أنئذ بالحاجة لأن يحكي؛ بالتأكيد ذاك الذي يحس بأنه الأدنى. قد يحدث لكسد أن يستمع لحكايات، غير أنه أبدا لا يروي حكايات. ما حاجته إلى السرد، والبحث عن الإقناع، في حين أن بمقدوره بخبطة من كفه إهلاك مخاطبه؛ السرد سلاح الأعزل، (…) نلاحظ أن الخطاب، كتابة أو شفاهه، يوجد تحت سلطة الملك… يأمر دبشليم بكتابة كليلة ودمنة، ولنية الكتاب نفسها تعكس الأمر الملكي. فهو ليس فحسب في مجموعه استجابة لطلب، بل كل فصل من فصوله يذكر بذلك: الملك هو الذي يعين الموضوع. نقرأ في مفتتح الفصل الأول:
< اضرب لي مثل الرجلين المتحابين يقطع بينهما الكذوب الخائن ويحملهما على العداوة >. وهكذا يبدو كتاب “كليلة ودمنة ” سلسلة من الأحاديث بين الملك والفيلسوف. وإذ يكتبه بيدبا، فهو يشرع من جديد في تقويم الملك وتهذيبه، لكنه يبدأ بتغيير موقفه، ليست الحقيقة صالحة لأن تقال أو ليس من الممكن النطق بها إلا باحترام شروط أولية. وهكذا لا يخاطب الملك مباشرة، كما فعل حين وعظه، بل بطريقة ملتفة، بواسطة السرد، مخفيا تعليمه وراء الخرافة. من كل هذا تأتي خصوصية التمثيل السردي في هذا الكتاب، فهو موجه بصورته ومغزاه إلى قارئ واحد محدد وان ظهر العكس؛ لأن المثل المسرود، أداة تداول المعرفة،
 
هو في أخر المطاف مخصوص حصريا بالفلاسفة. إن بيدبا بهذا الصنيع قد وضع سدا مزدوجا أمام الولوج إلى كتابه: لم يمنع فحسب انتشاره بحبسه في خزانة الملك، بل أيضا قد كتبه بطريقة تظل بها دلالته الحقيقية محجوبة على الجمهور الأعظم لا يبلغها إلا بعض القراء المحظوظين. ولبلوغ الدلالة العميقة ينبغي، حسب ابن المقفع، مراعاة بعض القواعد، مثلا تلافي كل تسرع في القراءة:
 
< فليس ينبغي أن يجاوز شيئا إلى غيره حتى يحكمه ويتثبت فيه وفي قراءته وإحكامه >. ينبغي الحذر من وهم الفهم الفوري. وحدها دراسة معمقة ستتيح كشف المرموز. هكذا يعني ابن المقفع أن قراءة جيدة لكتاب كليلة ودمنة ليست ممكنة إلا بشرط إدراك مداه الرمزي. 20
< ينبني المثل في “كليلة ودمنة ” على عنصرين:
1- الوسيلة؛ وهي السرد، حكاية تدور أحداثها بين أصناف مختلفة من الحيوانات.
2- الغاية؛ وهي الحكمة، التي لولاها لما رويت الحكاية، والحكمة بدورها تتطور إلى غاية؛ وهي: العمل، ذلك ” أن العلم لا يتم إلا بالعمل وأن العلم كالشجرة والعمل فيها كالثمرة فيلزم صاحب العلم القيام بالعمل لينتفع به وان لم يستعمل ما يعلم فلا يسمى عالما “. الحكمة تطلب أجل أن يعمل بها، والا فلا فائدة من طلبها.
هذا يعني أن المثل يتسم بصيغة الأمر. المثل يتضمن بصفة صريحة أو
ضمنية دعوة إلى فعل، إلى سلوك. ومن لم يتبع علمه بالعمل المطابق يكون متلقيا قاصرا >21
 
وفي مجال السيرورة الحجاجية نفسه، نجد مفهوما أخر يطلقه “رولان بارث” على نظام أجزاء الخطاب في علاقته بالابتكار (المحاججة)، وهو الترتيب؛ ويمثل لهذه العملية بعنصرين أو مصطلحين: (استدعاء الأحاسيس): الاستهلال والخاتمة كجزأين خارجيين للخطاب، أما المصطلح الثاني: (الدعوة إلى الحدث، إلى الدليل) فيغطي السرد (علاقة الأحداث) والإثبات (مؤسسة الأدلة أو طرق الإقناع )، أو الجزأين المتوسطين للخطاب:
 
 
 
حيث يحتوي الجز العاطفي، الجز البرهاني. 22
 
وتأخذ هذه العناصر عند “بارث” معان محددة مصقولة مستقاة من البلاغة القديمة ومهذبة بفعل أليات المعارف الحديثة التي تشكل هذه العناصر جزا أو مركبا من مركباتها:
1- الاستهلال: أو الاستهواء برفق، أو إغواء المتلقين، ويتعلق بسرعة الاستمالة، وهو من أكثر العناصر استقرارا ضمن النسق البلاغي، دقيق النمط يتراوح حسب علاقة القضية أو الطرح بالاعتقاد الشائع.
2- الخاتمة: أو هي ما يجب أن يدل على النهاية، وهي تتضمن مستويين:
أ- مستوى الأشياء (وضع استرجاعي )؛ أي التلخيص.
ب – مستوى الأحاسيس (وضع تأثري )، أو الخلاصة المثيرة للعاطفة أيا كانت.
3- السرد: ولا يقصد به القص، وإنما هو تقديم حجاجي، يستلزم الشفافية، والاحتمال، والإيجاز، كما تتبدى وظيفته في أنه تهيئ للمحاججة، ويستحسن فيه خفاء المعنى، وتوزيع الأدلة على شكل (بذور التصديقات )، كما يتضمن السرد نمطين من العناصر:
 
الأحداث والأوصاف.
4- الإثبات: وهو عرض الحجج، ويتضمن:
الاقتراح (التصدير): تحديد ملتقط من القضية بهدف المجادلة.
المحاججة: وهي عرض الأدلة المحتملة، وتتطلب: البدء بالأدلة القوية، واتباعها بالأدلة الضعيفة، والانتهاء بالأدلة الأكثر قوة 23
 
ومن بين الحكايات الفرعية في هذا الباب، حكاية: الثعلب والطبل:
زعموا أن ثعلبا جائعا مر بأجمة فيها طبل معلق في شجرة، فهت الريح، فجعلت قضبان الشجرة تقرع ذلك لطبل فيصوت صوتا شديدا؛ فسمع الثعلب فتوجه إليه حتى أتاه، فلما راه ضخما ظن أن ذلك لكثرة شحمه ولحمه. فعالجه حتى شقه. فلما راه أجوف قال: ما أدري لكل أفشل الأشياء أغمها جثة، واشدها صوتا 24.
 
 
 
نجد من كل هذا أن المستوى الإطاري لتوصيلية التمثيل الحجاجي في كتاب: “كليلة ودمنة “؛ والمتمثل في صيغتي: الإخبار والسرد؛ يستوعب العملية التمثيلية السردية للكتاب، من حيث:
. اندماج صيغتي الإخبار- على ما للخبر من خصائص ومكونات من ضمنها السرد- والسرد – بما له من مقومات ومفاهيم وعناصر من جملتها الإخبار أو الخبر- في بعضهما، وتكاملهما في تشكيل الصورة التمثيلية للمرامي الفكرية المجردة لمؤلفه، وللطروحات المجسدة فيه.
 
. يمهد هذا المستوى الإطاري لمستوى أخر حواري، يشكل القاعدة التي تقصدها “ابن المقفع ” في تخريج نصوص هذا الكتاب ولناء أفكاره؛ ممثلا في المقام؛ الرهان الشكلي الظاهر الذي تفنن به في تمويه معانيه وتلوينها.
 

4- البنية الحوارية لتوصيلية التمثيل الحجاجي في كتاب “كليلة ودمنة”:

 
كتاب “كليلة ودمنة ” من الأثار الإنسانية الخالدة؛ وخلودها هذا منوط بالتفوق المنهجي، أو الوظيفة المنهجية لكثر؛ وهي الوظيفة * التي ترتبط بفكرة محركة في اتجاه ما يقوله المبدع “( بعمله الفني،) وليس فيه. وتكون هذه الفكرة منهجية إذا أثارت العلاقة بين قضايا جزئية متفرقة في الواقع من جهة والسبيل إلى تجاوزها لخلق واقع بديل من جهة أخرى> 25 فارتباط منهجية العمل يكون بتوجه الفكرة لا بمضمونها؛ أي منطق التوزيع الموضوعي والتسلسل المنهجي لطروحاته، الموصلة جميعا للهدف الأسمى، والغاية المثلى، والتي تشكلها ثلاث قضايا فرعية: قضية المنهج العقلي أي المعرفة العقلية، والقضية السياسية في أبعادها الداخلية والخارجية، وقضية الأخلاق في بعدها الجماعي والفردي. 26
هذه القضايا ملتحمة تصوغ محوره ومقامه الأساس، الذي يمكن لكل متلق تصوره وتسميته؛ اعتمادا على مدى تفاعله مع أفكاره وقضاياه. فكتاب بهذا الطرح ينبني على مستويات مقامية متعددة، ولدلا من تسييجه بمسمى واحد أولي ونهائي قد يعوق انفتاحنا على ما هو أعمق، أو أكثر تعددا، نتعامل بمنطق التحليل ومن ثم التركيب؛ لنستوفي في استجما عنا لشتات التسمية، كل أجزاء الطرح للوصول إلى قاعدته الأساس متكاملة. وسنختزل المقام بوصفه ألية حوارية لتوصيلية التمثيل في الكتاب في نقطتين:

 

  • أ- البنية المؤطرة.
  • ب- قرائن المعجم.

 

ولا بأس أن نتعرف في البداية على مفهوم المقام بشكل يبين لنا وبوضوح أكثر العلاقات المنهجية والبنى التكوينية للنص بالمضمون الذي جاءت لتستوفيه:
 
 
[/emaillocker]