وتصنيفه مبني على أسس لسانية داخلية ومع أن النصوص التفاعلية – الحوارية، وكذا النظرية هي الأكثر احتضانا للحجاج، فإن أشكال النصوص الأخرى لا تخلو تماما من خصائص حجاجية، وبالمثل، فإن النصوص الحجاجية بدورها لا للعدم فيها كلية بعض عناصر الإخبار أو السرد. ..11. وقد وجد “سعيد يقطين ” تخريجا منهجيا لسردية الخبر في “كليلة ودمنة ” حينما صنفه ضمن كتب “الأخبار التخييلية” اعتمادا على تمثل “ابن النديم ” في “الفهرست” بالخرافات على ألسنة الطير والبهائم في نموذجها الأشهر لدى “ابن المقفع” 12 فهما بنيتان متلاحمتان في هذه النصوص يصعب فصلهما، لذا سنبحث عن ملامح كل منهما منفردة، وفي علاقتها مع البنية الأخرى.
أ- الإخبار:
يمثل الخبر جنسا عاما تندرج تحته كل الأنواع الأخرى ذات الصيغة الإخبارية، إلا أن تداول المفهوم ضمن الثقافة العربية القديمة، وارتباطه بمصنفات بعينها جعله يفقد هذه الدلالة الشمولية كجنس عام، ليتخصص بعض الشيء، ويشتغل في تواز نسبي مع مفاهيم ترادفه،
وهي: القصة، الحكاية، السيرة، ومن ثم فقد مبدأ الثبات الكلي الذي يمكن أن تمنحه له الصيغة الإخبارية، ليحل محله مفهوم أخر شمل هذه المفاهيم جميعا، ويمكن أن يرقى إلى مفهوم “صيغي” عام وهو “القص”، حيث أصبح يتضمن كل فعل إخباري، سواء كان حكائيا أو سيريا أو غير ذلك، وتحت مفهوم “القص”، يقع “الخبر” كمفهوم يحيل على الوحدات القصصية البسيطة. ..، والسرد بالمقابل هو معنى عام جامع، يمكن أن يتضمن كل كلام ذي طبيعة إخبارية:
فالخبر إذن هو “نوع” ثابت، ونواة مركزية في كل عمل سردي، وتطوره يجعله يتحول من شكله البسيط إلى شكل مركب أكثر تعقيدا وتفصيلا يفقده نسبيا خصوصياته النوعية، ويدفعه بالضرورة إلى الاندماج في نوع أخر قد يكون “قصة” أو “حكاية” 13
< والإخبارية فاعلية تمنح المثل أهميته وصداه، فعندما يكون القصد من الخبر توصيل المعرفة، وجفل المتلقي يدرك أشياء جديدة عن طريق إعمال الفكر والتأمل نكون أمام “الإخبار” و”التعرف” على الأشياء والتفكير فيها، على نحو ما نجد في قصص الأذكياء والأنبياء، والأمثولات بلسان الحيوان، أو ما يسمى بالقصص الرمزي سواء كانت
موضوعات هذه القصص دينية أو سياسية أو تاريخية >14.
تتشكل نصوص الأمثال بما تنجزه من (إخبار) يضئ مساحة حكائية محددة ولما للطوي عليه من تفسير واستشهاد تغدو معها مجتمعة وحدات ثقافية صغرى ترتبط على نحو مباشر بحركة السياق الثقافي، وتوجه عناصرها توجيها يستجيب لإيعاز التأليف ويعمل على تحقيق أهدافه وهو يقدم، في كل مرة، مكونا بنيويا من مكونات النصوص ويؤخر أخر. إن تمثيلية كتاب “كليلة ودمنة” انبنت وفق العناصر التي اقترحها “طه عبد الرحمن ” مكونات لمفهوم التوصيل”، فهي قصص امتزجت فيها الأخبار بالأمثال؛ وذلك لحجية المثل ودلالته على صحة الخبر في ذهن المتلقي. وهذه الإخبارية التمثيلية شكلتها:
أ- كليلة ودمنة : القصة الإطار (المختلقة):
والتي افتعلها “ابن المقفع ” لتمرير نصائحه وحكمه السلطانية في طابع قصصي إخباري، وأطرافها: الحكيم بيدبا (المخبر)، الملك دبشليم (المخبر)، تقديم النصح في تدبير الملك وسياسة الرعية (الخبر)، قصة وضع الكتاب (المخبر عبره ).
ب- كليلة ودمنة : القصص الفرعية
وجاءت في شكل أبواب مختلفة ومتصلة في الوقت نفسه؛ وكل باب يضم مجموعة من الأمثال الإخبارية المتسلسلة، ونستطيع التمثيل لها بالنموذج الاتي:
< وإنما حلية الملوك وزينتهم قرابتهم إذا كثروا وصلحوا. وإنك أرلت أن لا يدبر أمر الأسد كرك وإنما السلطان بأصحابه كالبحر بأمواجه. والخرق التماس الرجل الإخوان بغير وفاء والأخذ بالرياء ومودة النساء بالغلظة ونفع الناس لضر نفسه والعلم والفضل بالدعة والحفظ. ولكن ما نفع هذه المقالة وما حذ هذه العظة وأنا أعم أن الأمر في ذلك كما قال الرجل لطائر: لا تعللي تقويم ما لا يستقيم ولا تأديب ما لا يرعوي.
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
* مثل القرود والطائر والرجل*
قال كليلة: زعموا أن جماعة من القرود كانوا في جبل من الجبال فأبصروا ذات ليلة يراعة تطير فظنوا أنها شرارة فجمعوا عليها فوضعوه عيها ثم أقللوا ينفخون. وكان قريب منهم شجرة فيها طائر فجعل يناديهم: أن الذي أريتم ليس بنار. فأبوا أن يسمعوا منه فنزل إليهم ليعلمهم. فمر عليه رجل فقال: أيها الطائر لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم ولا تأديب ما لا يتأدب فإنه من عالج ما لا يستقيم بالمعالجة ندم. فإن الحجر الذي لا ينقطع لا تجرب عيه السيوف. والعود الذي لا ينحني لا يعالج انحناؤة ومن عالج ما لا يستقيم ندم. فأبى ذلك الطائر أن يسمع من ذلك الرجل وينتفع بشيء من قوله حتى دنا من القردة ليفهمهم أمر اليراعة أنها ليست لنار. فتناوله بعض القردة
فقطع رأسه.
فهذا مثلك في قلة انتفاعك بالأدب والموعظة. وانك يا دمنة قد غلب عليك الخب والعجز. والخب والعجز خلتا سوء. والخب أشدهما عاقبة. فأشبهها أمرا بالخب شريك المغفل.
قال دمنة: وكيف كان ذلك ؟ .. ! >.15
انطلاقا من هذا المثل؛ نجد أن عناصر الإخبار: الخبر، المخبر، المخبر إليه، المخبر عبره، تتلخص في:
الخبر: لا تطلب تقويم ما لا يستقيم ولا تأديب ما لا يرعوى.
المخبر: كليلة.
المخبر إليه: دمنة.
المخبر عبره: مثل في صورة قصة متكاملة العناصر، وهي هنا حجة مصدقة للخبر. وهذه العناصر المتوفرة في المثل لها قدرة عالية على خلق تواصل خلاق ومنتج بين الباث والمتلقي؛ لأنه يحدث المتعة أولا والإقناع ثانيا، فضلا عن تحريكه لذاكرة المتلقي وخياله ليستحضر القصة المفترضة للمثل ولكن بطريقته الخاصة. ولأن كتاب “كليلة ودمنة ” من كتب النصح السياسي؛
فإننا نجد طبيعة هذا النصح تتخذ مقصديات
شتى تختلف أشكال تمظهرها، وهنا تواجدت المقصدية الإخبارية في شكل أمثال لم يجد القدماء حرجا من توظيفها في السياسة بغرض النقد والتوجيه دون استعمال للكلام الجارح: < وقالوا: ينبغي لمن صحي السلطان أن لا يكتم عنه نصيحة وإن استثقلها، وليكن كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك، ولكن
يضرب له الأمثال ويخبره بغيب غيره ليعرف عيب نفسه>.16
وقد اغبر “ابن وهب” الأمثال وسيلة من وسائل الإبانة والتعبير، حيث يقول: <.. وأما الأمثال والقصص فإن الحكماء والعلماء والأدباء لم يزالوا يضربون الأمثال، ويبينون للناس تصرف الأحوال بالنظائر والأشباه والأشكال ويرون هذا النوع من القول أنجح مطلبا، وأقرب مذهبا،
ولنلك قال الله عز وجل ولقد صرفنا للناس في هذا القران من كل مثل… وإنما فعلت العلماء نلك لأن الخبر في نفسه إذا كان ممكنا فهو يحتاج إلى ما يدل على صحته والمثل مقرون بالحجة، ولنلك جعلت القدماء أكثر آدابها وما دونته من عومها بالأمثال والقصص عن الأمم، ونطقت ببعضه على ألسنة الطير والوحش، وإنما أرادوا بذلك أن يجعلوا الأخبار مقرونة بذكر !اقبها، والمقدمات مضمونة إلى نتائجها…>17؛ وهو في هذا القول يربط الأمثال بالقصص؛ وغايتها عنده إبراز النظائر والأشباه، واعتبار المستمع من ذلك، وفي هذا الربط إحالة على البنية الثانية المكملة لبنية الإخبار، وهي بنية السرد.
[/emaillocker]