[emaillocker id=2180]
ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول صلى الله عليه الصلاة وسلم وكلام الأنبياء والحكماء ويقول الشيخ محمد رشيد رضا (ت 1935 م): < وذلك أن المعاني الكلية تعرض للذهن مجملة مبهمة، فيصعب عليه أن يحيط بها، وينفذ فيها فيستخرج سرها، والمثل هو الذي يفصل اجمالها، ويوضح إبهامها، فهو ميزان البلاغة وقسطاسها، ومشكاة الهداية ونبراسها >4.
و الفاعلية الإقناعية للمثل لفتت انتباه دارسي النص القرآني والبلاغيين العرب بالممارسة والمثاقفة جاء في “البرهان في وجوه البيان ” لـــــ:” أبي الحسين بن إبراهيم بن وهب”: < وأما الأمثال فإن الحكماء والعلماء و(كباء لم يزالوا يضربون ويبينون للناس تصرف الأحوال بالنظائر والأشكال، ويرون هذا النوع من القول أنجع مطلبا، وأقرب مذهبا. ولذلك قال الله عز وجل: (وسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ) (إبراهيم: 45).
وكذلك جعلت القدماء أكثر آدابها ما دونته من عومها بالأمثال والقصص الأمم ونطقت ببعضه على ألسن الطير والوحش، وإنما أرادوا بذلك أن يجعلوا الأخبار مقرونة بذكر عواقبها، والمقدمات مضمونة إلى نتائجها >. والى ذلك ذهب “الزركشي”، فالمثل في تقديره: < يستعمل لإخراج ما لا يعلم ببديهة العقل إلى ما يعلم بالبديهة، وما لم تجربه العادة، وما لا قوة له من الصفة إلى ما له قوة >. وهو عند “الراغب”: < قول في شيء يشبه قولا في شيء أخر لينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره >. ويرى ” الرازي “: < أن المثل يؤثر في النفس مثل تأثير الدليل. ..> 5.
هذه المفاهيم المسبقة للتمثيل؛ باتفاقها عليه أسلوبا يجمع بين جمالية استعمال اللغة ممثلة في تنشيط الخطاب والوظيفة الإقناعية، لم تختلف عن المفاهيم الحديثة للبعد الحجاجي للشكل البلاغي، الذي يعذ كذلك كلما استطاع أن يولد تغيرا في المنظور، وكان استخدامه طبيعيا بالنسبة للموقف الجديد الموحى به. إذا كان نجاح هذا الشكل البلاغي متوقفا على مدى برهانيته وبالتالي إحداث الأثر المطلوب في المتلقي بتغيير
المنظور الأول، واستحداث المنظور الجديد، فإنه بالمقابل سينحصر في زاوية جمالية فحسب، عند فشله في إثارة تأييد لمتلقي، ولا تتجاوز جماليته الزينة أو الحيلة الأسلوبية. 6
أما التمثيل الحجاجي في الفلسفة، فهو طريقة حجاجية تعلو قيمتها على مفهوم المشابهة المستهلك، حيث لا يرتبط التمثيل بعلاقة المشابهة دائما، وإنما يرتبط بتشابه العلاقة بين أشياء ما كان لها أن تكون مترابطة أبدا، ومن ثمة اغبر عاملا أساسيا في عملية الإبداع يستعمل في الحجاج (فهو قريب من الحجاج المقارني) دون أن تكون له
علاقة بالمنطق الصوري، حيث لا يطرح معادلة صورية خالصة، ولكنه ينطلق من التجربة بهدف إفهام الفكرة، أو العمل على أن تكون الفكرة مقبولة، وذلك بنقلها من مجال إلى مجال مغاير، جريا على مبدأ الاستعارة. .. وقلما كان العرب حين يسوقون خبرا أو قصة مثلا يكنون به عن معنى أو عبارة أو حكمة أو موعظة حسنة قلما يضعون النقط
على الحروف. 7
ويحدد “روبريو” مجموعة من الخصائص العامة للتمثيل يمكن إجمالها فيما يلي:
1. يرتكز التمثيل على استدعاء صور تحكي أحداثا من أجل نفل أفكار مرجعية ذات قيمة رمزية.
2. تقوم العلاقة فيه على مماثلة تتحقق بين عناصر أو بنيات تنتمي إلى مجالات مختلفة.
3. يتجه نحو مخيلة الإبداع ويتجاوز اللغة وحدود الواقع ويفهم عن طريق تحريك الذهن، مما يتطلب معالجة دينامية وإبداعية.
4. إن الأساس في التمثيل يكمن في العلاقة بين الموضوع والحامل (وجه الشبه phore) وتوتر العلاقة بينهما.
إن التمثيل بصفة عامة يعتبر منبعا للإبداع والأفكار الجديدة، وأصلا لكل الصور التخيلية، غير أنه قد يكون خاطئا، أو مرفوضا، أو غير مفهوم في الواقع، إذا خرج عن إطاره التداولي؛ إذ لا يمكن إقامة علاقة المشابهة انطلاقا من الخصائص العامة الملازمة، وإنما يتم ذلك عن طريق تفكيك الأجزاء الدقيقة لمكوني التمثيل (الموضوع والحامل phore)، واستعمال الخيط للربط بينهما، مثل المشابهة بين الطفل والبراءة. ..8
2- مستوياته:
تتمثل في استحضار مقاصد المتكلم وأفعال اللغة ولعدها التداولي والسياقي،. .. وهوما يعد حاضرا في الخطاب الحجاجي في بعده التداولي متعدد المستويات:
أ- مستوى أفعال اللغة: المتداولة في الحجاج، المتضمن للأفعال “العرضية” و”الحكمية” و” التمرسية” و”التكليفية”،…، التي صنفها “أوستن Austin ‘. وتكشفها استعمالات هذه الأفعال في المقامات التحاورية، وسيتم التطرق إليها في الفصل الخامس، عند التطرق إلى قرائن القول في “كليلة ودمنة “.
لط- مستوى السياق: الذي يضفي السمة الحجاجية على تخاطب ما بأدوات وتعابير وصيغ تجعله إما ضمنيا أو صريحا، < نجد تعابير إنجازيه موجهة إلى ربط قول ما، بباقي الخطاب، ولكل السياق المحيط. من هنا نعثر على “أجيب” و”أستنبط و”أعترض”.
وتأتي هذه التعابير لتربط القول بالأقوال السابقة، وأحيانا بالأقوال اللاحقة >9، وهناك:
ج- المستوى الحواري: تتنوع أداءات الحوارية – المباشرة وغير المباشرة – بتغاير العلاقات التخاطبية في الخطابات الحجاجية التداولية ما يتيح لها سلوك أوسع وأغنى سبل الاستدلال، وذلك باعتماد المحاور في بناء نصه على:
الصور الاستدلالية مجتمعة إلى مضامينها أوثق اجتماع.
أن يطوي الكثير من المقدمات والنتائج، ويفهم من قوله أمورا غير تلك التي نطق بها.
↔
يذكر دليلا صحيحا على قوله من غير أن يقصد التدليل به.
يسوق الدليل على قضية بديهية أو مشهورة هي في غنى عن دليل للتسليم بها. كل ذلك لأنه يأخذ بمقتضيات الحال من معارف مشتركة ومعتقدات موجهة ومطالب إخبارية وأغرض عملية. وكل سبيل استدلالي يكون هذا وصفه هو سبيل حجاجي، يقيد فيه المقام التراكيب، ويرجع فيه العمل على النظر. هذه المستويات الثلاثة تلخصها عمليا البنيتان: الإطارية والحوارية؛ بوصفهما مظهران قاعديان للتوصيل يقوم عليهما التمثيل الحجاجي في الكتاب باعتباره من الخطابات اللامباشرة التي تتكثف فيها الصيغ التداولية للتواصل.
3- البنية الإطارية لتوصيلية التمثيل الحجاجي في كتاب “كليلة ودمنة“
يجتمع مفهوم التوصيل مع مفهوم التواصل في شبكة العلاقات التي أقامها “طه عبد الرحمن ” بين مجموع المصطلحات المنحدرة من الجذر المشترك نفسه:
فالتواصل يضم في معناه: الوصل والإيصال والاتصال والتوصيل. يتعلق الوصل بالخبر، والإيصال يتعلق بالخبر والمخبر، والاتصال يضم الخبر والمخبر والمخبر إليه، بينما يضم التوصيل الخبر والمخبر والمخبر إليه والمخبر عبره؛ أي هو وصل وإيصال واتصال وتوصيل في الوقت ذاته. 10 إن التوصيل بهذا المفهوم الواسع؛ هو فعل اتصال ملح لا يكتفي بآلية واحدة للوصول، بل قد تتفرع أوجه تمظهره؛ فكانت في كتاب “كليلة ودمنة ” في مستويين:
1. مستوى إطاري، جاء في صيغة الإخبار والسرد.
2. ومستوى حواري، شكلته أليتا: التشخيص والمقام.
تقوم البنية الإطارية على صيغتي: الإخبار والسرد. فلقد اعتاد اللسانيون النظر إلى الخطاب اللفظي الحجاجي كخطاب يتوفر على خاصيات بنائية وبراغماتية تجعله مختلفا عن غيره من الخطابات: السردية، الحكائية، الإخبارية،. .. وهذه التصنيفات تقوم على أساس السمات الغالبة على كل خطاب متجسد في نص ما (بالمعنى العام للنص )، وليس بحدود فاصلة فصلا مطلقا بين أجناس الخطاب النصي، وهو ما نجده عند “ج. ب. برونكار Jean Paul Bronkart “، الذي حدد الخطاب في أنماط أربعة: النمط السردي، الحكائي، التفاعلي – الحواري، النظري،
[/emaillocker]