حجج حول كليلة ودمنة
العنوان : التمثيل الحجاجي في كتاب “كليلة ودمنة” لابن المقفع مقاربة تداولية
الكاتب : د/ هاجر مدقن
أ-كليلة ودمنة : مدخل
تعد الأمثال من التقنيات الحجاجية التي يسوقها مستعملوها للتدليل على صحة آرائهم وأفكارهم؛ بما للبني عليه من تصويرية ورمزية تعطيها طابع اللأمباشرة، هذا الطابع الذي يعزز بعدها الحجاجي ويعمقه، وهذا العمق ينكشف في المدونات المتلية الشهيرة؛ التي اعتمدت ألية التمثيل وسيلة للتعمية عن آرائها الصريحة. لكنها في الوقت نفسه رسالة واضحة وسافرة لكل من يحسن فلث شفرتها وقراءتها على وجهها الصحيح. وفي هذا الإطار، كان التمثيل الحجاجي في “كليلة ودمنة “، ألة “ابن المقفع” الحجاجية، والتقنية الأمثل التي صاغ فيها أفكاره، وعفى بها في الوقت نفسه عن الأساسي والخطير منها.
وتقنية التمثيل الحجاجي – في شكلها التوصيلي هذا – لا تقرأ إلا من خلال تفكيك أشكال تمظهرها في الكتاب، والتي من بينها: التمثيل الحجاجي التداولي. فكتاب “كليلة ودمنة” يصنف ضمن كتب الحكايات الملكية؛ التي تتخذ صيغة التمثيل طابعا لها. والتمثيل بوصفه ألية حجاجية تبناها “ابن المقفع” في توصيل مجموع حكمه وخبراته، أو-لنقل- وصاياه ونصائحه، جاء في صيغة توصيلية – تداولية مركبة
تشعبت إلى مستويين:
1. مستوى إطاري يعكسه المبنى (الإخباري – السردي)؛ باعتبار الإخبار والتوصيل مفهوما واحدا تنتهي إليه شبكة التواصل.
2. مستوى حواري؛ باعتبار الحوار خاصية تداولية للخطابات الحجاجية تعكس تفاعل ذواتها مع محيطها الخطابي.
وقبل هذا لابد من المرور على مفهوم التمثيل كما جاء لدى كثير من المختصين قديما وحديثا.
ب – كليلة ودمنة : التمثيل الحجاجي
1- مفهومه:
إن المقصود بالمثل هنا ليس المفهوم المتداول للأمثال، إذ ليس يعنينا كثيرا
الانسياق وراء التفاصيل التي تبعد بنا عن جوهر الموضوع، إن ما يعنينا هنا – تحديدا – هو ألية التمثيل التي اختارها “ابن المقفع” لصياغة أفكاره وتوصيلها حجاجيا بأبعاد تداولية. ولا بأس أن نسوق هنا تفريقا بلاغيا بين المثل والتمثيل:
[emaillocker id=2180]
. المثل قول موجز مشهور له مورد ومضرب يردد فيه، والتمثيل لا يشترط فيه الإيجاز ولا الشهرة، وليس له مضرب يذكر فيه وان كان له مورد.
. التشبيه في المثل يصدق على حالات كثيرة مشابهة، يحسن ترديده فيها، أما التمثيل فالتشبيه فيه مقصور على الحالة التي ورد فيها، أو الشأن فيه أن يكون كذلك.
. المثل عند ترديده يصبح استعارة تمثيلية أو مجازا مركبا دائما يستعار فيه المورد للمضرب، أما التمثيل فليس يلازم فيه أن يكون مجازا، بل يجوز فيه ذلك والكثير من صوره لا تخرج عن التشبيه الحقيقي (تشبيه تمثيلي) استعملت فيه الألفاظ في حقائقها اللغوية. 1
وقد فصل “عبد القاهر الجرجاني” في موقع التمثيل وأثره مفهوم التمثيل: < واعلم أن مما اتفق العقلاء عيه أن “التمثيل” إذا جاء في أغالط المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونطت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشي من نارها، وضاعف قواها في تحرك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، و(ستدار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا،…،
فأول ذلك وأظهره، أن انس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها لصريح بعد مكنى، وان تردها في الشى تعلمها إياه إلى شيء أخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم نحو أن تنطها عن القل إلى الإحساس وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع،
لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع وعى حد الضرورة، يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام،. ..، ومعلوم أن الأول أتى النفس أولا من طريق الحواس والطباع، ثم من جهة النظر والرؤية، فهو إذن أمس بها رحما، وأقوى لديها ذمما، وأقدم لها صحبة، واكد غدها حرمة،. .. >2. كما شرح مسكويه (421 ه) وظيفة التمثيل وضرب الأمثال في الكلام شرحا وافيا إذ قال فيما نقله عنه أبو حيان
التوحيدي (400 هـ): < إن الأمثال إنما تضرب فيما لا تدركه الحواس مما تدركه، والسلي في ذلك أنسنا بالحو(س، وإلفنا لها منذ أول كونها، ولأنها مبادئ عومنا، ومنها نرتقي إلى كرها، فإذا أخبر الإنسان لعا لا يدركه، أو حدث لعا لم يشاهده، وكان غريبا عنه، طلب له أمثالا من الحس، فإذا أعلي ذلك أنس به،
وسكن إليه لإلفه له. وقد يعرض في المحسوسات أيضا هذا العارض، أعني أن إنسانا لو حدث عن النعامة والزرافة والفيل والتمساح لعللي أن يصور له، ليقع لصره عيه، ويحصل تحت حسه البصري، ولا يقنع فيما طريقه حس البصر بحس السمع حتى يرده إليه بعينه. وهكذا الأمر في الموهومات، فإن إنسانا لو كلف أن يتوهم حيوانا لم يشاهد مثله لسأل عن مثله، وكلف مخبره أن يصوره له، مثل عنقاء مغرب، فإن هذا الحيوان، وإن لم يكن له وجود، فلا بد لمتوهمة أن يتوهمه لصورة مركبة من حيوانات قد شاهدها. فأما المقولات فلما كانت صورها العلف من أن تقع تحت الحس، وابعد من أن تمثل بمثال حسي إلا على جهة التقريب صارت أحرى أن تكون ضبة كر مألوفة، والنفس تسكن إلى مثل وإن لم يكن مثلا، لتأنس به من وحشة الغرسة، فإذا ألفتها، وقويت على تأملها بعين علها من كر مئال سهل حينئذ عيها تأمل أمثالها> 3.
وللعلماء في بلاغة المثل وأسبابها أقوال أخرى، نورد هنا بعضها، يقول ابن المقفع (ت 142 ه): < إذا جعل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق، وانق للسمع، وأوسع لشعوب الكلام >.
ويقول المبرد (ت 538 ه): < والكلام يجري على ضروب، فمنه ما يكون في الأصل لنفسه، ومنه ما يكنى عنه بغيره، ومنه ما يقع مثلا فيكون أبلغ في الوصف >. ويقول الزمخشري (ت 538 هـ)، في معرض الكلام عن المثل القرآني < لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف، وتتميما للبيان، ولضرب الأمثال، واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني، ورفع الأستار ش الحقائق، حتى يريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبي،
[/emaillocker]