الفكر الفلسفي المعاصر

حول: أسس الفكر المعاصر/مجاوزة الميتافيزيقا”

إدريس كثير- عز الدين الخطابي

ما مبرر وجدوى هذا الكتاب: “أسس الفكر الفلسفي المعاصر “مجاوزة الميتافيزيقا (1)؟ ما الداعي إلى البحث في أسس فكر يقدم لنا نفسه مؤرخا مؤسسا؟ في الوقت (الذي) تبدو فيه الحاجة ماسة إلى البحث في أصول فكرنا العربي وتراثنا الإسلامي؟ تلك هي إشكالية الكتاب العويصة والمنسية. فهل يكفي في مقاربة هذه الأخيرة الإشارة إلى ضرورة “التفتح على الآخر وإلى المطالبة بالمساهمة في العالمية والكونية” ودفع اللغة العربية إلى اقتحام أبواب الفكر المعاصر؟ أيمكن أن نلج “الكونية” بمقاس أجدادنا كما تصورنا كونيتهم؟ وما السبيل إلى التعامل مع “التقنية” وقد باتت سائدة ومميزة للفكر الكوني؟ باتت علامة “انقلاب أنطولوجي” طال الإنسان والطبيعة والوجود والحقيقة …. لكن من جهة أخرى ما أثر “التقنية” فينا وفي وعينا وتراثنا؟ إذا كانت “التخني” بما هي انكشاف وجزء من الشعرية أساس الوجود الأونطي، فهل هي كذلك بالنسبة إلينا وإلى ما لدينا من فكر وفلسفة؟ كيف يتحدد في هكذا عصر مفهوم الهوية والأصالة؟

مجاوزة أم مجاورة الميتافيزيقا:

فلسفيا إذا كان هيجل هو الهرم الفلسفي الذي اكتملت معه الميتافيزيقا، حتى دنت من سماء نفي ذاتها في المطلق الذي لا مطلق بعده في الفلسفة المعاصرة، ألا يمكن اعتبار أرسطو هو الصرح الفلسفي الذي انتصب في خيلاء الفلسفة الكلاسيكية، بما فيها أساسا للفلسفة العربية الإسلامية؟ كل ما جاء بعد هيجل، باستثناء الهيجلية الجديدة، كان رد فعل ضد الهيجلية، تبلور في شعار “من أجل الانفلات من قبضة هيجل. وكل ما جاء بعد أرسطو خصوصا على مستوى التراث العربي الإسلامي، باستثناء التوجهات الدينية والصوفية، كان رد فعل مشائي لصالح أرسطو تحت شعار “الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له” أو يندمج معه.

ألا يحق لنا الآن رفع شعار الانفلات من قبضة أرسطو.

تنوعت الاجتهادات والإبداعات الفلسفية في الانفلات من القبضة الهيجلية الصارمة، وهي ما يبسطها لنا الأستاذ عبد السلام بن عبد العالي في دقة دقيقة، فإن كانت الوضعية الكونتية نبذا للفلسفة، وكانت الوجودية أقرب إلى التمرد على شكل فلسفة هيجل، فإن ماركس صاحب الدعوة الأول لمجاوزة مثالية هيجل، إلا أن مجاوزته كانت سياسية وذات خلفية اقتصادية أو في أحسن الأحوال أيديولوجية. إن مهمة الفلسفة الحقيقية في نظر ماركس هي فضح الاستلاب، والانتباه إلى البعد العلمي أي البراكسيس “لمعرفة الحياة الاجتماعية، وللتخلص من أشكال الوعي الوهمية، إلا أن هذا التوجه لم يحقق تجاوز الميتافيزيقا، لأنه اعتمد ثنائية وصفت داخل الفكر الفلسفي بالتفرقة بين النظر والممارسة، تلك التفرقة التي ستتحول بدورها فيما بعد إلى عائق من عوائق تجاوز الميتافيزيقا، أي إلى إنتاج تأملي فلسفي انطلاقا من بساط عملي.

تجاوز الميتافيزيقا

هناك إذن ضرورة في تجاوز الميتافيزيقا، لكن هناك أيضا صعوبة في تلك المجاوزة.
نيتشه هو الذي سيدرك المدى العميق الذي يفصل الإنسان عن بدايته الميتافيزيقية، وسيقيس عمق الهوة التي يجب سبر أغوارها “بالرجوع إلى الوراء” وبإتمام حلقة الدوران لإنهاء السباق”. إن هذه العودة إلى الأصول أو الجينيالوجيا والتي ستأخذ اسم “الاستذكار” عند هايدجر و “التفكيك” عند ديريدا و”الحفريات” عند فوكو، هي الإيذان الأول والأصلي للانفلات من “قبضة هيجل” وبالتالي تجاوز الميتافيزيقا.
فما هي الجينياولوجيا وكيف باشرت رحلتها على صهوة “العود الأبدي؟

حين تصالحت الفلسفة مع تاريخها، حلت لحظات المطلق، فلا غرابة أن تبدأ الرحلة من التاريخ، وبالضبط بدراسة النشأة والتكوين، والبحث في الأنساب والأصول. إلا أن الأصل المقصود ليس نقطة بداية ثابتة ولا جوهرا ولا ماهية محفوظة إنما هو تبعثر شبيه بتشتت الأجزاء، والتفاصيل في إقامات متاهية، لا غاية لها ولا نهاية، الأصل حدث وفق زمن ما، لا يبدأ من نقطة ولا ينتهي إلى نقطة، إنما هو تفاصيل وأحداث فارقية تفاضلية، زمنها لا ينطلق من اتجاه معين وفق غاية منشودة بل هو “إعادة بناء مختلف المنظومات الفاعلة “طبق خطة منبوذة.

الجينيالوجيا تأويل مستمر، ينتج المعنى من اللامعني وعكسيا، باحثا عن قوة المعنى في تراتبها واختلافها، مفترضا تأويلات لا حصر لها لتفاصيل لا تعد، تفاصيل لغوية اشتقاقية لا تعرف إحالة الأصل و”الوقائع الخام”، تبحث في كيفيات لا في ماهيات. لا تعارض السؤال الماهوي بل تفارقه وتخالفه. لأن “الكيف” الذي يتلون هو ما يمنح الماهية “التي تتكون”. فليس هناك من باطن يجب استبطانه بل ظواهر يجب تظهيرها، ذلك “إن الوجود هوة وخواء”. وجود المظاهر هو الحياة والفعالية، تملأ لحظة تلو أخرى تعود رغم تشابهها، ذلك لأن العود الأبدي ليس تشابها إنما هو توالي للتشابه أي التكرار.

قراءة نيتشه 

استطاع نيتشه بمطرقته وأرجله (الكتابة بالأرجل) أن يقوض الأركان الثابتة للميتافيزيقا وأن يفتح الآفاق الممكنة للتفلسف. ففي ماذا يمكن أن يساعدنا نيتشه للانفلات من قيد أرسطو وبقايا الأرسطية في كتاباتنا الفلسفية؟

إن قراءة نيتشه ستكون مفيدة لنا لا محالة. لكن قراءة هايدجر لنيتشه وللنص الميتافيزيقي من جهة وكذا قراءة فوكو وديريدا من جهة أخرى ستكون أفيد. وهذا هو الاختبار الذي سار المؤلف على دربه أيضا. استهل حديثه عن هايدجر وقراءته للنص الفلسفي باستهلال عميق لكنه مشكل لعمقه. “ذلك أن التفكير في الوجود لا ينحصر في الميتافيزيقا إلا أنه لا يعني الانفلات منها، فهي أول مادة في فلسفة بيد أنها ليست المادة الأولى للفكر، لذا فهذا الأخير مرغم على تجاوزها (2) (وهو ما يعني أيضا التجاور معها).

منطلق هايدجر  في حقيقة الوجود 

منطلق هايدجر إذن هو التفكير في حقيقة الوجود وهذا تفكير لا يمكنه أن يتم مفاهيم الميتافيزيقا الأرسطية منها والهيجلية، لا بد له للقيام بذلك بنحت مفاهيم جديدة، تستند على بنية غالبا ما تنساها الميتافيزيقا، وهي بنية اللغة، لا باعتبارها كلاما وإنما باعتبارها مكانا أي سكنا، “فاللغة هي مأوى الوجود ومسكنه؟ (3). إن قصور الميتافيزيقا يستبان في نسيانها أو عدم قدرتها على ذرع ما يمنح للوجود وجوده. أتستطيع الميتافيزيقا أن تخترق حجاب الماوراء (ميتا) لتتجاوز الطبيعة (فزيس) أي تتجاوز ذاتها؟ يبدو أنها قد اكتفت طيلة تاريخها وطيه، بالموجود وما وراءه أي وجوده كأساس له ولم تقدر معنى أهمية النظر بعيدا. بل إنها لم تستطع بحكم مهامها وأدواتها ومجالها القيام بأكثر مما قامت به.

لذا “فالاستذكار” الذي يسترجع الميتافيزيقا من حيث هي فترة ضرورية من تاريخ الوجود هو الذي يسمح لنا بالتفكير في الكيفية التي يحدد عن طريقها الوجود حقيقة الموجود (4).

إنه استرجاع للذاكرة المتحكمة في الموجود أو بالأحرى لجزء منها، لأن الجزء يسبح في غياهب سديم لا حدود له. “فالاختلاف الأنطولوجي” لهذه الذاكرة هو موضوع الفلسفة وقد تجاوز فيها هيدجر جانبها الميتافيزيقي. أقصد عماءها الذي حجب عنها رؤية كل خارطة الوجود واللاوجود، ودفعها إلى التفكير في جزء (المفكر فيه) ونسيان الجزء الآخر (اللامفكر فيه). فكرت في الموجود وأغفلت الوجود. الإغفال لا بمعنى ثمة إمكانية للتدارك لأنها مستحيلة، ولا بمعنى من لم يعمل فيه الفكر بعد، لأنه بعد فوات الأوان لا يترك الإغفال إلا بمعنى ما ترك غفلا، محتجبا، يلفه خمار عدمي: يتركه سرا مبهما يقال ولا يقال، يدرك ولا يدرك “الوجود يعطي نفسه ويحجبها في آن (5).

 فهو ينسحب عندما ينكشف في الموجود. خاصية الوجود هاته في نظر هايدجر، لا تخرج من فكاك اللغة. فالانكشاف والاختلاف والنسيان والانسحاب … كلها مفاهيم فلسفية تمتح سرها من الاشتقاق اللغوي اليوناني (أليتيا، ديافرا… ) ومن ذاكرة النسيان، الذي يحفظ هذا السجل. وإذن يبدو أن اللغة هي ذلك المنعطف الذي لا يمكن للاستذكار الاستغناء عنه ما دام هذا الأخير غير مرتبط بإنسان بعينه، فهو استرجاع للوجود عبر اللغة التي تجعل من الإغريق مثلا حاضرا دوما، وفي البداية أصلا لا ينفك يتأصل وينداح أمامنا، أصل يتجاوز ذاته في عود أبدي.

قراءة فوكو للنص الميتافيزيقي

ج- تبدأ قراءة فوكو للنص الميتافيزيقي بما فيه نيتشه وهيدجر، بمفهوم “الإبستيمي” ذلك المفهوم الذي يعتبره المؤلف معبرا عن “الأرضية المعرفية المشتركة للنظم المعرفية وتاريخها. مفهوم يحدد مجموع العلائق المعرفية المشتركة لعصر ما، ويشكل خطاباتها وملفوظاتها، يرسم فضاءاتها وحدود تحركها. الحفر والتنقيب هو الأداة المنهجية التي تسمح بالوقوف على أسس الإبستيمي وقواعده أي على أرشيفه لفحصه كنصب أثري. الحفريات تسعى إلى تجاوز الاستمرارية والانسجام لإظهار الانشطارات وإكراهات اللغة أو لا وعي الخطاب.

باستعادة حوار نيتشه مع الميتافيزيقا باعتبارها لغة ومماثلة هيدجر للغة بالوجود، كانت اللغة شيئا غامضا، يشكل جزءا من العالم، يرمز كعلامات وآيات، يجب تأويلها لفهمها، وكان التشابه هو ما يحدد مجال التأويل إي إخراج الباطن من الظاهر. لم تعد اللغة مع فوكو بذلك العمق. لقد أضحت سطحا للاختلاف، ذات “عمق خارجي”: تجسده مادية الدال، ووحدة الخطاب. لا تعتبر الأركيولوجيا تأويلا إذا كان المقصود هو الكشف عن معنى باطين، وهي تأويل إذا كانت تميل إلى ستر معنى مكشوف “إن وحدة الخطاب لا مرئية ولا مختفية في آن واحد” (6) تستبدل الحفريات التاريخ التقليدي الخطي أو التطوري بالزمان الأركيولوجي:

الشرائحي والقطائعي والعلائقي، الذي يأخذ التناقضات في هذه الشبكة لاستثمارها وإنتاجها لا لنفيها وتجاوزها.

قراءة ديريدا للنصوص الفلسفية

د- لا تخلو قراءة ديريدا للنصوص الفلسفية من مفاهيم خاصة به ومن طريقة مخصوصة له، فهو يقرأ النصوص من الداخل، بالإقامة فيها، والبحث عن تحرجاتها الداخلية وتوتراتها، قصد تركها تفكك ذاتها بعد ملامسة قاعدتها ولعبتها، هذه هي استراتيجية التفكيك كما يقول المؤلف.

 جاك ديريدا مفهوم الاختلاف

من المفاهيم الأساسية في قاموس جاك ديريدا مفهوم الاختلاف (1) والأثر. وهما من المفاهيم الأضداد، يحملان الشيء ونقيضه في نفس الآن، رغم أن ضدية الاختلاف لم تكتمل إلا بتعديل خطي وكتابي في كلمة الاختلاف. إن مهمة هذه المفاهيم وفق استراتيجية التفكيك هي تقويض “الحضور” ومرادفاته كالذاتية والهوية … لأن الميتافيزيقا منذ نشأتها وهي تعني “الحضور” وتتلخص فيه، فالاختلاف يرج الهوية والأثر ويزحزح الحضور ويستبدل الأنا بالآخر، وبذا تتفكك ميتافيزيقا الحضور والامتلاء لتفسح المجال أمام أنطولوجيا الهامش بدل المركز والغياب بدل الحضور، وأمام تشتت النص بدل توحده وتماسكه.

يخلص المؤلف من رحلته الأولى هذه، عبر متاهات تاريخ الفلسفة الغربية إلى اكتشاف سبيلين مختلفين، الأول طريق أفلاطوني يبدأ من أصل أول، يتذكر دوما مساره وتطوره، يعيش في حاضر ممتلئ يبحث عن حقيقة ثابتة مطلقة لاغيا كل اختلاف ومغايرة، ناشدا الهوية والتطابق. أما الثاني فينكر الأصل والمنطلق، وينسى السير المستقيم والتطوري ويعد إدراجه دون أن يتراجع، يعيش الأثر والهامش باحثا عن المعنى من اللامعنى، مناديا بالاختلاف والمغايرة.

لكن هذا الوصف ينسينا إشكالية الكتاب العويصة، وينسينا بالتالي سؤالنا المزدوج والمنبثق من هذا إشكال: أهي مجاوزة أم مجاورة للميتافيزيقا؟ يبدو جليا أن كل النقاشات الفلسفية سواء تلك التي انطلقت من أفلاطون أو من هيجل … انطلقت من داخل الفلسفة وبهواجس فلسفية. كلها اعتبرت المجال الفلسفي والميتافيزيقي على الخصوص يتسع لكل المبادرات، وكل الاجتهادات، فلم تكن المجاوزة بالنسبة إليها تعني تغيير المكان والآفاق، وهدم الإطار لاستبداله بآخر. من هنا استمرت الميتافيزيقا رغم تشتتها في أسماء عدة: الأنطولوجيا، الجينيالوجيا، الأركيولوجيا لكنها بالإبقاء على نفسها كانت تتغير وتتجدر وتتبدل. في كل لحظة ومع كل فيلسوف (نيتشه، هايدجر، ديريدا …) كنا نكتشف إبداعات فلسفية جديدة متجاوزة لما جاوزته من فلسفات، مجددة أو مفككة لما عرفته من تصورات، مهمزها في كل ذلك نحت مفاهيم فلسفية جديدة وتأسيسها وبالتالي فتح آفاق لم يكن بالإمكان رصدها بالأدوات المفاهيمية القديمة. لذلك يمكن القول بأن تاريخ الفلسفة الغربية تاريخ متصالح مع ذاته ومتخاصم معها في آن واحد، يعيش التجاوز بجوار التجاور.

أما نحن، أولئك الذين لا تربطهم صلة التاريخ المشترك ولا اللغة المشتركة بالتقليد الأفلاطوني الهيجلي، اللهم صلة “ما هو متوفر للبشرية” فما موقعنا من هذا التاريخ؟

أهم محرك فيما يبدو لتاريخ الفلسفة الغربية، هو قدرتها على تمثل هذا التاريخ من كل جوانبه وقدرتها على التحكم في اللغة (اللغات) في كل جوانبها، وقدرتها على صناعة المفاهيم الملائمة لمتطلبات المرحلة.

كل ما سبق، كان محاولة للانفلات من “قبضة هيجل التاريخية” كما لاحظنا، وقد تحقق ذلك بصيغة المتعدد كما تمكن المؤلف من تبيانه. أما الجزء الثاني فهو محاولة “الانسلاخ من قبضة هيجل المنطقية والمفاهيمية. فما هو الاختلاف في مقابل الهوية والنسخة في مقابل النموذج والخطأ في مقابل الحقيقة …؟ جملة هذه المفاهيم واعتمالها هو التأسيس الفعلي “للانفلات من شباك هيجل المنطقي” فهل تم ذلك؟؟

الهوية و مفهوم الوحدة والذاتية.

الهوية هي مفهوم الوحدة والذاتية. وهي بالتالي إقصاء لكل اختلاف وتعدد أو مغايرة. سواء فهمنا الهوية بمعنى الماهية أو فهمناها بمعنى تركيب المتناقضات في الكلية. بهذا “فالفكر الذي يقوم على الكلية فكر يقضي على غيرية الآخر ويحتضنها (7).

انتبه الفكر الفلسفي المعاصر إلى أن الإبقاء على هذا الطريق لسير الهوية، سيبقى الفلسفة في بؤسها واعتلالها، لذا بادر فلاسفة الاختلاف بمختلف مناحيهم وتوجهاتهم إلى فتح الطرق المتعددة للتمييز بين المطابق والمماثل والهو عينه ونهجوا نهجا محايثا للجدل والتناقض بالتركيز على التكرار (دولوز) والمفارقة (بلانشو) والاختلاف (1) (ديريد) .. فهل هذا الانحراف في السير قضاء على الهوية؟ إنه في الواقع تجاوز لفهم معين للهوية لكنه إبقاء وإرساء لفهم آخر للهوية كمفعول لعمق الأنساق التي يحكمها “العود الأبدي” (8).

الماهية هي المعنى الحقيقي وما عداها وهم وظلال، كذب وخطأ … هكذا تكلم أفلاطون إلا أن ميزة دولوز حين تفكيره في تاريخ المفاهيم الفلسفية، هي اجتهاده في الوقوف عند تناسل للثنائيات الفلسفية غالبا ما كانت توضع في نسيان علامة: “الخ” … فهو يميز بين النموذج في علاقته بالنسخة وهذه الأخيرة وعلاقتها بالأيقونات والسيمولاكر. في هذه التراتبية المفاهيمية يعمل أفلاطون على التدرج من الأعلى إلى الأدنى … ومن الأصل إلى الظلال … من الناصع إلى الباهت وكل ما يوجد في أسفل سافلين فهو مقصي منبوذ. من هذا الإقصاء والإلغاء يبدأ دولوز، من العالم حين يتحول إلى استيهامات، والشبيه إلى اختلاف وتغدو الهوية هي التكرار والمفارقة هي القانون المنظم للبنيات وللوجود، وحين يغدو هذا الأخير عالما للمرايا “أي عالم أليس في بلاد العجائب”.

لن تتم مجاوزة الميتافيزيقا الذاتية (الكوجيطو) إلا بإخراج معرفة الذات من البساطة واليقين ومن التنظيم والتمثل إلى اللامعنى والتشتت وإلى اللامركز الذاتي واللاشعور فحينما تغدو اللغة هي التي تتكلم والمعنى يخرج من اللامعني، واللاشعور هو المتحكم في بنية الذات، حينها يسقط الكوجيطو” جريحا لا يدرك حقيقته “وتفتح آنذاك آفاق” القوى المطموسة و”غياهب النسيان” و”حقيقة الكذب” و”واقعية الخيال” فنسائل الحقيقة بمفارقاتها وتكرارها. اعتدنا أن نتشبث بالحق ولا شيء غير الحق، ومناهضة اللاحق بكل أشكاله، أو على الأقل، هكذا يجب أن نكون أو يجب أن نتهيب من “الهيبريس” أو قوة الخداع، ونتجنب الشيطان الرجيم الماكر.

وإن اعترفنا بالخطأ والقصور، والوهم والخداع، وجعلنا من النقائض جزءا من العقل فإن كل ذلك يتم خدمة للحقيقة وإقصاءا للخطأ، وحبا للصدق ونكرانا للكذب. هذا الميل مازال مرتبطا ومتصلا بالهوية والذاتية والتطابق … أي ما زال مقترنا بأسس الميتافيزيقا. أفلا يجوز مجاوزة الميتافيزيقا بقلب الاهتمام؟ ومعاكسة الأسبقيات؟ يجب إعادة النظر في مفهوم الحقيقة نفسه، واستكشاف ما تم نسيانه بصدد هذه الكلمة، باعتماد اللغة سواء في حرفيتها أو في أبعادها المنسية كما فعل هايدجر ونيتشه. أو كما فعل ديريدا مع مفهوم الكتابة. لم يكتف بإبراز أهمية هذا الجانب في إنتاج المعنى، وبإيلاء الأهمية للكتابة على القراءة وإقصاء الشفاهي لإعلاء الكتابي، إنما بين كيف أن الميتافيزيقا كنص تحتقر الكتابة وتدينها وفي نفس الآن تستغلها وتستعملها لحفظ المعنى ولإحضاره، كيف أنها هي الحضور الحاضر (الصوت) والكتابة هي الإرجاء والاختلاف أي الأثر، ومع ذلك تستعين بها الذاكرة الحية الوقادة وتلجأ إلى ما يلطخ سمعتها. ويغوص ديريدا عميقا في لجة الميتافيزيقا ليفكك ثنائياتها دون التمييز بين النص وكاتبه، بقراءة فعالة تنتج النص اللامكتوب الذي لا يكون مجال الكتابة إلا علامة عليه وعرضا من أعراضه (9).

“كتابة مقطعية تشخيصية “تنبذ الاستمرار” والحضور وتهاب الامتلاء”كتابة مترددة تقول الفكرة وتمحيها، تؤول الفكرة وتعيد تأويلها، باصطفاف النصوص الواحد تلو الآخر.

وعلى هدى سابقيه سار فوكو بحفره في جسد الميتافيزيقا ومفاهيمها، بل وأيضا بحشره لعدة مفاهيم جديدة كالجنون والسلطة والخطاب والجسد والإبستمي والإرادة. في دروب الفلسفة وتشعباتها، ناظرا إلى الميتافيزيقا من زوايا كانت منسية ومهمشة، مؤكدا أن “مجاوزة الميتافيزيقا إذن ليست هدما لكل حقيقة، وإنما هي وعي للفكر بأن كل تفكير ليس إلا مفعولا لتأويلاته، وأن تاريخ الحقيقة والمعنى هو تاريخ ما قيل حول الحقيقة وما أريد له أن يكون معني (10).

كل هذه الاجتهادات والإبداعات الفلسفية دبرتها “مكيدة الوجود” التي توضح لنا بأن مجاوزة الميتافيزيقا استراتيجية لا نهاية لها” (11).

الهوامش:

عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفكر الفلسفي المعاصر/ مجاوزة الميتافيزيقا، دار توبقال، ط الثانية، 2000.
نفسه، ص 39.
نفسه، ص 41.
نفسه، ص 42.
نفسه، ص 48.
نفسه، ص 72.
نفسه، ص 93.
نفسه، ص 97.
نفسه، ص 137.
نفسه، ص 151.
نفسه، ص 156.

About عبدالحميد كرم 180 Articles
الكاتب عبدالحميد كرم : مدير موقع صوت العقل الفلسفي خريج كلية الآداب قسم الفلسفة من جامعة المنوفية وخبير في انشاء و تهئية المواقع والمدونات لمحركات البحث