ما جدوى الفلسفة المعاصرة؟
الكاتب : لوك فيري
ترجمة. إسماعيل مجغيط- عبد العزيز عبقري- فاطمة آيت يوسي، نقلاً عن العدد 16 من مدارات فلسفية.

مقدمة 

لم تكن الفلسفة عند القدماء، في بدايتها “خطاباً” بل نمط عيش، لم تكن نسقاً للتفكير أو “نظرية” بل حكمة عملية، وجدت مثالها الأفضل في سقراط، ذلك الفيلسوف الذي لم يكتب شيئاً مثله في ذلك مثل بوذا والمسيح.

تبدو الفلسفة المعاصرة على النقيض تماماً من هذه النظرة للعالم، كفلسفة يغلب عليها الطابع “التقني” والتخصصي في حقول خاصة من العلم، (كالأبستمولوجيا وفلسفة القانون والأخلاق والسياسة واللغة وتاريخ الأفكار.. الخ). قد أصبحت مادة تدرس على المستوى المدرسي والجامعي كباقي المواد الأخرى، انطلاقاً من هنا يمكننا التساؤل: لماذا ولمن تصلح هذه الفلسفة؟ هل لتكوين وعي الشباب؟ إن ذلك سيكون شيئاً كبيراً إذا ما قورن بالالتزامات البيداغوجية التربوية أو بالمثال النموذجي، الذي يبعث فيها الحياة ويضخ فيها دماء جديدة. وذلك لأنها كانت تسمح لكل واحد بأن يتحكم في سير وجوده، وأن يقبل على حياة “طيبة” وناجحة. فهل ما يطرح علينا الآن، هو مغادرة هذا النموذج المثالي، الذي أمدتنا به الفلسفة في بدايتها، إلى غير رجعة؟ هل ما زال بوسعنا أن نعطي لهذا النموذج محتوى؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فما هو هذا المحتوى؟ إن مثل هذه الأسئلة وغيرها، هي ما أريد أن أتناوله هنا. لكن قبل القيام بذلك، هناك ملاحظة أساسية لابد منها:

منذ وقت قريب- أضحت الفلسفة “موضة”، كيف لا يتم الفرح والتلذذ بهذا الأمر؟ لكن بالرغم من ذلك، وخلف هذه الأسئلة “الاعتيادية” (لماذا هذا الافتنان بالفلسفة؟ ماذا يعني؟ وأي فراغ جاه ليملأ؟ أي رابط جاء ينسجه مع “أفول أو انحطاط السياسية” وتجدد ما هو ديني، وإعادة اكتشاف الحكمة الشرقية؟.. الخ)، وراء هذه الأسئلة، ينبغي التساؤل: ماذا نقصد بالضبط عندما نتحدث عن “الفلسفة”.

إن ما يزعجنا هنا ليس جمهور عريض يهتم بقضايا الفكر بل لأن هذا الاهتمام الذي يعبر عن التعاطف. يستند غالباً على نوع من سوء الفهم مفاده: أن الفلسفة –وهذا ما أخشاه- ليست ما نعتقده. فإذا ما استثنينا ذلك الإحساس باللذة الذي يعترينا لشراء بعض الكتب. أو الذهاب إلى مقهى حيث نستمتع بدردشة حول موضوع السعادة والحرية، فإن لدى إحساساً قبلياً أن متعلمي الفلسفة المبتدئين سوف يصابون بخيبة أمل: فمن المستحيل قراءة سبينوزا، هيجل أو أفلاطون أو كانط، بدون تكوين فلسفي رصين، حيث من الوهم اعتبار أنه لن يستغرق هذا التكوين سنيناً عديدة. قد نعتبر، ربما، أن التبحر المعرفي غير ضروري، أي “أن يفكر كل واحد بنفسه خارج إطار الاحتواء الجامعي، هذا هو بدون شك الهدف النهائي، لكن من أجل بلوغ هذا الهدف، ينبغي التوفر على قدر كاف من التواضع للتفكير في بادئ الأمر من خلال ومع الآخرين، كضريبة “لاكتشاف قارة أمريكا” (كما يقال). ويبدو لي أنه بالرغم من الخطو البطيء في اتجاه هذا الهدف، فلا يمكننا تعلم التفلسف بدون تعلم قليل بل الكثير من الفلسفة، وهذا ليس شيئاً يسيراً، ويتطلب الجهد والوقت. لا أريد هنا أن أحبط عزيمة ذوي النيات الحسنة، ولكن على العكس من ذلك، أقول لهم فقط وبكل بساطة أن ما ينطبق على الفلسفة، ينطبق على الآلة الموسيقية، فإذا تجاوزنا مرحلة الحماس الأول الذي يشدنا إليها، يأتي دور الصبر والتمرين الشاقين.

ومن أجل هذا أيضاً أرى أنه من الضروري أن نطلع من يتوسمون في أنفسهم حب المغامرة، أنه بإمكانهم أن يجدوا ما يأملونه. حتى في حقل الفلسفة.

هل نحتاج من جديد إلى حد أدنى من التفاهم حول دلالة كلمة “المادة” discipline التي يبدو لي أن تعريفها لا يفهم بانسياب من تلقاء ذاته.

ما هي الفلسفة فعلياً؟ السؤال يبدو مثيراً: فكم من فلاسفة كبار حاولوا الإجابة عنه، لدرجة أننا لن نستطيع أن نتخلص من الإحساس أن المهمة اليوم تبدو بدون جدوى، بل عبثية أكثر مما قد يظهر.

لقد قضيت أكثر من عشرين سنة من البحث لاستشفاف جواب معقول ومستساغ بالنسبة لهذا السؤال- مستساغ على الأقل بالنسبة لرؤيتي الخاصة- حيث لم أنثن طوال هذه السنين عن تعليم المذاهب الكبرى القديمة، دون ادخار أدنى جهد، وأروم هنا أن أعرض لعصارة ما انتهت إليه في صفحات. وأنا مدرك أني قد أسقط عرضة للاختزال، لذلك فأنا أتوخى نباهة القارئ.

تختزل الفلسفة سواء داخل الفضاء العمومي أو في أماكن التدريس، في غالب الأحيان، في خاصيتين أساسيين: فهي من جهة تاريخ الأفكار، ومن جهة أخرى هي تمرين على التفكير الشخصي، وقد نضيف لهما هذه الحالة المستحقة وهي حالة “الالتزام”. المتمثلة في ميزة السخط الأخلاقي، الذي يسمح بالتدخل من حين لآخر في شؤون العالم بغية “سحق ما هو دنيء”. ومن هنا اعترف وعلى الفور أنه لم يظهر لي من بعيد أن أي تعريف من هذه التعاريف، استطاع أن يلم إلماماً شاملاً بما هو مهم في الفلسفة –رغم أن الفلسفة تساهم في هذه المكونات الثلاثة- فتاريخ الفلسفة بكل تأكيد شيء له مشروعيته، لأنه مناسب للتعليم. ولكن ماذا ندرس، حقيقة، إن لم يكن الفلاسفة سوى مؤرخين أو أساتذة؟ أما فيما يتعلق بالتأمل فنحن ندعي إرادياً أنه هو الشيء الذي يميز الفلسفة عن العلوم الوضعية- هاته الأخيرة تبقى مهمتها محددة بمعرفة العالم، أما في الفكر فهو يعني الفلسفة- لكن الفيلسوف بدوره يتطلع إلى “التفكير فيما يوجد” (هيجل) والعالم كذلك لا ينفك يفكر مثله مثل الإنسان العادي، في اللحظة التي يتساءل فيها حول مسار حياته. لكن لا العالم ولا الإنسان العادي. هو فلاسفة بالمعنى الدقيق للكلمة. بل إن المثقف نفسه لا يشذ عن هذه القاعدة. اللهم تلك الخاصية –خاصية الالتزام- التي تمنحه صورة متميزة نوعاً ما. قد أستطيع أن أكون كاتباً، فناناً، مؤرخاً، عالماً أو صحفياً، أتناول بالنقاش، قضايا سياسية كالجمهورية الإسبانية، قضية فيتنام، أو الجزائر أو البوسنة، لكنني لست في حاجة لأكون أرسطو جديداً من أجل ذلك.

إذا كنا نريد أن نفهم ما هي الفلسفة اليوم، أو أن ندرك أكثر من ذلك لأي شيء يمكن بالفعل أن “تصلح”، فمن الضروري الوعي بما كانت تمثله من أهمية بالنسبة للغرب الحديث، على الأقل حتى وقت قريب: إنها محاولة عظيمة جداً للعلمنة الدينية، لدى اليقين التام أن التموقع اللازم اليوم يجب أن يكون إزاء هذه المحاولة –لا يهم أن نكون ضدها، أو معها، أو على هامشها، هذا لا يهم بشكل عميق في بداية الأمر.

I- الفلسفة المعاصرة كعلمنة للمسيحية:

لم تكتف الفلسفة الحديثة، منذ القرن السابع عشر ومنذ ديكارت Descartes عن المضي في اتجاه علمنة مزدوجة على المستوى الأخلاقي من جهة، والميتافيزيقي من جهة أخرى. ففي المستوى الأول كان المقصود هو إعادة تشكيل القيم المسيحية للتناسب مع الفكر العلماني، بل الفكر الإلحادي أو اللإداري. وفي المستوى الثاني، كان المقصود هو إعادة الخوض مجدداً وبطراوة في مسألة الإيمان في مستواها العام أو مستوى العلاقات بين الإنسان (ككائن متناه وجاهل وفان) وبين المطلق (كإله، كائن لا متناه، عالم بكل شيء وخالد. وقد مثل قمة هذه الحركة- حركة العلمنة- رمزان كبيران هما: كانط وهيجل.

1- علمنة الدين على المستوى الأخلاقي:

يمكن أن نقرأ الإعلان عن حقوق الإنسان على أنه علمنة للقيم المسيحية، حيث نجد فيه، على الخصوص، تعبيراً عن فكرة أن الإنسانية واحدة، وأيضاً بالتأكيد وبأشكال مختلفة، عن الكرامة الشخصية لكل كائن إنساني، بحيث نجد أن كلمتي “الحقوق” و”الفرد” غطت على تعبيرات من قبيل “المقدس” و”الروح”. وهو ما يشير بشكل جديد إلى عظم هذه التحولات، وفي نفس الوقت يشير إلى واقع الاستمرارية. واليوم ينعم المؤمنون وغير المؤمنين سواسية، بما حققه لهم هذا الإعلان العظيم عن حقوق الإنسان.فكل واحد يقرؤه بطريقة مختلفة: فهناك من يرى أن هذه الحقوق منبعثة من الله، وبالتالي اعتبروه المنبع الأقصى لها. وآخرون رأوا أنها صادرة عن الإنسان وتستجيب بشكل مناسب لمتطلباته. فبأي معنى تكون النزعة الإنسانية الحديثة وريثة الديانة المسيحية؟ وهل هذه الأخيرة سهلت قدومها كما يرى مارسيل غوشي (M arcel Gauchet)؟ أم النزعة الإنسانية قد قامت على أنقاض الديانة المسيحية كما يرى بيير مان P. manent.

نستطيع هنا أن نترك النقاش مفتوحاً، دون أن تغض الطرف عن النتيجة الأساسية: وهي أن عقلنة القيم قد حدثت فعلاً وبشكل جيد في الفلسفة بالضبط.

إن الأخلاق الكانطية بكل تأكيد تسلم بوجود الله، ولكنها لم تكن في حاجة إلى هذه المسلمة كي تؤسس نسقها، فالكائن الإنساني وحده كاف لتأسيسها.

إن الفلسفة الحديثة هي التي قامت بإخراجنا من غياهب اللاهوت الأخلاقي (théologico- Ethique) فمع هذه الفلسفة ومع فلسفة الأنوار، بشكل عام، كف العقل عن الاستناد على الدين، بل العكس هو الذي حدث، من خلال ثورة في الفكر مماثلة لتلك التي حدثت في السياسة، وإذا كانت بعض الإلزامات “الروحية” أو الدينية لا زالت مستمرة، فهذا انطلاقاً من الأخلاق، فالله كما يقول كانط ليس سوى موضوع “للإيمان العلمي”، يجب افتراض وجوده لأسباب أخلاقية، وليس العكس.

من هنا يمكن القول، وكما هو الشأن مع فيخته، أن الله ليس شيئاً آخر سوى “المثال الأخلاقي للعالم”، فليست هناك سوى خطوة- بمجرد تجاوزها قد يتهم صاحبها بتهمة الإلحاد والزندقة الشنيعتين، التي كانت وما زالت تسجل حضورها داخل التشوش والبلبلة الملازمة لفترة 1798. لا يهمنا هنا ما هي تفاصيل هذه المسألة، بقدر ما يهمنا الاحتفاظ بشيء أساسي: وهو كون الفلسفة الحديثة، فيما يخص جانبها القانوني والأخلاقي، قد احتفظت في محتواها بالشيء المهم داخل الخطاب المسيحي. فلا وجود لقيمة أخلاقية جديدة في هذا الاتجاه، سواء في أيديولوجيا حقوق الإنسان أو في نقد العقل العملي (فهذان المكونان لم يشكلا سوى التأسيس الفلسفي). لكن على مستوى الشكل، فقد كانت الثورة التي استهدفتها الفلسفة، ثورة حاسمة إذ أنه انطلاقاً مما هو إنساني وجب التفكير في الخير والشر، فالإنسان أصبح هو المقدس، والمحترم، بما هو كذلك، ومتمتع –إن لم يكن بروح خالدة- فعلى الأقل بكرامة مطلقة إلى درجة أنه وانطلاقاً من صيغة الواجب الأخلاقي المطلقة المعروفة، لا يجب أبداً التعامل مع الإنسان فقط باعتباره “وسيلة” ولكن التعامل معه دائماً كـ”غاية” في ذاته.

فإذا كانت العلاقة مع المقدس، ومع المطلقة ما زالت قائمة، فإنها أيضاً مفصولة عن ما هو إلهي، أو على الأقل مختلفة عن صورها التقليدية. فالوحي المسيحي لم يعد هو الذي يؤسس ما هو أخلاقي، كما يريد البابا دائماً، ولكن حسب مشيئة “العقل العملي” نفسه، غير المنفصل –طبعاً- عن فرضية الحرية المطلقة للإنسان.

ومهما يكن فإن المهم في هذا الفكر الأخلاقي الحديث يكمن في كون هذه العقلانية هي عملية دهرنة في عمقها، تعد عملية استجلائها أو فهمها في تفاصيلها الجزئية مهمة شاقة. ولكن يمكن أن نجد لها مقابلاً جلياً في الثقافة السياسية المشتركة تلك التي وفرها لنا الإعلان الكبير عن حقوق الإنسان.

فكل واحد، على ما يبدو لي، يستطيع أن يفهم ويقبل أن هذا النص –نص الإعلان عن حقوق الإنسان- المؤسس للمثال الديمقراطي، الذي نتبناه جميعاً قابل لقراءتين مختلفتين بغض النظر عن مسألة كوننا مؤمنين أم غير مؤمنين.

إننا لازلنا لا نتقبل إلا بصعوبة كون التغيير لم يلحق فقط محتوى الرسالة المسيحية، بل إنه قد تم على مستوى الوضع التشريعي لهذه الرسالة (المؤسسة على الوحي الرباني أو على إرادة الإنسان وعقله).

هكذا يمكننا فهم الروابط التي تنسجها هذه المبادئ الأولية (حرية الرأي، احترام الآخر، الأمن حق الملكية… الخ) مع الأخلاق العامة المشتركة والقانون الحديث ذي الجوهر العلماني.

إن الفلسفة الأخلاقية، حتى في درجاتها الأكثر تجريداً (كما في “نقد العقل العملي” لكانط) لا زالت تحتفظ بعض الشيء بعلاقة مع بعض العناصر الملموسة في “ثقافتنا العامة”، ونستطيع أن نجد لها مقابلات حتى في الميادين الأيسر منالاً بالنسبة “لغي المختصين”.

2- علمنة على المستوى الميتافيزيقي:

إن الأمر يسير بشكل مختلف بالنسبة للشق الميتافيزيقي في الفلسفة الحديثة، فالسؤالان القانوني والأخلاقي يشكلان جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، إنهما يؤثران حتى في تربية الأطفال. ففي عمق هذا المستوى لا يتغير شيء من الإدراك الذي لدينا كيفما كانا، سواء كانا معلمنين أم لم يكونا. بالإضافة إلى ذلك فمسألة علاقة الله بالإنسان، أو علاقة المتناهي باللامتناهي أو علاقة النسبي بالمطلق، الفاني بالخالد، عوامل لا تتدخل بالضرورة، إنها متوازية داخل الحياة اليومية للجميع. فهنا الدين والميتافيزيقا –إن سمح بالقول- ليسا فقط متخلى عنهما، ولكنهما وحيدان بالمنزل، فكانط –الأخلاقي- ما زال قابلاً للقراءة من طرف غير “المتخصصين في حقل الفلسفة، بينما هيجل لم يعد كذلك. فعندما قام هيجل بعد شيلينغ بوضع تعريف للنسق الفلسفي باعتباره يحقق أخيراً “تطابق الهوية والاختلاف” قد قام بإعلان قضية، لم تكن تخفى عنه صعوبتها وغموضها بالنسبة للقراءة، أو إدراك الخيوط التي يمكن أن تربطها مع أي سؤال من أسئلة الشأن العام. لكن بالرغم من ذلك أرى أن كل من لم يتبين مضمون هذه العبارة وعلام تدل وماذا تخفى، لن يستطيع أبداً أن يفهم ما معنى الفلسفة الحديثة في الغرب.

يجب إذن محاولة فهم العبارة الغربية وإدراك في أي شيء تختزل أهم رهانات Enjeux الميتافيزيقا الحديثة. هاته الرهانات هي التي تستوجب من الفلسفة المعاصرة التموقع إزاءها. عندها يبدو لي، إنه من اللازم أن نمسك بالخيط الذي يمكن أن يقودنا إلى ذلك وهو الخيط الذي أمسك به الآن، أي معرفة أن الفلسفة الحديثة في عمقها ليست شيئاً آخر سوى مشروع عملاق للعقلانية وبالتالي العلمنة أي علمنة محتوى الديانة المسيحية (لأن العقل كان في مواجهة مع الوحي).

هيجل Hegel نفسه الذي طالما كان لاهوتياً قبل أن يصبح فيلسوفاً، لم ينثن أبداً عن المناداة بهذه العقلنة والعلمنة بأعلى صوته. هذا النداء الهيجلي أدخلته بعض التأويلات الماركسية في نوع من العتمة. يكفي للاقتناع بذلك قراءة وإعادة قراءة ما يعلنه هيجل بكل وضوح حول العلاقات بين ميادين حياة الروح l’esprit التي هي: الفن والدين والفلسفة.

3- الفن، الدين، الفلسفة: ثلاثة أنماط للتعبير عن الإلهي:

هذا هو الخطاب الثابت لهيجل بحذافيره: إن الميادين الثلاثة لحياة الروح: لها نفس الرسالة ونفس الغايات في معرفة التعبير عن الإلهي أي عن الحياة الروح المطلقة. فقط أشكال التعبير هي التي تختلف داخل كل حالة من هذه الحالات الثلاثة.

ولنبدأ بالفن، يقول هيجل: “إن مهمة الفن تقوم على تمثيل بالحدس المباشر في شكلها المحسوس. وليست في شكل تفكير أو روحانية خالصة”(1).

يتضح إذن أن الفن يترجم فكرة الله، أي الرباني بصفة عامة في البداية، ثم بعد ذلك الرباني ممثلاً في المسيحية في إحدى الفترات وكيفية فهمها للإله كعالم بكل شيء- وذلك في قالب محسوس. أي أنه مثله مثل الديانة يعبر عن حقيقة متعالية في شكل غيري ملائم لطبيعتها المتعالية بما أنه شكل محسوس والحال أن الله ليس شيئاً محسوساً، حتى يتم التعبير عنه بما هو محسوس إنه روحاني ومتعال. وبالتالي لا يمكن أبداً التعبير عنه جيداً من خلال الفن. وهذا هو السبب الذي يدعو إلى تجاوز الفن. يقول هيجل: “فكما أن الفن يجد ما قبله، في الطبيعة وفي مجالات الحياة، فإنه في نفس الوقت يجد ما بعده في الإطار الذي يتجاوز بدوره نمط فهمه وتمثيله للمطلق. ذلك أن الفن يحمل في ذاته حده. لهذا يلزمه أن ينحل في الأشكال العليا للوعي”(2).

هكذا سيتسلم الدين المشعل، ليذهب أبعد من الفن، ذلك أنه يعبر عن الإلهي في عنصر الوعي الذاتي والطوية Intériorité وليس في خارجية مادة محسوسة (لون، صوت، تمثال…) إنه كما يقول هيجل يحدثنا عن الإلهي بواسطة تمثلات وهكذا لجأ المسيح إلى صور واستعارات وأساطير… تخاطب الوعي الإنساني –إنجاز القول أفضل من الفن في التعبير الإلهي؛ لأنه يرفع من الجمالي المحسوس إلى الروح، لكن محتواه يظل من جهة هو هوومن جهة ثانية لا يرقي إلى المرتبة التعبيرية العليا. إن الفلسفة وحدها حقيقة تستطيع أن تضطلع بمهمة التفكير والتعبير عن الإلهي بشكل مناسب وحدها حقيقة تستطيع بشكل مناسب لطبيعته الروحانية داخل عنصر العقل لما هو محسوس أو أسطوري، وبالتالي داخل العقلانية الفلسفية.

من هنا نرى كيف أن هيجل قد عزا إلى الفلسفة نفس محتوى المسيحية مع فرق وحيد يتجلى في طريقة التعبير عن هذا المحتوى الذي يجب أن يصبح عقلانياً –وبذلك أصبحت لحظة الوعي سلفاً كما هو الشأن عند ليسينغ غير ذات جدوى ولأجل ذلك نستطيع القول أن هذه العقلنة بواسطة الفلسفة الحديثة تمثل أيضاً علمنة لمحتوى الدين.

4- انحلال الدين في الفلسفة:

لنعد إذا إلى ما جاء في هذه الأطروحة؛ فهي عندما تعتبر أن الفن ينتمي لمرحلة متطورة من التاريخ الإنساني، تجد كل دلالتها. عندما يطرح هيجل المسألة بكل هدوء: “إن الفن كان وسيظل (بالنسبة لنا) من ناحية وظيفته الأكثر سمواً، شيئاً من الماضي، أنه فقد بالنسبة لنا “حقيقته الأصلية” و”كف عن الحياة”(3).

هذا التأكيد يجب أن يفهم على مستويين متتاليين من العمق: فمن الواضح أن كلمة “بالنسبة لنا” تفهم بداية بمعنى تاريخ وتعني: “بالنسبة لنا نحن المعاصرين” الذين تخطينا عتبة الطفولة الإنسانية. وتعني كذلك نحن الفلاسفة المنتمين للثقافة المسيحية. الذين تمكنوا من استيعاب أن الأولوية ليست في حاجة إلى شكل محسوس وبالتالي ليست محتاجة للفن كي تمثل في الوعي، بما أنها روحانية خالصة، فمن السذاجة الحصول على رؤية جمالية انطلاقاً من فهم محسوس للمطلق.

لكن هذا التطور كما عبرت عنه، لم يكتمل إلا مع الفلسفة، لأنها الوحيدة التي ستتمكن من التفكير في الطوية l’intriorite بشكل جد مناسب لطبيعة ما هو إلهي بما هو روح، فمن أجل استنباط ما هو إلهي، لم يعد الدين على الأقل يتمثل الله كموضوع يوجد خارج الوعي. إن ذلك ملازم لبنية التمثل نفسها بما هي كذلك، هذا التمثل هو دائماً تمثل متأمل، فهو يبقى حتماً داخل الوعي المتناهي حيث يبقى كل موضوع بالنسبة له موضوعاً خارجياً. فكل وعي، كما سيقول هوسرل (Hussrel) في نفس المعنى، هو وعى بشيء متناه يتعارض معه كمعطى خارجي. لكن الله، في الحقيقة ليس شيئاً متناهياً وبالتالي فالوعي ليس هو الحيز الأكثر ملاءمة لفهمه.

والصوفيون قد فهموا الأمر جيداً، لذلك هم يقدمون الإيمان كـ”حلول في الذات الإلهية أو كتماه مع الله” وكنوع من الإلغاء للوعي، خدمة لتصالح المطلق مع الله، إن هذا التماهي هو ما يجب تحقيقه، لكن بالنسبة لهيجل ليس داخل عالم الصوفية، فالفلسفة النظرية فقط والفكر الخالص، وحدهما يتمكنان من إحداث هذه المصالحة بين موضوعية الفن وذاتية الدين؛ من أجل التعبير الموفق أخيراً عن الصفات الإلهية، ومصالحتنا معها، كيفما كانت صيغ وأشكال هذه المصالحة الصعبة. (من أجل البرهنة على إمكانية هذه المصالحة الصعبة، يتحتم اللجوء إلى فهم الطروحات الأكثر عمومية في هذا النسق الهيجلي بل النسق برمته –إذ سلمنا أننا نتمكن من الوصول إلى ذلك-) فما هو مهم هنا أن الميتافيزيقا في لحظتها العقلانية القصوى تحاول أن تحقق بواسطة الفكر، داخل المفهوم، ما لم يقترحه الدين علينا إلا بواسطة الإيمان، كما يرى هيجل، أي المصالحة أخيراً بين الله والإنسان وجمعها داخل نفس الوحدة الروحية. وبهذا يتم الجمع بين المتناهي واللامتناهي بين النسبي والمطلق. من هنا يظهر لنا أن النسق الفلسفي المكتمل قد يعرف كـ”تطابق الهوية، والاختلاف” بمعنى “هوية الله وهوية الإنسان” المتناهي واللامتناهي: فالعبارات هنا لها نفس الدلالات. فالله هو اللامتناهي، والكائن الذي يبقى مطابقاً لذاته بما أنه في نفس الوقت كامل وخارج عن الزمان، أي أنه أبدي.

الإنسان هو المتناهي بمعنى أنه هو الفرد المحدود ما دام أنه عرضة للجهل والخطيئة وأخيراً عرضة للموت، فهو أبعد ما يكون مطابقة لذاته، كما هو الشأن بالنسبة لله.

إن الإنسان خاضع للتغيير، وخاضع للزمن وبالتالي “خاضع للاختلاف” أو أكثر من ذلك خاضع للانفصام، كما يقول هيجل معبراً عن كون الكائن الإنساني لن يتصالح مع العالم ويحبه بشكل كامل، طالما أنه لم يتم تصالحه هو نفسه مع الله.

لقد اعتبرت الفلسفة المعاصرة، على الأقل في هذه الصورة الهيجلية، وكما عبر عن ذلك الفلاسفة اللاحقون على ماركس، هيدجر، كيركجارد نيتشه كشكل من الاكتمال الذي يدعي أو يحاول بواسطة العقل ملأ ما تعد الديانة شغله بواسطة الإيمان. وهذا هو الشيء الأساسي في نظري الذي يجب الانطلاق منه اليوم أيضاً بغية التفكير في وضعيتنا الحاضرة، المختلفة بكل تأكيد.

لنفترض صحة الوصف الكانطي والهيجلي للفلسفة، كعلمنة عملية (الجانب الأخلاقي) وعلمنة نظرية (الجانب الميتافيزيقي) –علمنة للدين- هذا سيسمح لنا بالمرور لفهم، لماذا تطورت الفلسفة في ألمانيا (بسبب البروتيستانتية، التي كانت في العمق عبارة عن “تحديث وعصرنة” للدين المسيحي وشكل من التخلي والإقصاء “لحجج الماضي”) ومن هنا سنفهم أيضاً لماذا أردات الفلسفة أن تأخذ شكل “نسق” (فلأجل منافسة الدين في سعيه للإجابة عن كل الأسئلة التي يمكن أن يطرحها الإنسان).

ولنفترض أيضاً وجود تطور مواز ل”فلسفة ضد الفلسفة” ريبية مادية، نحن هنا لا زلنا لم نبرح بعد مرحلة وصف ما كانت الفلسفة. فلا يزال هناك على الأقل سؤالان معلقان: ماذا حدث منذ إكمال النسق الهيجلي؟ ما الذي غيرته العلمنة المزدوجة، بالنسبة لنا جميعاً، وليس فقط بالنسبة للمحترفين في حقل الفلسفة اليوم؟

II- الفلسفة المعاصرة كإتمام للعلمنة:

لم يكف الفكر المعاصر من نيتشه إلى هيدجر. عن مواصلة العملية الإبداعية للعلمنة التي باشرتها المثالية الألمانية، وهناك ثلاثة موضوعات تشهد على بداهة ذلك:

هناك “التفكيك” بداية؛ فهيدجر وقبل “محطاتنا- البنيوية”(4) تحدث عن “Abbaudermetaphysique” وهي كلمة ألمانية تعني حرفياً: هدم “ميتافيزيقا” وقبله نجد عند نيتشه نفسه فكرة “التفلسف بواسطة المطرقة” وتحطيم “الأوثان”، أوثان الميتافيزيقا المعاصرة الموروثة عند الدين المسيحي.

وبصيغة أخرى: فإن عملية العلمنة الأولى التي مثلتها العقلانية الكانطية والهيجلية، كانت غير كافية بالنسبة لنيتشه، لأنها لا زالت تدور في فلك الدين. والدليل على ذلك كما أتينا على ذكره، هو أن محتوى هذه العلمنة ظل موسوماً بإرادة الوفاء للإرث المسيحي في حد ذاته- ومن أجل ذلك سيكون فكر نيتشه، فكراً نقدياً بلا هوادة للدين وللمثالية، وسيكون من المضني توضيح كيف أن هذا المشروع قد تواصل أيضاً من خلال الطموح الهيدجري –رغم الفترة الزمنية التي تفصل بين الاثنين- في تفكيك ما سماه بشكل جد معبر الأنطوتيولوجيا Ontothéologie أي الفلسفة التي لا زالت سجينة الخرائط الأساسية للديانات التقليدية.

ومن هنا الموضوعة الثانية المشتركة مع نيتشه وهيدجر، وهي مقولة “نهاية الفلسفة” كنسق دين جديد جاء لتأييد المقولة الثالثة: مقولة “موت الله”.

سوف لا أقوم بتحليل هذه المقولات أو الموضوعات هنا، فقط سأضيف شيئاً واحداً وهو أنه بهذا العمل، تكون الفلسفة المعاصرة قد وصلت إلى مفارقة، تستحق منا التفكير العميق بشأنها. إضافة إلى أنها قد أنهت مشروع الفلسفات الميتافيزيقية العقلانية الكبرى التي لم تقم بدحضها. فإذا كان الأمر يتعلق ب”تفكيك” أوهام الميتافيزيقا والدين أليس ذلك في الأخير من أجل تحرير الإنسان من أغلال الاستيلاب؟

بهذا المعنى وفي مقابل إحدى الأطروحات المركزية التي قمنا بتحليلها بمعية Alain Reneault في كتاب “فكر 68” لذلك أقول أنه لا زال اليوم إرث الأنوار يتردد صداه داخل تفكيك فلسفة الأنوار الذي طبع الفضاء الثقافي المعاصر. وبالتالي ففي هذا المستوى يمكن إلحاق تقليد “الفلسفة المضادة” بما هي ريبية ومادية بفلسفة التفكيك –كما هو الشأن مثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية، لدى فيلسوف مثل ريتشارد رورتي Richard Rortt الذي يحاول بدون كبير عناء التوفيق بين إرث النزعة الوضعية والظاهراتية.

ألا يجب القول أن كل هذا، يستحق التمييز والتحليل، أكثر مما أستطيع أن أقوم به هنا، خلف كل هذا، إلا أن الأهم بالنسبة لنا حالياً، يرجع في العمق إلى السؤال الأول: ماذا غيرت هذه العلمنة بالنسبة لوضعنا الثقافي والفكري؟ كيف أخذها بعين الاعتبار يسمح لنا باستشراف مستقبل الفلسفة. وكذلك أهميتها ومنفعتها لغير المختصين في حقل الفلسفة؟ وحتى أمضى إلى ما يبدو أنه يشكل الأهم، أرى أن هناك ثلاثة تحولات هامة حدثت: على مستوى خطاب المسيحية.

فبعد كل أشكال العقلنة والتفكيكات المختلفة التي طالته في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، أصبح هذا الخطاب المسيحي “مؤنسنا” بكل بساطة، إنها علمنة قصوى إن شئنا القول. ذلك أنه قد تجسد في الإنسان وبالتالي أصبح إلهاً. بل إن الأمر بالنسبة للمؤمنين لا يتعلق بمسألة الإيمان بالأب بقدر ما يتعلق بتجسيد أخلاق الابن (المسيح) في الأرض. فماذا يقول هذا الخطاب بشكل جوهري؟

أولاً: نشر المحبة بين الناس، حيث الشقاء والعزلة.

وبما أن المحبة شيء معطى، قد وجب تطهير الذات من أجل الوصول إلى حكمة في خدمة الآخرين.

اعترف أني لا أرى بوضوح كيف يمكن لنا تجاوز هذا الدرس اليوم، لكن الشيء الذي أنا متأكد منه، هو أن الالتزام الرهباني والدعوة لاعتزال الناس في سبيل الله، لم تعد لها قيمة إلا بما هي لحظة انكشاف ضرورية، معلقة ما بين ارتباطين دنيويين. في حين لم تعط الأديان التقليدية من شرعية في الدنيا إلا لمحبة الله، نعتقد نحن أن المحبة لن تكون إلا من خلال محبة الناس لبعضهم البعض.

نعم، لقد غادرت الدين بسبب رجال الدين عندما يتحدثون عن المحبة Agapé لا يقصدون أبداً محبة الناس لبعضهم البعض، تشهد على ذلك نبرتهم المجردة والغريغورية التي لا تشبهها اليوم في ذلك، سوى نبرة مضيفات الطائرات، لقد قتلوا بذرة الحياة في أنفسهم. ولم يعد لديهم ما يمنحونه للآخرين، ولقد تقوى الإحساس عندي على أن الفلسفة قد ساعدتني على تجاوز هذه النظرة الدينية التقليدية.

تحثنا هذه الأنسنة لما هو إلهي وهذا التأليه لما هو إنساني، على الاهتمام بهذه الصفات البشرية التي عودتنا المثالية الدينية لقرون عديدة على إقصائها، إن لم نقل على كبتها، وهذا ما يعلمنا إياه كل من التحليل النفسي، ومعه كل الثقافة المعاصرة اليوم.

إن معنى الحياة، هو ما قد تغير بعمق بفعل العلمنة الفلسفية للأديان، وهذا يصدق حتى بالنسبة لأولئك المؤمنين برسالة المسيح، فلم يعد الأمر يتعلق بالإيمان بالله واحتقار الدنيا، بل بالسمو عن الصغائر، وبلوغ النضج في الدنيا من أجل الغير.

يتهيأ لي في بعض الأحيان أنني لا ألتقي إلا بأشخاص همهم الوحيد من الناحية الفيزيقية وكذا النفسية، هو ألا يشيخوا، فبالنسبة لهؤلاء أن تعيش هو أن تحافظ على شبابك الدائم”. هذا الهم أصبح بالنسبة لهم غاية في ذاته، فتراهم يضاعفون من مجهوداتهم كلما تقدموا في السن، بإعادة تغيير شكلهم الخارجي بواسطة المساحيق والعمليات الجراحية التجميلية المتنوعة، والحال أن المجتمع بأكمله يدعونا إلى ذلك، لكن أن نعيش هو ببداهة أن نكبر ونشيخ، وهذا منذ اللحظة التي نخرج فيها من بطون أمهاتنا. فإلى يجدر بنا أن نستخلص النتائج من هذا الأمر، ونبدأ بالنتائج التي تقضي إدراك كل الدلالات المستخلصة من هذه الصيرورة الغريبة، التي تنفلت منا ولا تنفلت منها.

هذا الأمر يحيلنا إلى الدرس الأساسي للعملنة الفلسفية، والذي هو حجر الزاوية في “حكمة المحدثين”: بلوغ النضج هو شرط الإمكان الأقصى لتميز أصيل لوجودنا في هذه الحياة، أن نمر في هذه الحياة مرور الكرم، بل أن نجعل منها شيئاً ذا معنى، ذلك أن هذا التمييز نفسه هو شرط كل تفهم وكل محبة.

وهنا تكمن بدون أدنى شك إحدى الدلالات العميقة للمفهوم الكانطي حول “الفكر المتحرر” la pensée élgrgie، حيث يكون الشخص “الفرد Das Einszelne عبارة عن “تركيب يجمع بين ما هو “خصوصي وما هو كوني” وإذا ما تركنا للحظة معجم الفلسفة، من أجل تلمس المعنى العميق لذلك، فسنجد أن إضفاء تفرديه على الحياة Individualiser sa vie أو بعبارة أخرى، تحويل هذه الحياة الفردية إلى حياة فريدة من نوعها، ومعرفة كيفية المصالحة داخل كل ذات، بين السياقات الخصوصية وبين التطلعات الكونية، التي تربط فيما بيننا، أو نساهم بواسطتها في بناء صرح الإنسانية. هذا هو ما نجده في التحف الفنية حينما تكون عظيمة، فهي تخلق في زمان ومكان وفي ثقافة معينة بواسطة عبقرية مبدع، بحيث تمتزج هذه العناصر مع بعضها البعض لتشكل خصوصية ما، لكنها في نفس الوقت، تتحرر من حدود ما هو خصوصي، لتغدو قاسماً مشتركاً بين الناس في كل زمان وداخل كل ثقافة، فهي ليست خصوصية بكل بساطة، وفي نفس الوقت ليست فقط كونية مثلها مثل أي حقيقة عقلية، بل تصبح ذات صبغة فردية أصيلة. فإذا ما تساءلنا الآن لماذا نشيج؟ فالجواب سيكون هو: لنجعل من حياتنا، بعيداً عن كل “عمليات تجميل”، عملاً يشبه هذه التحفة الفنية- الشيء الذي نحن أبعد ما نكون عنه- لنعرف الآخرين جيداً فنحبهم أكثر، فالحب والمعرفة وجهان لعملة واحدة كما هو وارد في التوارة. إن التفرد، على العكس، مما يعتقد أولئك الذين يمرون في الدنيا مرور الكرام، هو توسيع للأفق، ضد كل انطواء نرجسي على الذات، هذا الجهد يجب أن نتشبث به، دون هوادة، وألا نحيد عنه.

صحيح، أن الشيخوخة ستصطدم بحدودها يوماً لتكشف لنا عن سلبياتها، إلا أن هذا لا يغير في الأمر شيئاً، بل إن هذا الأمر يدعو بالعكس، إلى إعداد العدة للشيخوخة وتدبيرها بدل الهروب منها.

الهوامش:
(1) دروس في الاستتيقا leçon d’esthétique surkamp I 103.

(2) نفس المرجع (141: 1).

(3) – (I, 25).

(4) يقصد التيار البنيوي الذي انتشر بين الفلاسفة الفرنسيين خلال السنوات الستيين.

[*] ترجمة. إسماعيل مجغيط- عبد العزيز عبقري- فاطمة آيت يوسي، نقلاً عن العدد 16 من مدارات فلسفية.