الثورة على فيزياء «نيوتن»
لا شك أن أحد الأحداث الهامة التي كانت ذات أثر واضح في نشأة اتجاهات ومذاهب الفلسفة المعاصرة الثورة على فيزياء «نيوتن» Isaac Newton. (1642- 1727)، أو الانقلاب على العلم الكلاسيكي الذي أرسى نيوتن مبادئه ووضع قوانينه. والذي تمت له السيطرة التامة على الفكر الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى أن جاءت نظرية “انشطين” في النسبية والتي مهدت لنظريات علمية لاحقة.
لقد كان العلم النيوتوني في نظر فلاسفة عصره يمثل الصورة الصحيحة للعالم، والتفسير الحقيقي والصحيح الوحيد لجميع الظواهر المادية. وقد ارتبط بأساس رياضي هو الهندسة الإقليدية التي تقوم على مصادرة أساسية هي الاستواء في المكان. ومن ثم ظهرت فكرة الزمان والمكان المطلقين مع الفصل بينهما. وكان أن انعكست هذه الأفكار على المذاهب الفلسفية وقتذاك، والتي كان لها حق القول بالآلية والحتمية.
لكن مع ظهور القرن العشرين حدثت ثورة علمية كبيرة على العلم الكلاسيكي، خاصة بظهور نظرية النسبية، والتي كان لها الفضل الكبير في تغيير عدة مفاهيم تشبعت برفض الزمان والمكان المطلقين، ومن ثم رفض الآلية وهو ما عبر عنه «مونييه» بقوله: «وهكذا نرى أن هناك نظريات علمية وجبت إعادة النظر التامة فيها، وهناك مفاهيم كلاسيكية تقليدية قد تغيرت» (14). وكان قبل تلك الفترة أن تحول التصور الميكانيكي إلى نموذج للتفسير فرض نفسه على كل العقول. فأصبحت مقاييسه ومعاييره هي المعايير الموجهة لكل بحث في الطبيعة.
التقدم العلمي والمادي الذي بلغته العلوم الطبيعية باعتمادها المنهج التجريبي :
ومن الأحداث الهامة التي يصعب غض النظر عنها، والتي كانت ذات أثر قوي في الفلسفة المعاصرة هو التقدم العلمي والمادي الذي بلغته العلوم الطبيعية باعتمادها المنهج التجريبي كطريق أمثل للبحث.
وبذلك أصبح المنهج التجريبي هو الأسلوب الأوحد الذي تحاول كل العلوم أن تتقيد به، ليس فقط على مستوى البحث العلمي، بل حتى على مستوى حياة الإنسان اليومية وسلوكه.
واعتماد المنهج التجريبي يقتضي أن يتحول كل العلوم إلى دراسة الظواهر المادية المحسوسة القابلة للتجريب. وعلى هذا صار الواقع المادي هو محور كل بحث، بل هو الحقيقة التي يتعين على المنهج العلمي كشفها وكشف قوانينها. بما في ذلك الظواهر النفسية الخاصة بالإنسان، حيث ظهرت آراء تنادي بضرورة تفسيرها بردها إلى جوانب مادية.
وهو ما سيثير رد فعل عنيف من طرف بعض الفلاسفة وأبرزهم “برغسون” محور بحثنا هذا. ويمكن اعتبار ذلك حدثا هاما في الفلسفة المعاصرة. أي ردود الأفعال التي قامت في وجه التقدم العلمي المادي، وعلى ظاهرة تشييء الإنسان (15).
ورفض فكرة النظر إلى الإنسان على ظاهرة طبيعية مادية. لأن حقيقته وجوهره طاقة حيوية متجددة، وعلى هذا ينبغي إبراز الجانب الروحي للإنسان في مقابل الجانب المادي الآلي. وكان هذا سببا في ظهور عدة فلسفات ذات توجه روحي.
وفي الأخير لا يمكن إهمال أفكار سيجموند فرويدSimund Freud S.Freud (1877 -1939)، وتحليله للعقل الإنساني كحدث بارز أثر بعمق، ليس فقط في الفلسفة وعلم النفس، بل في الأدب والفن والفكر الإنساني برمته. فاكتشاف فرويد للاشعور رفع اللثام عن كثير من الحقائق التي كانت تبدو للإنسان واضحة وصحيحة.
فليس الإنسان هو الكائن العاقل المفكر حسب ما درجت عليه النظريات العقلية حتى ديكارت، ذو الصورة الجميلة، بل هو الكائن الذي تمثل الدوافع العدوانية إحدى أهم مكوناته العقلية.
بل إن الأهواء الغريزية أقوى الاهتمامات العقلية على حد تعبير فرويد (16). وبذلك فتحت نظرية التحليل النفسي جانبا كبيرا وخصبا من حياة الإنسان النفسية، يأخذ فيها اللاشعور المكانة الأكثر تأثيرا على السلوك وتوجيها له، «فاللاشعور هو المنطقة الأوسع التي تضم بين جوانبها منطقة الشعور الأضيق نطاقا …. فاللاشعور هو الواقع النفسي الحقيقي وهو في طبيعته الباطنة مجهول منا، نجهله قدر جهلنا بحقيقة العالم الخارجي، كما أنه لا يمثل لنا بوساطة معطيات الشعور إلا مثولا ناقصا على نحو ما يمثل العالم الخارجي بوساطة رسائل أعضائنا الحسية (17).
مصادر :
14) رينيه مونييه. البحث عن الحقيقة. ترجمة هاشم الحبيسي، منشورات دار مكتبة الحياة لبنان، 1985. ص 39
15) الإشارة هنا إلى نظرة أوجست كونت إلى الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء
16) فرويد. قلق في الحضارة. ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة بيروت، ط4، 1996. ص73
17) فرويد. تفسير الأحلام. ترجمة مصطفي صفوان، مراجعة مصطفى زيور، دار المعارف، القاهرة. ص595-594
ش